الوعي بالحاضر وتحرير الكيان
الإشكالية الصعبة التي يجب الخوض فيها تتمثل في قدرة العرب ثقافة وسياسة على الوعي الكامل بالحاضر وبمعطياته ومستلزماته. فقد دخلنا منعطفًا جديدًا على المستوى الثقافي العام وخيارات جديدة على المستوى السياسي. وكنت قد بيّنتُ مرارًا أن الفكر الذي صاحب المراحل السابقة وأعني مرحلة النهضة العربية ومرحلة ما بعد الاستقلال يحتاج اليوم إلى إعادة نظر وإلى صياغة جديدة إن لم نقل تفكيكًا كلّيًّا على المنوال الذي قام به الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا لبعض مظاهر الحضارة الأوربية والغربية. فالوعي بالحاضر يتطلب شجاعة وقدرة على النقد الجذري والعلمي النزيه لأوضاعنا وفكرنا وثقافتنا كما يتطلب بناء مشاريعنا وتوضيح مقاصدنا.
ليس ثمّة شكّ في أنّ الإشكاليّة التي شدّت اهتمام المثقف العربي منذ عصور النهضة حتى يومنا هذا تتمثل في تأصيل الكيان وتحديثه. جدلية صعبة لا محالة ولكنها تأخذ أبعادًا مختلفة تؤثر أحيانًا في تطوير نمط الحياة. فالكيان يبقى عند كثير من هؤلاء المثقفين أصيلًا والانفتاح يعني تجديده. وتكون الأصالة تارة دينية وتارة أخرى أدبية وإبداعية وقد تكون أيضًا علمية. أما شبلي الشميّل مثلًا الذي كان بحق رائد الفكر العلمي العربي الحديث فيرى أن كياننا يكمن في العلم عمومًا والعلوم الطبيعية خصوصًا تلك التي صنعتها وطورتها الحضارة العربية الإسلامية. أما الفكر الأدبي والفلسفي والفقهي فقد تطور خدمة للدين ومعالمه. كذلك الشأن بالنسبة إلى علي عبدالرازق الذي يرى أن تأصيل الكيان وتحديثه يكمن قبل كل شيء في تجديد الفكر الديني في حين طه حسين يحدده في تجديد الفكر الأدبي. وقد لعبت فكرة «الأصالة والتفتح» دورها في تأصيل الكيان بتونس عند بعض المفكرين والسياسيين أمثال محمود المسعدي ومحمد مزالي ومحجوب بن ميلاد وغيرهم.
وفي اعتقادنا إذن أن الحداثة مصيرنا، وأن علينا فتح كياننا على تاريخيّـتنا لا من حيث أنها تربط حاضرنا بجذورها وبالحضارات التي تعاقبت علينا فقط بل أيضًا من حيث إنها انفتاح على الإقبال والمصير، لهذا فنحن لم نعد بحاجة إلى تأصيل كياننا بقدر ما نحن بحاجة إلى تحريره نهائيًّا؛ كي تتجذّر ذاتنا في حاضرنا ومشاريعنا. يعني ذاك أن يغادر المثقف العربي التوجهات الوجدانية والارتكاسية وأن يعلن بصوت صارخ عن »القبول الأعلى للحياة«، وعن تجاوز معاناتنا بالوعي الكامل باختلافنا عن ماضينا، ولا مناص لنا من حياة اللحظة الحاضرة في الهنا والآن التي تتحدّد- سواء أحببنا ذلك أم كرهناه- باصطدام الماضي بالمستقبل، ففي هذا الاصطدام يتجسد اختلافنا، وربما يكون ذلك في العودة للذات، لكن هذه العودة ليست هي ذاتها في كل مرة. ففي كل عودة يأتي ما يختلف عمّا سبق، بحيث يكون قفل الحلقة في الاختلاف لا في الهوية، وفي التغاير لا في التـماهي، وفي النضال لا في الاستسلام. صدمة الماضي بالمستقبل ستجعل منا أمة تعيش حاضرها وتساهم فيه وتبدع. وبذلك يكون الإنسان داخل كيانها مشروعًا، بل سيكون إنجازًا داخليًّا لإرادة القوة وللنضال من أجل الحياة.
هكذا يعتمد الوعي بالحاضر تحرير الكيان من تراكمات الماضي وسلطانه المطلق على الفكر والممارسات الثقافية والسياسية. ولكنّ مسالك هذا التحرير وعرة شائكة وتتطلّب جهدًا واجتهادًا وشجاعة في تعيينها وتأطيرها. ولست أغالي إذا ما أكّدت هنا أنّ المثقف العربي مطالب الآن بالكفّ نهائيًّا عن البكاء على الأطلال، وأن يتسلح بالشجاعة الكافية للوعي بحاضره وفهمه والتأقلم مع معطياته والنضال من أجل إصلاحه إن لزم الإصلاح أو تغييره إن لزم التغيير من دون التمترس بنماذج الماضي بل تطوير الحاضر والتقدم به نحو الأفضل.
مسالك نظرية وأخرى عملية
وعلى سبيل الاقتراح أميّز هنا بين نوعين من المسالك: مسالك نظرية فكرية ومسالك عملية. فأما النوع الأول فهو يخصّ تعقّل الحاضر وفهمه وإفهامه، وأمّا الثاني فهو يوضّح وسائل العمل وعيًا بالحاضر وتحرُّرًا من سلطة الماضي. وأوّل ما يتبادر إلى الذهن في هذا الصدد هو كيفيّة الاستعمال الجيّد للعقل في مجتمعاتنا وبخاصة جميع مقتضيات الحياة الفردية والاجتماعية أي ما سمّاه الفارابي جودة الرويّة. لأن الإنسان حسب قول الفارابي: «إنّما ينصب الغاية التي يهواها ويشتاقها بحذاء فكره». ولا نريد هنا إعادة ما كنّا قد حلّلناه في كتابنا العقل والحرية؛ نذكّر فقط أنّنا قد أكّدنا على مفهوم التّعقّلية من حيث هو تلاقح بين النظري والعملي وترابط بين المنطقي والوجداني.
فالتعقلية تحتاج لا محالة إلى تطوير العلوم والفكر النقدي والفلسفة لتصبح معقولية التحليل، والبحث، والدرس والتحقيق والنقد ولكنها تحتاج أيضًا إلى الفطرة والوجدان الإيجابي لتغدو معقولية الإبداع والابتكارات والاكتشافات التكنولوجية فنتحرّر بذلك من وطأة التكفير والتحريم وننتبه إلى أهمّية الحاضر في تكوين ذاتيّتنا إذ الهويّة بناء متواصل وليست ثبات السكون في الذات. هكذا سيكون ما سمّيناه بالاستعمال الجيد للعقل محرّكًا للتحديث في حاضرنا أي تحديث كلّ جوانب المجتمع والثقافة بما في ذلك التراث خدمة للحياة الجديدة، وسنستطيع بكل جرأة وشجاعة أن نبني مقومات فكر تقدمي يقوم على إنتاج الحقائق العلمية في كل جوانبها، ويفتح المجال للفرد أن يختار نمط حياته ليثبت انتماءه ومدنيّته بحرية وتعقل واحترام للغير والعيش سويّا، وهذا المشروع الإصلاحي الذي بدأ منذ القرن التاسع عشر ويتواصل الآن رغم الأزمة العنيفة التي تهزّ كيان الإنسان العربي، قد يأخذ اليوم صبغة متجدّدة تتأسس على الحرية والمدنية والتعقّلية والعيش معا بالعزّة والكرامة والقوّة وحبّ الحياة.
والوعي بالحاضر لا يتطلب العقل والتّعقّل فقط بل أيضًا القدرة الفائقة على الفهم والتفاهم؛ لأنّ الحضارة العربية الإسلامية عظيمة بتاريخها، ثريّة بنصوصها، متشعبة بإضافاتها وإبداعاتها في ميادين عدّة. فكل عقليّ هو معطى للفهم وللتفاهم، وكم نحن بحاجة ملحّة للتأويل الدقيق والعلمي المتعقّل لتاريخنا ونصوصنا وفنوننا بما في ذلك النص المقدّس. فالتأويل توليد للمعاني وكشف متواصل للدلالات والسموّ بها إلى رتبة علميّة موضوعيّة. فالحاجة إلى التأويل الدقيق والعلمي يبعدنا من القراءات السخيفة لتراثنا التي كثيرًا ما تكون قاتلة وكارثية على حضورنا في العالم بل على وجودنا في حد ذاته. والمعقولية العربية الآن لا تزال في مرحلة الشعارات والأحكام السريعة والمواقف الأيديولوجية بل ما زالت تعتمد «السحر والشعوذة والخرافة والتقديس والانفعالية والغريزية والشعارات، والأحكام المُسبقة». زد على ذلك أنها لم تتعلم فاعلية السؤال في حد ذاته.. فهي تبقى معقولية الأجوبة الجاهزة كالتي تأتيك بالتأكيد من فضائيات هيمن عليها «أصحاب القلنسوات الفارغة» حسب تعبير المقدسي. فهي تبقى خاضعة إلى منهجية المحاكاة في تعاملها مع قضايانا اليومية تبحث عن أقوال السلف وأعمالهم لفهم الحاضر والاستعداد للمستقبل. فلحل مشاكلنا الاجتماعية والشخصية نعود إلى الكتب التراثية الخرافية لنجد الحلول أحيانًا عند المشعوذين والدجالين كما نعود إلى شيوخ الماضي وكان لديهم مفاتيح القدر. فالوعي السلفي الذي يسود اليوم في المعقولية العربية هو وعي مغلق ومتحجر يقوم على عبادة الأسلاف ويرفض كل إبداع وكل تفكير عقلي مشفوع ببرهان بما أن برهانه الوحيد هو ما أتى به السلف وبما أن ثقافته ثقافة تكفير وليست ثقافة تفكير.
حركية العقل
ومسالك التحرير النظرية لا تقتصر طبعًا على العقل والتعقّل والفهم والتفاهم بل تتجاوز ذلك بأن تصبغ عليها كلّها طابع الابتكار والإبداع؛ لأنّ المقصد الأساسي من مسالك التحرير النّظري يتمثّل في الوصول إلى الإبداع لا إلى الأتباع. ولعلّه من المفيد أن نذكّر بالتحوّلات الكبرى في العالم الغربي في عصر النهضة الأوربي بداية من القرن الرابع عشر الميلادي حي حيث ارتبطت حركيّة العقل والفهم بالإبداع التكنولوجي والفني، فتحوّلت العلوم إلى صناعة وقامت الثورة الصناعيّة التي أعطت للغرب قدرة هائلة للسيطرة على العالم. ففكر الإبداع هو ديدننا أو هكذا يجب أن يكون إذا ما أردنا أن نعطي لمسالك تحرير كياننا قصدًا إبداعيًّا. ولنعترف أنّ الفكر اللاهوتي الذي لا يعترف بالتعقّل ولا بالتأويل العلمي ولا بالتفاهم قد أغلق زمانيّـتنا إغلاقًا محكمًا بحيث سيضحى الآخر بعيدًا منها أو بالأحرى سيحاول هذا الفكر المتحجر استبعاد المختلف والمتنوّع والمتغاير. أما إذا اقتربوا منا فوجب الجهاد ووجب القتال في نظرهم بما أن منطق التعامل مع الآخر قد أصبح منطق التكفير لا منطق التفكير. ولكنّ هذا الفكر اللاهوتي غير قادر على فهم معطيات الحاضر والسيطرة عليها. لذلك كثيرًا ما يدخل في صراع شديد وأحيانًا مسلح مع كلّ منتجات العصر بما في ذلك الإنسان المعاصر. ومن واجبنا أن نؤكّد أن بجانب هذه المعطيات السّالبة توجد بوادر العقل العلمي الصائب والمبدع لكنه مغبون ومقهور، تحالفت ضده قوى الرجعية الدينية وقوى التكنقراطيين الذين استحوذوا على المعرفة في البلدان العربية، فأجبروا القوى التقدمية على الصمت.
أمّا المسالك العملية لتحرير الكيان فألخّصها بعجالة في ثلاثة مستويات، في السياسة والثقافة والأخلاق. ولا بد هنا من ملاحظتين مهمتين لفهم ممكنات العمل في هذا المجال. فالملاحظة الأولى تخصّ قابليّة الممارسة في مفهوم التعقّل، والثانية تخصّ الغاية القصوى من هذه الممارسة. الأولى بلورها الفارابي، والثانية استقيناها من نصوص الفيلسوف الألماني كانط.
يرى الفارابي التعقل هو فضيلة من فضائل العقل العملي. فالتعقل هو «القدرة على جودة الروية واستنباط الأشياء التي هي أجود وأصلح فيما يُعمَل ليحصل بها الإنسان خير عظيم في الحقيقة وغاية شريفة فاضلة، كانت تلك هي السعادة» والتعقّل عند الفارابي أنواع نلخّصها في ثلاث نقاط؛ فهو أساس تدبير شؤون المنزل ويعني التعقل المنزلي، «ويكون أيضًا أساس تدبير المدينة وهو التعقل المدني»، وهو أخيرًا السعي لنيل «الخيرات الإنسية» وهو التعقل الإنسي «بتعبير الفارابي والإنساني بتعبيرنا الحالي». فالتعقل يصبح إدراك «الأشياء الإنسانية» والسعي بها إلى نيل السعادة. وهذه الملاحظة تقودنا إلى ضرورة بناء سياسة فاضلة في التربية وسياسة مدنية في المجتمع وسياسة عادلة في العالم.
أما كانط فهو يرى في نصوص تركها في شكل مسودات ونشرت بعد موته أن الغاية الطبيعية لكل ممارسة سياسية عادلة تكمن في تنمية المؤهّلات الطبيعة الخاصة بالإنسان. فالمصير الإنساني للإنسان – بوصفه الغاية الطبيعية – يتمثل في ثلاث نقاط أساسية:
فهو يتمثل أولًا في تنمية مؤهلات الإنسان الطبيعية من حيث هو »مخلوق متعقل« بثقافة ابتكاراته وإبداعاته، وهو يتمثل ثانيًا في أنّه حر لا لذاته فقط بل أيضًا داخل المجتمع ضمن علاقاته المختلفة مع الآخر وتحت سلطة القوانين، وهو يتمثل أخيرًا في كونه يصبو إلى السعادة من حيث يكون هو نفسه صانع سعادته بتأسيسها على مبادئ الخير الكوني الأسمى. فيصبح بذلك إنسانًا مثقفًا ومتحضرًا ومتخلقًا. فلا بد من تطوير عقلية المواطنة، ونعني تلك الحرية الحقيقية وتلك المساواة الاجتماعية الخاضعة كلها لقوانين معقولة ومقبولة. كذلك ولا بد من ترسيخ أخلاقيات تعتمد في الآن نفسه حرية الفرد وحرية الآخر. لذلك يرى كانط أنّ أفضل طريقة لتحسّن وضعية الإنسان الثقافية والمدنية والأخلاقية تتمثل بالنسبة إلى الثقافة في التربية، وبالنسبة إلى المدنية في تطوير القوانين، وبالنسبة إلى الأخلاق في تطوير الدين. فالتربية والقانون والدين هي وسائل ناجعة لتنمية إنسانية الإنسان بشرط أن تكون هي أيضًا مبنية على مبدأ الحرية. تربية حرة، وقوانين تضمن الحرية، ودين حرّ يقبل حرية الفرد ويعتمدها: ذلك ما يحتاجه الإنسان ليبلغ أقصى مستويات الإنسانية.
هكذا يمكننا تحديد المسالك العمليّة الكبرى لتحرير الكيان في ثقافة التربية وإرساء سلطة القانون المدني ونقد الانغلاق والدوغمائية في الدين. والسؤال المطروح هنا هو الآتي: أيّ نمط من التربية يحث على تحرير الكيان؟ وأيّ نمط من الديمقراطية يستوجبه هذا التحرير؟ نعرف أنّ هناك من المثقفين العرب في الوسط الثقافي العربي من يفرض حذرًا كبيرًا فيما يخصّ مزايا الديمقراطية، فبعض يذهب إلى حدّ تمجيد نظام سياسي ثيوقراطي يظنّ أنّه نمط تقليدي ينغرس في المعطيات الثقافية المحلية على منوال الفيلسوف أمارتيا سن.
إنّ هذا معناه أنّ الديمقراطية لا تتعلّق فقط بحريّة كلّ شخص، وهي ليست حصيلة لفردنة المجتمع. يجب عليها أن تهتمّ بالمشترك الذي يعبّر عن نفسه بعدّة طرق وعن طريق مؤسّسات مختلفة. فالتّوازن بين المشترك والخاص هو الذي يمنح الديمقراطية معنى فاعلًا وجدوى حقيقية. والديمقراطية الفاعلة تنخرط بداهة في روح الديمقراطية الإجرائية، لكنّها تعترف للشعب، أي للمشترك بأن يشغل الفضاء العمومي ويستخدم وسائل أخرى للتعبير عن رأيه على غرار الكفاح النقابي والسياسي والمقاومة حتى العصيان المدني.
ثلاث قيم أساسية
وقناعتنا أنّ التربية المبنية على هذه الديمقراطية الفاعلة، تسمح بنموّ ثلاث قيم أساسيّة على كلّ تعليم ديمقراطي في كلّ دول العالم وفي كلّ الظروف الاجتماعية أن يسهل عملية تعلّمها واكتسابها وهي التربية على الغيرية وتعلّم الفردانية الموجبة والتربية على التآنس والتضامن. فالحداثة الديمقراطية تتحدّد بعلاقة صراعية مع الغيرية، فمن جهة لقد اعترفت للغيرية بنوع من الدّيناميّة في مسار تأسيس السلطة السّياسية بتحرير الفرد الاجتماعي، ومن جهة أخرى فهي قد وضعت نظامًا دائمًا لإقصاء الآخر بواسطة الإجراءات القانونية المعقّدة. لذلك لا بد من ثقافة عالية وتربية متواصلة؛ كي تكون الديمقراطية تشاركيّة وفعّالة. فمسلك تحرير الذات لا يكون فقط بإرساء نظام الحرية في تدبير شؤون الناس والمواطنين بل أيضًا بالتربية على الديمقراطية والفردانية. والإنسان الفرد هو العنصر الأساسي لكلّ ديمقراطية ممكنة. والأنا الخاصة بكلّ شخص (المعبّرة عن موقف والفاعلة أو التي تنتخب) هي موطن هذه الخصوصية، وهي أساس المواطنة؛ إذ هي تثبت بهذه الطريقة هويتها واختلافها في آنٍ واحدٍ، لأنّها تعبّر عن استقلالية أكبر لممارسة الفرد، وحرّية أوسع لفكره ورأيه فتؤسّس بذلك إرادة الذاتي وضرورة التذاوت، وبهذا المعنى فهي لا تعبّر عن عزلة الفرد ولا عن إثبات أنانيته؛ لأنّ المسافة التي تفصلها عن المجموعة هي إرادة إثبات الذّات أصلًا، ثمّ الانفتاح على الآخر. لذلك فكرة التضامن هي قبل كلّ شيء إرادة العيش معًا في كنف الكرامة، والعدالة والمساواة للجميع، وهي تؤكّد واجب العلاقة الاجتماعية بما هو شرط إمكان التقدّم.
أن نعلّم التضامن بصفته نتيجة حتمية لتعليم الغيرية والفردية، معناه أن نحوّل الاجتماع، بواسطة القرابة والتقريب أو بواسطة العقلانية الحسابية، إلى تآنس غير حصري ومفتوح على الآخر وعلى الإنساني عمومًا. وهذا معناه أن ننقذ الإنسان من عزلته التواصلية والتقنية والعلمية بواسطة مجهود دائم وخلّاق يصبو إلى نوع من التآنس الديمقراطي.
لقد بيّن الفيلسوف الألماني هوسرل في مطلع القرن العشرين، من خلال كتابه «أزمة العلوم الأوربية»، أنّ فكرة أوربا نشأت عن تحرير العقل وغلبته، وأنّ أزمة أوربا نتيجة ضعف العقلانية، وهو ضعف ناتج لا عن صعود اللاعقلانية للروحية بل عن إخضاع العقل إلى التكنولوجيا.
ويستخلص أنّ أزمة الوجود الأوربي لا يمكن أن يكون لها إلّا مخرجان اثنان: فإمّا أن يصبح انسحاب أوربا غريبًا عن قيم تأسيسها ونعني الأنوار فتسقط في الكراهية الروحية والبربرية، وإمّا أن تحصل نهضة أوربا انطلاقًا من الروح الفلسفية وبفضل سيادة العقل الذي ينتصر بصفة نهائية على النزعة العاطفية. وبالنسبة إليّ، يبدو لي أنّ مسالك تحرير الذات والكينونة ستتعيّن بصفة نهائية في أخلاق الغيرية، وفي الفردية والتضامن سياسة وثقافة وأخلاقًا فهنا يمكن المبدأ الديمقراطي للعيش معًا الذي يتحقّق بواسطة الأنس والمحبّة. فلا تكون التربية ديمقراطية إلا إذا اعتمدت على ثقافة متنوّعة مفتوحة تتعلّق بفكرتي المواطنة والإنسانية، وعلى دين ركيزته التسالم والتحابُّ فهي تربية قائمة على الاعتراف بالتنوّع والغيرية، وعلى احترام الفرد وحقوقه، وعلى ضرورة التضامن الفعّال. وهي تربية تآنسية في إطار ديمقراطية فاعلة.
هكذا على المثقف المفكر العربي الآن أن ينبّه إلى وجود الحاضر فعلًا وأن الكينونة لا تتكوّن في الماضي فقط ولا تسكن الأطلال. عليه أن يتسلّح بالشجاعة الكافية لتأطير الشعوب العربية بالتربية على الوعي بحاضره وفهمه والتأقلم مع معطياته والنضال من أجل سعادته من خلال مسالك تحرير الذات النظريّة والعمليّة.