تداعيات قرار نقل القدس على القضية الفلسطينية
في كلمة مقتضبة للرئيس الأميركي دونالد ترمب في السادس من ديسمبر 2017م، اتخذ قرارًا، تزامن مع مئوية وعد بلفور، سيكون له تداعيات خطيرة على مستقبل القضية الفلسطينية، وربما ينسف أي فرصة ولو صغيرة لأي حل سياسي مرتبط بحل الدولتين فلسطين وإسرائيل، بقراره المخالف للثوابت الأميركية وقرارات مجلس الأمن والقانون الدولي؛ إذ أعلن للشعب الأميركي وللفلسطينيين والعالم المندهش، الاعتراف الرسمي بالقدس عاصمة لكيان الاحتلال- إسرائيل وتوجيه وزارة الخارجية للعمل على نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس المحتلة، ولاحقًا ورغم صعوبة نقل السفارة بسرعة، وقيل حينها بحاجة لسنوات، فاجأ نائب الرئيس مايك بنس في زيارته الأولى للقدس وإعلانه في خطاب متطرف أن إدارة ترمب ستنقل السفارة الأميركية للقدس المحتلة في نهاية عام 2019م!
فاخر الرئيس ترمب بأنه قد «حان الوقت للاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. لقد أخفق الرؤساء الأميركيون السابقون في القيام بذلك.. وأنا تجرأت على ذلك. واليوم أنا أقوم بذلك..». هذه الجملة ستُخلّد في سجل ترمب إلى الأبد وتضع أميركا في عداء مباشر مع نصف البشرية مسلمين ومسيحيين. وستقوي وتزيد المتطرفين والمتشددين لاستغلال هذا التصعيد. يشكل اعتراف ترمب بالقدس عاصمة لإسرائيل تحولًا جذريًّا في الصراع العربي- الإسرائيلي ويؤدي إلى صدمة تخالف القانون الدولي والتاريخ والجغرافيا. لم يرحب بقرار ترمب، سوى رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي وصفه بـ«القرار التاريخي»، وكذلك رحب بالقرار اليمين الإنجيلي الأميركي المتطرف الذي لطالما انحاز لإسرائيل وهو يشكل القاعدة الناخبة الكبيرة، واللوبي الأميركي- الإسرائيلي المتنفذ في واشنطن بقرار الرئيس ترمب.
إدارة أكثر تطرفًا
هذا الموقف ينسف الثوابت الأميركية في الصراع العربي-الإسرائيلي، ويؤكد أن إدارة ترمب باتت الأكثر تطرفًا وانحيازًا لكيان الاحتلال، ولم تكترث لردود الفعل الفلسطينية الغاضبة والمنددة، ومنها رفض التعاون مع الطرف الأميركي الذي أعلنه محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية في القمة الإسلامية التي عُقدت في إسطنبول بعد أسبوع من إعلان القرار. عباس قال: إن الولايات المتحدة لم تعد مؤهلة لأن تكون وسيطًا وراعية لعملية السلام، وإن الفلسطينيين سيذهبون إلى مجلس الأمن للمطالبة بعضوية كاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة، وكذلك الطعن بعضوية إسرائيل في الجمعية العامة لمخالفتها قراراتها، وذلك للرد على الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لإسرائيل. (واقعيًّا من الصعب تحقيق ذلك بسبب الفيتو الأميركي الذي استخدمته الولايات المتحدة ضد قرار يرفض اتخاذ قرارات أحادية حول القدس، على الرغم من تصويت جميع الأعضاء في مجلس الأمن مع القرار).
ثم مضى ترمب مهددًا الفلسطينيين بتجميد أكثر من نصف المساعدات المالية (65 مليون دولار) لوكالة غوث (الأونروا) وهدد بعد ذلك بأقل من شهر من دافوس في سويسرا بتجميد المزيد من المساعدات إذا لم يجلس الفلسطينيون ويتفاوضون مع الإسرائيليين. كما اتهمت السفيرة الأميركية في الأمم المتحدة، التي هددت بتسجيل أسماء الدول التي تقف وتصوت ضد الولايات المتحدة، الفلسطينيين بأنهم أهانوا الولايات المتحدة والرئيس ترمب لرفضهم لقاء نائب الرئيس بنس في زيارته الأولى للشرق الأوسط. جعل القرار الولايات المتحدة في حال عزلة حتى مع حلفائها الأوربيين الكبار، مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا، الذين صوتوا جميعهم مع الحلفاء العرب وتركيا ضد الولايات المتحدة في الجمعية العامة، وكذلك الخمسة الكبار في مجلس الأمن مع مصر وجميع الدول الأخرى دائمي العضوية وغير دائمي العضوية.
اللافت في التحيز الأميركي هو نسفه للمواقف الأميركية تجاه القضية الفلسطينية، ليس فقط بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة للقدس، فمستقبل القدس بقي مع قضية اللاجئين من قضايا مفاوضات الحل النهائي، مع التأكيد حسب قرارات مجلس الأمن وكما يفهمها العرب والمسلمون والاتحاد الأوربي والقوى الكبرى، بأن القدس الشرقية عاصمة فلسطين المستقبلية، وكذلك حسب المبادرة العربية في قمة بيروت 2002م، في حين أن قرار ترمب يمنح القدس بشقيها الغربي والشرقي عاصمة لإسرائيل، ناسفًا ومُفرّغًا المفاوضات من مضمونها وهدفها، وهو ما يجعل الاستمرار في المفاوضات، ممارسة عبثية وبالتالي يلغي دور الولايات المتحدة كراعٍ ووسيط في عملية السلام، كما يرى ذلك الفلسطينيون وكثير من العرب حتى الحليف التركي. وُصف القرار بوعد بلفور ثاني والنكبة الجديدة، فهو نسفَ مواقف الإدارات الأميركية المتعاقبة من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وخالف القانون الدولي واتفاقية جنيف الرابعة وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة، وحوّل القدس بشطريها الغربي والشرقي من مدينة محتلة تخضع لمفاوضات الحل النهائي، لعاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل، وهو ما سيشجع دولًا أخرى على الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفاراتها إليها.
سحب الوصاية
من تداعيات قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل سحب الوصاية من الأردن على الأماكن المقدسة فيها، وهو ما يضع إدارة المقدسات الإسلامية والمسيحية تحت سيادة الاحتلال الإسرائيلي، وليس تحت وصاية الأردن كما هو متفق عليه. والأخطر أن قرار ترمب ينزع القدس من طاولة المفاوضات ويشرعن الاحتلال، والأخطر من ذلك منح الاحتلال الإسرائيلي الحق بضم المزيد من الأراضي بمصادرتها وتسريع وتيرة تهويد القدس وتهجير المقدسيين الفلسطينيين، وهو ما يشكل بالفعل نكبة جديدة للفلسطينيين وبخاصة المقدسيون. واضح أن الرئيس ترمب اتخذ القرار الخطير والمستفز حول القدس مرتكزًا على بعد عقائدي يميني أرثوذكسي لإرضاء اللوبي الأميركي- الإسرائيلي (APEC) المتنفذ. وأيضًا لإرضاء قاعدته المهمة، اليمينية الإنجيلية المتطرفة التي يمثلها نائب الرئيس مايك بنس، تنفيذًا لوعدٍ قطَعَه وكرره كمرشح في حملته الانتخابية بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، وهكذا تبقى السياسة الأميركية الخارجية شأنًا داخليًّا!
في دراسة مهمة للمركز الأول للدراسات الإستراتيجية CSIS في واشنطن، عن التداعيات الإستراتيجية للقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية للقدس، ذكر أن ذلك «سيضر بمصالح أميركا الإستراتيجية وبمصالح إسرائيل الأمنية، وسيتسبب في مشاكل لحلفائنا العرب، وسيسيء لمكانة أميركا ودورها في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وكذلك سيوجد خلافًا مع حلفائنا في أوربا، وسيساعد على تجنيد إرهابيين ومتطرفين جدد.. وسيمنح إيران وحزب الله وروسيا الفرصة لاستغلال هذا الغضب والانقسام لمصلحتهم. لم يكن هناك أي داعٍ أو مبرر للرئيس ترمب للقيام بذلك. وكل ما كان عليه أن يقوم به، تجاهل وعوده كمرشح. كما فعل الرؤساء الأميركيون السابقون… في حين تستمر إسرائيل في خلق واقع جديد على الأرض». وأشارت الدراسة إلى أن الخلافات الفلسطينية والمواجهة المستمرة بين العرب وإيران، «غيّبت موقفًا عربيًّا-إسلاميًّا جامعًا وفعالًا يواجه ويفرض موقفه على إدارة ترمب».
وكان من اللافت ترويج إدارة الرئيس ترمب ما عرف بـ«صفقة القرن»، التي سيعلن عنها مستقبلًا بصفته صانع الاتفاقيات، ولكن ما رشح عنها لا يشي بأنه يمكن أن تُقبل من الفلسطينيين، وبخاصة أن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس وصفها بـ«صفعة القرن»؛ لأنها تقضي على القضية الفلسطينية وتنشئ حلفًا إقليميًّا في مواجهة إيران.