خليل أحمد خليل: غياب العقل حوّل الدين إلى معتقد إدهاشي مفكر عربي يقول إن اللغة العربية افترست اللغات الأخرى ونسيت تطوير نفسها
في كتابه «عقلُ العلم وعقلُ الوهم: الفلسفة العلمية في أوج الصِّراع بين العولمة العلميّة والعولمة الوهميّة» (دار الطليعة 2015م)، يدشن خليل أحمد خليل لــــ«فلسفة المستقبل»، ملاحظًا أن «التطور اللامتناهي لعلم الإنسان في الكون هو الذي سيحدد ذات عصر وجهة بقاء الفلسفة أو الثيولوجيا» دون أن يعني ذلك أن ثمة صراعًا بين العلوم والأديان، نظرًا لانقطاع الصلة بين حقولهما؛ فالفجوة معرفية عنده تفصل زمنيًّا بينهما بما يربك حدود الشراكة بين «معامل العقل العلمي (الفيزيائي) ومعامل العقل الديني».
يُعد خليل (1942م) من بين أبرز علماء الاجتماع في العالم العربي، تدريسًا وتأليفًا وترجمةً، ولا سيما في مجال علم الاجتماع السياسي. وعلى الرغم من اشتغاله على حقول معرفية عدة، فإن شهرته أتت من كتابين رئيسين: «جدلية القرآن» و«العقل في الإسلام». منذ ستينيات القرن المنصرم بدأ خليل رحلته الرسمية مع الكتابة، شعرًا وأدبًا، وانتقل تدريجيًّا إلى الدراسات المتخصصة، وعمله اللاحق على المعاجم والموسوعات والترجمات، لعل أشهرها ترجمة «موسوعة لالاند الفلسفية» التي نشرت في دار عويدات (لبنان، 1992م)، آنذاك وحين علم الشاعر اللبناني سعيد عقل (1911- 2014م) بصدورها قال لصاحب الدار أحمد عويدات: «عرفني على من نقل العقل الأوربي إلى العالم العربي».
في رحلته الجامعية سافر خليل إلى فرنسا عام 1962م لمتابعة دراسته وتطوير ثقافته وبحثه وكتابته، فتسجل في جامعة ليون، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ونال إجازة في الآداب والعلوم الإنسانية عام 1966م. ثم سجَّل موضوعًا لأطروحة الدكتوراه في علم الإسلام (Islamologie) بإشراف المستشرق روجيه آرنالديز (Roger Arnaldez) (1911-2006م)، تحت عنوان: «التعليم الديني الإسلامي في لبنان ودوره التربوي والاجتماعي والسياسي»، ونال شهادة الدكتوراه عام 1968م. وحاز عام 1984م على دكتوراه ثانية في الفلسفة من جامعة باريس (8) بإشراف فرانسوا شاتليه (François Châtelet) (1925- 1985م)، تحت عنوان: «كمال جنبلاط: خطاب العقل التوحيدي».
تتجاوز أعمال خليل بين التأليف والترجمة مئة كتاب. وبعد تقاعده من الجامعة اللبنانية عام 2006م تابع رحلته في المجالين، علمًا أن مخطوطاته (المؤلفات والترجمات) تصل إلى (34) عملًا من ضمنها عدد من الروايات نذكر منها: «علي والوردة: فندق الغرباء الكبير»، «طاووس العرش»، و«دفاتر مجانين».
خصّ خليل أحمد خليل «مجلة الفيصل» بحوار مهم تطرق فيه إلى قضايا عدة بعضها خاص يتعلق بمسيرته العلمية التأليفية وأخرى على علاقة بالمخطوطات التي لم ينشرها، خصوصًا «الموسوعة القرآنية» التي تتضمن ثلاثة أجزاء، إلى جانب مسائل أخرى كالأزمة الثقافية والتاريخية عندنا وارتباطها بمحنة العقل العربي، والعنف الديني الذي يُرتكب باسم الإسلام.
وفيما يأتي تفاصيل الحوار:
المرأة العربية وقضايا التغيير
● بعد تجربتك الطويلة في الترجمة والتأليف والبحث العلمي ما الكتاب الذي شكل هويتك كعالِم اجتماع؟
■ إذا اعتبرتُ أن كل ما كتبته هو كتاب واحد، هو كتاب الحياة التي عشتها، أرى أن العلم علمني أن أُعلم وأبحث عن العلم دائمًا؛ طبعًا هناك كتب شكلت مفاصل أساسية في مسيرتي من بينها: «المرأة العربية وقضايا التغيير» الذي طُبع طبعات عدة خلال خمسين سنة الماضية، وستعمل دار الطليعة على نشره قريبًا لأنه ما زال مطلوبًا حتى الآن. ثمة ثلاثية من الكتب يمكن أن أصنفها ضمن كتاب واحد: «مضمون الأسطورة في الفكر العربي»، و«جدلية القرآن» قدمت في هذا الكتاب أول قراءة فصلية نسقية لفهم القرآن الكريم، فوجدت أنه يتألف من ثلاثة فصول لا أكثر، فصل الغيب وفصل الطبيعة وفصل الإنسان، والكائنات الخفية ليست ذات أهمية في القرآن كما يُخال. أما الكتاب الثالث فهو «مستقبل الفلسفة العربية».
هذه الكتب تأسيسية وضعتها قبل مرحلة التأليف الجامعي، أما في المرحلة الثانية فهناك كتاب «العقل في الإسلام» وهو في الحقيقة بحث علمي للجامعة اللبنانية، وقد دفعوا لنا جميع حقوقنا لكنهم لم ينشروه لأن الخمسين أستاذًا الذين تعاقدوا معهم في الجامعة لم يقوموا بواجبهم في إتمام بحوثهم التي كُلفوا بها، وذلك بين عامي 1989م و 1990م. ذهبت إلى دار الطليعة وعرضت عليهم الكتاب وتلقيت من المرحوم بشير الداعوق رسالة أشعرتني برجفة، حيث كتب فيها أن هذا العمل يمتاز بالصرامة العلمية والدقة، وتجاسر على نشره عام 1993م كطبعة أولى. خلال ذلك نشرت أعمالًا أخرى من بينها: «العرب والقيادة» وهو عمل تأسيسي في علم الاجتماع السياسي، ولكنه لم يأخذ حقه سوى أن الدكتور المرحوم خلدون النقيب عميد كلية الآداب في جامعة الكويت سابقًا، اكتشف أهميته وقال: إن خليل أحمد خليل هو أول من قدم تفسيرًا علميًّا للنظام السياسي العربي، وهو نظام «استزلامي»، ومصطلح «استزلامي» ابتكرته من خلال ممارستي السياسية مع كمال جنبلاط حين كنت في الحزب التقدمي الاشتراكي، فلاحظت أن الناس يفضلون «الاستزلام» أو «التبعية السياسية»، وهنا تذكرت قصة الكهف لأفلاطون عندما شبه الناس ما تحت العقل بالأشخاص المسجونين في الكهف.
● في كتابك «العقل في الإسلام» أقمت تمييزًا بين «عقل النص» و«العقل الاعتقادي» وأشرت إلى أن هذين العقلين يكبلان مسيرة تطور الإسلام. لماذا لا يستطيع المسلمون الخروج على هذين العقلين والاتجاه إلى عقل العلم؟
■ لأن بعضهم أسقط العقل من مستواه وأنزله إلى ما دون الاستعمال، فإبطال العقل يعني إلغاء الإعمال، فما قيمة عقل لا يعمل. هذا ما جعل العالم العربي يفضل اللاعقل على العقل أو التوهم على العلم، أي جعل الناس يصدقون ما لا يرون وينبذون ما يرون. تحول الإسلام إلى معتقد إدهاشي سوريالي، وكل الأديان تصل إلى هذه النقطة. مثل قصة الموت، في المسيحية مثلًا نجد أن السيد المسيح يقتل الموت، وعند صدر الدين الشيرازي المعروف بصدر المتألهين يتخيل أنه في يوم القيامة سيقوم الله بذبح الموت كما ذُبح كبش إسماعيل حسب الرواية الإسلامية وينتهي الموت. والسؤال هنا لماذا خُلق الموت؟ هذه الحالة جعلت الناس يزدادون قلقًا وجوديًّا والآن يعانون ما أطلق عليه القلق الرقمي وهو ليس إعلاميًّا بمعنى تقديم معلومات، إنما هو إيهامي/ خداعي. أرى أن مشكلة العالم العربي في عدم إعمال عقله وليس في نقص عقله واستهلاكه الحداثات والحضارات والثقافات والتكنولوجيات التي يصنعها الغرب، لكنه يحافظ على انغلاقاته من داخله بوهم أنه هكذا يخلص نفسه من وعي مأساته. وأرى أنه لا يمكن القول: إننا دخلنا في علمنة العالم، بمعنى جعل العالم يُفهم بطريقة علمية. عندما يبطل العقل ماذا يحدث؟ تبقى الكلمات والحروف، فيعبد الناس الألفاظ ويأخذون الكلمات كما هي. اكتشفت أن 96 بالمئة من الموجودات في عالمنا هي غير مكتشفة لأنها بلا أسماء، فنحن عندما نكتشف شيئًا، نسميه ونطلق عليه لفظًا، وعندما نتخيل شيئًا نسميه، فأنا أرى في النتيجة الآن وغدًا أن عقول 8 مليارات إنسان لا تكفي إذا اجتمعت وعملت معًا لاكتشاف هذا العالم، هذا يعني أن على البشرية القادمة أن تتوغل وترقمن العلم.
ثمة آلاف المصطلحات في لغات العالم تعني شيئًا واحدًا، ولن يكون لدى الناس في المستقبل الوقت لإضاعته من أجل حفظ كلمات مترادفة. واللغة العربية من هذه الناحية كما لاحظت افترست اللغات الأخرى ونسيت تطوير نفسها، وأرى أن المشكلة عند العرب ليست مشكلة صوتية كما توهم البعض، هي مشكلة لغوية لسانية تعبيرية، لذلك اللغة العربية غنية وفقيرة في آن. فقيرة إذا دعمنا المصطلحات وحددنا أن كل ألف كلمة تعني شيئًا واحدًا.
● نجد أن لديك اهتمامًا بالنظريات الفيزيائية التي لها علاقة بالكيفية التي فسر فيها كبار الفيزيائيين الكون وقد اتضح ذلك في كتاباتك الأخيرة، ولا سيما كتابك الأخير «عقل العلم وعقل الوهم» إضافة إلى مقالات أخرى وترجمتك كتاب الأخوين بوغدانوف «La Pensée de Dieu «حكمة الله» الذي لم يُنشر إلى الآن. ما الذي أخذك إلى الفيزياء والكون؟
■ لأن الفيزياء هي علم العلوم، ولأن الطبيعة التي عشتُ فيها وأحببتها علمتني هذه الحكمة الموجودة في عالمنا بالمعنى الذي وضعه الفيزيائيون. لقد وضعت أولويات في حياتي، العيش في الطبيعة مع النباتات؛ لأنها ألطف الكائنات وأكثرها ضعفًا، ثم الحيوان الذي يتنقل وهو شريك الإنسان وإن لم يكن قادرًا على أن ينتصب كما حدث مع هومو إريكتو منذ ملايين السنين، ثم مع الإنسان عند الضرورة. تشبه النباتات الكواكب، فلو كانت الكواكب تسير من مكان إلى مكان لتصادمت ولكنا عشنا في حالة من الانفجارات «البين كونية» وليس انفجار الكوكب نفسه، ولكن هذا لا يحدث بفعل الجاذبية فلا تنجذب الكواكب إلى بعضها ولا تفجر بعضها. الكون هو كواكب ثابتة ولكن إذا انفلت كالحيوان لكانت الحروب والقتال من هنا أتى الصيد والقتل لأن الإنسان اعتاد عبر تطوره أن يكون من الكائنات القارتة (Omnivore).
الجسد كله عقول
● أي فرق أساسي لاحظته بين العقل الفيزيائي والعقل الأسطوري في النظر إلى العالم؟
■ العقل الفيزيائي هو الذي يرى الأشياء مباشرة ويختبرها، والعقل الأسطوري أو التوهيمي هو الذي يتخيل الأشياء، وهنا لا بد من التمييز بين الخائلة والعاقلة. وفي كتابي «عقل العلم وعقل الوهم» وضعت خريطة لجسدنا البشري، فالجسد كله عقول، وهذه العقول ليست دماغًا فقط، فالجسم البشري مؤلف من 100 تريليون خلية لكل خلية عقل وهي تعمل بذاتها ومع غيرها، وما مرض السرطان سوى اختلال عمل الخلايا، فتدخل في حرب داخلية بدل أن تتعاون كما هو واجبها التكويني. الخلية معمولة لكي تتكاثر وهنا يقول القرآن الكريم: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}، هنا المقصود بالتكاثر ليس فقط التكاثر البشري إنما أيضًا التكاثر الذري، فنحن ذرات، والكوكب الأرضي ذرة في المنظومة الكونية التي تتألف من 120 مليار مجرة: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}. سؤالي هنا: لماذا أفاد الغربيون خصوصًا الأوربيون ثم الأميركيون ومن حذا حذوهم من الفيزياء اليونانية والعقلانية اليونانية، ولم يفد منها العرب مع أنهم عرفوا تلك العلوم مبكّرًا، علمًا أن ثمة تحريضًا علميًّا فيزيائيًّا في القرآن، دون أن أذهب في الاتجاه الذي ذهب فيه الدكتور يوسف مروة صاحب كتاب «العلوم الطبيعية في القرآن الكريم». إن القرآن هو دعوة لاستعمال العقل بدراية وبروية وتأمل ونقد ولكن عندما يكثر الجهلاء يقل العلماء.
● عملت على مشروع كبير تحت عنوان «الموسوعة القرآنية» بين عامي 1956 و 2000م وقد تضمنت هذه الموسوعة/ المخطوطة ثلاثة أجزاء: «معجم الخليل لدلالات ألفاظ القرآن الكريم» «الحكمة القرآنية»، و«مستقبل الإسلام والمسلمين في القرن الحادي والعشرين». هل يمكن أن تحدثنا ولو بإيجاز عن هذا العمل الذي استغرق منك كل هذا الوقت؟ ولماذا لم يُطبع بعد؟
■ لم يُطبع لأنهم لم يفهموا أهمية هذا العمل الموسوعي العلمي المتعدد اللغات. لماذا ذهبت هذا المذهب؟ لقد اكتشفت أن بعض المستشرقين ومنهم المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون أفنوا حياتهم في ترجمة القرآن ترجمة أفضل، ولدينا الآن في اللغة الفرنسية وحدها نحو 170 ترجمة. وحين كنت في جامعة ليون في فرنسا لإتمام الدكتوراه أخذت معي نسخة من القرآن الكريم وقارنتها بالترجمات الفرنسية، واكتشفت أنني أخطأت في أماكن عدة في فهمي للقرآن على سبيل المثال {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاس} كنت أقرؤها «من الجَنة». وحين نظرت في الترجمة وجدت كلمة الجِن ففهمت أن عليّ أن أدقق أكثر، وأن أقرأ بعيني وخصوصًا أن اللغة العربية هي لغة الحركات، فعملت على مصطلحات القرآن وأفدت من كل أعمالي السابقة ورتبت كل مصطلحات القرآن من الهمزة إلى الياء، فالهمزة هي حرف وفي المعاجم العربية يبدؤون بالألف وليس الهمزة مثل: إذ، يومئذٍ، عندئذ، والألف أتت كي تظهر لنا كيف تُقرأ الهمزة. الهمزة حرف صغير لكنه تأسيسي، هذا الصوت هو الذي أعطى اللغة العربية كونيتها، ربما تكون اللغة العربية من أكثر اللغات موسيقية في العالم من هنا نجد أن الشعر أمر طبيعي خصوصًا الشعر المغنّى والمقفى.
الجزء الأساسي الذي اشتغلت عليه في الموسوعة القرآنية هو «معجم الخليل لدلالات ألفاظ القرآن الكريم» حيث اعتمدت على التفسير السياقي، وللتوضيح ليس بإمكاننا فهم النص باللغة فقط علينا دراسة السياق، على سبيل المثال: يتحدث القرآن الكريم عن الفاكهة {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} تم تفسير كلمة (أَبًّا) بالتبن أو الحشيش اليابس، فهل من المعقول في القرآن الكريم أن يضع أحدهم الفاكهة والتبن في مكان واحد. هنا علينا البحث في السياق فأبّا يمكن أن تكون فاكهة جافة.
رأيي أن اللغة العربية هي مألفة لغات مثل أن الإسلام هو مألفة أديان، وهذا ليس نقصًا، كما ذهب إلى ذلك الشيخ عبدالله العلايلي العلامة الكبير، علامة القرن العشرين عند المسلمين لو عرفوا ذلك. مثلًا {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} حيث فُسرت كلمة الكوثر عند المفسرين بأنها نهر في الجنة. لماذا أُنزل على الرسول هذه السورة؟ لأنهم كانوا يعيرونه بأنه أبتر ليس لديه ذكور بل فقط إناث. علينا فهم الآية الأولى من سورة الكوثر{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} أكثر من مدلول التكاثر، فهي تدل في رأيي على تكاثر المسلمين بنبوة محمد وقامته التاريخية بين أنبياء العالم السابق. من هنا لا يكفي التحليل اللغوي، ولا يكفي تفسير النص بالمفردات بل يجب تفسيره سياقيًّا، فهذا هو الجديد في عملي وهو ليس تفسيرًا لغويًّا للقرآن وإنما تفسير علمي، لذلك أصحاب دور النشر الذين اتصلت بهم كانوا يقولون: إن لدينا كتاب تفسير، لكن عملي عمل تقني حديث فلأول المرة تقرئين مفردات القرآن في ثلاث لغات العربية والفرنسية والإنجليزية.
العمل الثاني من الموسوعة: «الحكمة القرآنية» ينطلق من سؤال أساسي: هل حاول القرآن في بنيته العميقة أن يقدم للعالم رؤية نقدية لما سبقه؟ بمعنى أدق هل نقده لأساطير الأولين وتقديمه للعلم والعقل المبدع يرمزان إلى أن الله أبدع العقل والعقل خلق العالم؟ هذه النظرية الأساسية التي ناديت بها. الجزء الثالث: «مستقبل الإسلام والمسلمين في القرن الحادي والعشرين» يركز على مستقبل الإسلام والمسلمين، فالإسلام اليوم الأكثر انتشارًا في تاريخ الرسالة الإسلامية وأصبح جغرافيًّا يمثل ثلث العالم فمن غير الجائز الاكتفاء بالثقافة الحديثية أي ثقافة الأحاديث، لذلك لا بد من «علم الإسلام» وهنا كان عالِم الاجتماع والإثنولوجي السوري يوسف شلحت السبّاق في علم اجتماع الإسلام بدءًا من عام 1946م ولم يتعرف عليه في العالم العربي لولا ترجمتي لعدد من كتبه. هنا نسأل لماذا أخذ كلود ليفي ستروس كل هذه الشهرة وهو زميل شلحت في «المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي» في فرنسا ولم يأخذ شلحت الشهرة نفسها؟ هل لأنه عربي. هنا أدعو لإنشاء أكاديمية للعلوم الإسلامية وإدخال العقلانية في دراسة مشاكل المجتمعات الإسلامية، لأن عقل السلم يأتي من القرآن وعقل الحرب يأتي من الوهم.
بدأت شاعرًا برعاية أدونيس
● ثمة العديد من الروايات التي كتبتها في السنوات الأخيرة إضافة إلى الشعر وهي مخطوطات لم تُطبع إلى الآن. ما أهمية الرواية والشعر في تجربتك على المستوى الإنساني؟
■ بدأت شاعرًا في عام 1963م وبرعاية أدونيس الكبير الذي نقدر له كل إبداعه وذاتيته، وقد نشرت كتاب «الصوت الآخر» وهو كتاب مؤسس للحداثة الشعرية، خصوصًا قصيدتي «الأبواب» وتُرجمت قصيدة من هذا الكتاب وهي تحت عنوان «خروج». نشرت أربعة أعمال شعرية أذكرها سريعًا: «يوميات فلاح في الغابة الحمراء»، «مزامير الثورة الفقيرة»، «بئر السلاسل» و«نور على جدار الموت». ونشرت في المجلات والجرائد قصائد عدة والقصيدة الأخيرة التي نشرتها كانت في مجلة الآداب أيام المرحوم سهيل إدريس اسمها «رواية الرواية». وقد جمعت قصائدي في مجلدين.
● كيف تنظر إلى الحالة الثقافية في العالم العربي اليوم؟
■ الثقافة في العالم العربي راهنًا تحت خط العقل؛ هي ثقافة اللاعقل عمومًا، وهي تقوم على القراءة عبر الوسائل الحديثة ولا تقوم على الكتابة. نشهد موت الكتابة لصالح القراءة، نحن الذين كتبنا وأنتجنا كتبًا جعلنا الناس يكتبون ويقرؤون، الآن يقرؤون ولا يكتبون أي لا يفكرون. أما على مستوى التأليف فالإنتاج الثقافي يذهب باتجاه الكلام والروايات، والعديد من دور النشر لا تنظر إلى الكتاب وأهميته بل إلى تسويقه. العالم العربي الآن ومعه الحالة الثقافية يستويان تحت خط العقل وهو أقل إبداعًا في المجال العلمي، فنسبة العلماء عندنا 0.1 في المئة من علماء العالم؛ فليتعظوا وليكفوا عن العداء للولايات المتحدة أم الحضارة الحديثة والمعاصرة.
● بعد رحيل العديد من المثقفين العرب المؤثرين في الثقافة العربية في العقدين الأخيرين، برأيك هل نحن أمام حالة من الفراغ الثقافي؟
■ العلماء الكبار تركوا آثارهم ولكن المشكلة ستكون في المكتبات. وهنا أفتح هلالين فالعديد من الكتاب والعلماء لديهم مكتبات كبيرة ويُخشى أن تضيع وهم يعانون مشاكل عدة بغية الحفاظ على مكتباتهم، هذا عدا الوضع الكارثي لسوق الكتاب وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي في نوعية الإنتاج المعرفي.
● كيف تفسرون العنف الديني الذي يرتكب باسم الإسلام من قبل الجماعات الإسلاموية؟ ولماذا تتصدر هذه الجماعات تفسير الظواهر التي لها علاقة بالإسلام؟
■ أعتقد أنه في صراع الغرب الأميركي مع الشيوعية بعد إسقاط الاتحاد السوفييتي خُشي غربًا من نهوض العالم الإسلامي كقوة إمبراطورية؛ لأن الإسلام هو إمبراطوري بطبعه فأدخلوا وحوش التطرف إليه، دون أن نغفل عن العنف داخل المنظومة الدينية نفسها والعنف الكامن في كل واحد منا، وهذا ما درسه المحلل النفسي فتحي بن سلامة دون أن يصل في تحليله إلى المستوى الذري. في كل منا وحش بصرف النظر عن القشرة الدينية، المسيحية أو الإسلامية أو البوذية، الإيمانية أو غير الإيمانية. على كل منا أن يروض وحشه وهذا الوحش لا يروض إلا بعقل العلم؛ وأما عقل الوهم فيطلق هذا الوحش، أي وحش التطرف. ما يجري في العالمين العربي والإسلامي يماثل ما فعله أدولف هتلر، ولكن بطبعة إسلاموية، تخالف الإسلام النبوي كإطار تنظيمي وكوني وتسالمي، فالرسول نادى بالمؤاخاة بين الناس بصرف النظر عن دينهم، وعلى هذا الأساس علينا فهم هذه الدعوة القرآنية {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}.
● حدثت في السنوات الأخيرة تحولات مفصلية في العالم العربي أدت إلى سقوط أنظمة وزعزعة المجتمعات من الداخل، وسط هذا الخراب هل ثمة فجر خلاصي؟
■ طبعًا، ثمة فجر خلاصي وذلك بالعودة إلى إعمال العقل القرآني، لأن في القرآن توجهًا علمانيًّا وعقلانيًّا أي النظر إلى العالم بعلم، يقول إبيقور: «ليس الكافر من لا يؤمن بآلهة الجمهور بل الكافر هو من يؤمن بآلهة الجمهور». بهذا المعنى فعقل الإسلام هو فوق الجمهور. إن انهيار الأنظمة أمر متوقع فهذه الأنظمة أنظمة دولية خارج منطق التاريخ والعصر.
● ولكن هل هذا العقل أي العقل القرآني قادر على حل الأزمات السياسية والاجتماعية؟
■ نعم، عبر الخروج من العقل الأسطوري إلى العقل العلماني.
● أريد التوقف عند نقطة سبق لك أن أشرت إليها خلال لقاءاتنا السابقة حين قلت: إنه لا تكفير في القرآن الكريم. هل يمكن أن تفسر لنا وجهة نظرك هذه؟
■ صحيح فلا تكفير في القرآن ما ورد في سورة الكافرون {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُون لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} واضح. فالقرآن لم يكفر أي أحد، ولم يعتدِ على أي أحد إلا في حالة الدفاع. وهنا أدعو إلى الدفاع عن عقل الأمة وعن عقل الإسلام وهذا ما فعلناه في مؤلفاتنا.
● كيف تفسرون الأزمة الثقافية والتاريخية وعلاقتها بمحنة العقل العربي؟
■ ثمة محنة وإضاءات؛ خذي مثلًا المحنة في تاريخ الأندلس، فعلى الرغم من الظروف الصعبة كان لدينا ابن رشد وابن حزم وابن ميمون الذي لا يذكره المؤرخون كثيرًا لأنه عربي يهودي.
وفي تقديري أنه بعد عام 2060م ستبدأ الأجيال العربية بالتعلم من تجارب التاريخ المؤلمة بعد أن تكون الغابات قد احترقت والبذور نمت في الأرض العربية والإسلامية وليأتي فجر جديد، وكل ذلك مرتبط بتفجر نور العقل والعلم في هذه الأراضي المحترقة، وإذا لم يحدث هذا الانفجار فلن تشهد للعرب قيامة.
● وهل هناك قيامة للعقل العربي؟
■ طبعًا هو على طريق القيامة، والآن هو قوام بمبدعيه وعلمائه. وفي «موسوعة أعلام العرب المبدعين في القرن العشرين» أحصيت عددًا كبيرًا من العلماء العرب في المجالات كافة.