جواز السفر في الحضارة الإسلامية
قد يظنّ بعض الناس أن جواز السفر الحالي من مبتكرات العصور الحديثة، ومستنبطات المدنية المعاصرة. والحقيقة هي غير ذلك تماماً؛ فقد كان جواز السفر من الأمور التي سبق إليها المسلمون منذ قرون طويلة؛ إذ كان يُعرف لديهم بنظام: جواز المرور، أو جواز السفر، أو بطاقة الطريق، وذلك في تلك العصور الزاهرة، التي شهدت اتّساع رقعة الدولة الإسلامية، حتى لجأ المسلمون إلى ابتكار جواز السفر بهدف مواجهة تسلّل الغرباء من جواسيس وقطّاع طرق؛ من أجل الحفاظ على أمن البلاد وسلامتها، وجعلوه من الوسائل الضرورية، يحمله كلّ من يدخل بلداً، أو يجتاز حدود دولة إلى دولة أخرى، سواء في مهمة رسمية من قبل دولته أو في مهمة غير رسمية كالعمل والتجارة والسياحة، وغير ذلك من شؤون السفر. ونعيش في هذه السطور مع رحلة جواز السفر في الحضارة الإسلامية؛ لنرى كيف أن المسلمين قد حدّدوا خلاله صفة حامله، وهيئته، وما يحمله معه من نقود وأمتعة، في صورة مبسّطة دقيقة تدلّ على مدى رقيّهم وتقدّمهم في تلك العصور التي شهدت ازدهار الحضارة الإسلامية.
ظهور جواز السفر في الحضارة الإسلامية
تذكر المصادر التاريخية أن جواز السفر من الأمور التي سبق إليها المسلمون؛ فقد ذكر النووي في كتابه (بستان العارفين) أن «أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه منع السفر إلى أرجاء الدولة إلا بإذن منه لمدة معينة، وبوثيقة موقّعة بخطّ يده؛ إذ رأى أن الدسائس والفتن بدأت تدخل على المسلمين»(1). لكن بعض الباحثين يرجع بدايات اتّخاذ جواز السفر عند المسلمين إلى أوائل المئة الثانية للهجرة في ديار المشرق في مصر والشام والعراق. ومما يدعم هذا الرأي العثور على وثيقة لجواز سفر كان معمولاً بها خلال تلك المدة، أوردها المستشرق جروهمان في كتابه (أوراق البردي العربية)، ونصّها: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من عبدالله بن عبيدالله، عامل الأمير عبدالله بن الحبحاب على أهل أشمون لقسطنطين، شاب أبط، بخدّه أثر، وبعنقه خالان، سبط، من أهل بسقنون من أعلى أشمون، إني أذنتُ له أن يعمل بأسفل أشمون؛ لوفاء جزيته، والتماس معيشته، وأجّلته شهرين من مستهلّ ذي الحجة إلى انسلاخ المحرم سنة ستّ عشرة ومئة، فمن لقيه من عمال الأمير أو غيرهم فلا يتعرّض له في ذلك الأجل إلا بخير، والسلام على من اتبع الهدى، وكتب طليق في مستهل ذي الحجة تمام سنة عشرة ومئة»(2).
جواز السفر في العصور الإسلامية المختلفة
إذا تتبّعنا مسيرة جواز السفر في العصور الإسلامية المختلفة نجد أن الاهتمام به بلغ في عهد الدولة الطولونية مبلغاً عظيماً؛ إذ كان «لا يجوز لرجل أن يخرج من مصر على عهدهم إلا بجواز»(3)، وفي بلاد الشام وأطرافها يرجع صدور أول جواز سفر إلى النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، وتحديداً سنة 242هـ في أثناء حكم المعتضد بالله العباسي، الذي جاء في سيرته أنه «كان شهماً عاقلاً، ظاهر الجبروت، وليّ الخلافة والدنيا خراب، والثغور مهملة، فقام قياماً مرضياً حتى عمرت مملكته، وكثرت الأموال، وضُبطت الثغور، وحُرِّرت أجوزة السفر للخارجين منها والداخلين عليها»(4). وفي عهد عضد الدولة البويهي أحدث أول مرة نظام مراقبة الأبواب في عاصمة بلاده شيراز، حتى قال المقدسي البشاري في حقّها: «منع الخارج منها إلا بجواز، وحبس الداخل والمجتاز»(5). وفي العصر المملوكي وُضع نظام دقيق لجوازات المرور التي كانت تُعرف في ذلك العهد بأوراق الطريق؛ فلم يكن أحد يستطيع مغادرة الناحية التي يقيم بها إلى ناحية أخرى من دون إذن وليّ الأمر؛ إذ كان يُقبض على مَن وُجد مسافراً ومتنقلا من مكان إلى آخر غير مسجل؛ أي: بجواز. ومما يؤكّد ذلك الرواية التي أوردها ابن سعيد المغربي المتوفَّى عام 1286م، وجاء فيها: «كان لا بد من جواز للخروج من مصر، ولا بد أن يُدرج في هذا الجواز كلّ الذين يرافقون المسافر، حتى ولو كانوا عبيده»(6). وفي عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون عُني بإصدار جوازات المرور للتجار الذين وفّر لهم الطمأنينة في أسفارهم. وإذا انتقلنا إلى بلاد الأندلس ومراكش فلم تصلنا مثل هذه الأنظمة المتعلقة بإصدار جوازات السفر على النحو الذي كان منتشراً في المشرق الإسلامي سوى مرات قليلة كانت تُراقب السابلة في سفرها عند قيام الحروب بين العرب والإفرنج.
شكل جواز السفر وصيغته
أما عن شكل جواز السفر، أو أوراق الطريق كما كان يُطلق عليها في تلك العصور، فكانت ثلاثة أوصال في قطع العادة (أي: القطع الصغير)، يُكتب في أعلاها سطر واحد صيغته: ورقة طريق على يد فلان بن فلان الفلاني لا غير، ثم يُخلى بين العلامة تقدير شبر، ويكتب في بقية ذلك الوصل قبل الوصل الثاني بأربعة أصابع مطبوقة بغير بسملة: «رسم بالأمر الشريف العالي المولوي السلطاني في الملكي الفلاني، أعلاه الله تعالى وشرّفه، وأنفذه وصرفه، أن يمكّن فلان الفلاني، وتُذكر ألقابه إن كان أميراً، أو متعمّماً كبيراً، وممّن له قدر، وله ألقاب معهودة، أو غير ذلك بحسب ما يقتضيه الحال، من التوجّه إلى جهة قصده والعود، وإذا كان هذا المسافر أميراً أو عالي المقام كُتب: ويُعامل بالإكرام والاحترام، وإن كان غير ذلك كُتب بدله: مع الوصية به ورعايته ونحو ذلك، وإن رُسم له بنفقة كتب فيه: ويُصرف له من النفقة في كلّ يوم كذا درهماً»(7)، وهو يشبه إلى حدٍّ ما ما يُطلق عليه اليوم بدل السفر والمبيت والإعاشة ونحو ذلك.
تسجيل البيانات
تذكر المصادر التاريخية أنه كان يقوم بأمر الجواز، وتسجيل البيانات المطلوبة، شخص يُطلق عليه (متولّي الجواز). ففي بغداد عُثر على خبر شخص كان يتولّى أمر الجوازات في بغداد ذكره ابن الساعي في جملة من توفِّي من الأعيان في سنة 603هـ/ 1206م: «كان يُعرف بيوسف بن القابني، حاجب السور متولي الجواز، توفِّي في عاشر المحرم، وكان مشكوراً»(8). وكان متولي الجواز هذا يسجّل بالجواز اسم الشخص، واسم من معه، وكم عمره، وعمر من معه، ومن أيّ بلد، وما معه من مال ومتاع، وإذا كان الشخص آتياً من مكان آخر كتب عليه: ورد علينا فلان الفلاني في يوم كذا من شهر كذا سنة كذا، وكان معه كذا؛ لئلاّ يذهب من مال الرجل ولا من متاعه شيء ضياعاً، فمتى ذُهب منه بشيء أو مات علم كيف ذهب، وردّ عليه أو على ورثته من بعده.
ظلّ جواز السفر يتقلّب في التاريخ، ويدور مع الزمان، حتى وصل إلى الصورة التي هو عليها الآن؛ ليذكّرنا مع هذا التقلّب والدوران بعظم حضارتنا الإسلامية، التي لم تغفل شاردةً أو ورادةً تهدف إلى تنظيم حياة المجتمع والرقيّ به؛ دعماً للأمن والاستقرار في ربوع البلاد الإسلامية.