القبقاب.. انفراد عربي ودلالات اجتماعية
ناعم، عطوف، زحاف، رطب، صحي، قوي، رنَّان، كعبه العالي زينة العروس، ومصاحبها في حمام الهناء؛ لزيادة طولها ورقتها وأنوثتها، دقته شفرة سرية لقلب الحبيب، قائد عصر الجواري الذهبي، وحامل فرحة العيد، وهِبَة رمضانية، وصدقة للمساجد، دليل العظمة والشموخ، وسفير هدايا الملوك والسلاطين، والمنقذ من أوحال الشتاء، ومع ذلك فهو مخادع، ووضيع، وكاذب وهدَّار، وسبب الهلاك والموت، مدمي الرؤوس، ومُشعِل المعارك، ويرافق وداع الخطيب (المتعوس)، ووسيلة للانتقام، ودليل الإدانة، والعقاب، وتغيُّر الحال وتبدلّها.
جذبتني رَنَّة القبقاب بعيداً من رنين (الموبايل) بشدة؛ للتجوال بين ثنايا تاريخنا وتراثنا، حيث يقف فيها القبقاب شامخاً ومؤثراً، على الرغم من تراجعه واندثاره الآن، فلم أجد أدقّ من هذين البيتين لابن هانئ الأندلسي، وهو يصف لسان حال القبقاب وهو يبكي على حاله:
كنتُ غصنـاً بين الأنـام رطيبـاً مائس العطف من غناء الحمام
صـــــــــرتُ أحكي رؤوس أعداك في الذل بـرغـم أداس بـالأقـدام
وتختلف رؤية القَبْقاب في المنام، فهي تدل على الزهد والتوبة، والطهارة والزواج للعَزَب، أو تدل على الخصام، أو إظهار سِرّ لمن يريد كتمانه، ومَن رأى أنَّه يمشي في قَبْقاب زجاجيّ فإنه نَمَّام مُنافِق، ومَن رأى أنه يلبس قبقاباً جديداً فإنه يشتري غلاماً.
وتنطلق دَقَّة القَبْقاب المدوية في الأمثال؛ كي تصنع البهجة والمؤامرة وتقلب الحال وتغيرها، فيقال في الأمثال: (سبحان العاطي الوَهَّاب بعد الشبشب والقبقاب)؛ أي أنه بعد الفقر أصبح غنياً ونسي أيامه القديمة الفقيرة، ويقال أيضاً: (صرصار الشِّشْمة والقبْقَاب عملوا علينا أصحاب)، أو: (المكنسة والقبقاب عملوا علينا أصحاب)، وهو يطلق على الوَضِيعين يتّفقان ويتآمران للنِّكَاية بكريم، بينما نجد في ارتباطه بالأعياد كان يقال: (من ليس له قبقاب ليس له عيد)، أو: (رَيَّحْ مَدَاسَك يرتاح راسك).
مميزات القبقاب
للقبقاب كثير من المميزات، فهو رخيص الثمن، وصِحِّيّ، يشد الظهر، ومريح للقدمين، ولا يتلف بمرور الزمن، ولا تتعلق به القاذورات، ولا يحمل نجاسة في حَمَّامات المساجد في أثناء الوضوء، إضافة إلى أنه متين يتحمل الأعمال، وكان يُلبس داخل البيت خاصةً للنساء؛ لأنه مريح في أثناء الحركة والقيام بالأعمال المنزلية، وفي الحمامات الشعبية، وفي الأسواق والأزقَّة، وكان الرجال يلبسونه في الشوارع اتقاءً من الوحل في أيام الشتاء.
وكانت العائلات تميز القباقيب بعضها من بعض بوساطة وضع مسمار أو أكثر في مقدمة القبقاب، إضافةً إلى ألوان سير القَبْقاب؛ إذ كان عادةً يُزيَّن القَبْقاب الخاصّ بالأطفال بالورد والألوان، على حين تُميَّز قباقيب الرجال من غيرها بألوانها التي تراوح بين اللونين البني والأسود.
وشكل القَبْقاب في الماضي مختلف عما نراه اليوم، فنجد بعض القباقيب قريب من الأرض، وبعضها يصل ارتفاعه إلى نصف ذراع، وكان يلبسه من كان يرغب في تطويل قامته لابتلائه بالقصر المفرط، أو كان محباً العظمة والظهور، وكان استعماله والسير به له قواعد خاصة به تحتاج إلى تدريب؛ كي تتمكن الفتاة من إصدار الصوت في القَبْقاب فيبلغ أثره إلى نفوس شباب الحارة.
والقَبْقاب الذي نراه الآن يتكون من قالب خشبي ذي المقاس الموحد، وقطعة من (كاوتش) سيارة، ومسامير، وقطعة صغيرة من الصاج؛ لإحكام ربط (الكاوتش) بالقالب الخشبي، وأصعب مرحلة هي تصميم القوالب الخشبية التي تتم بوساطة ورش نجارة متخصصة، وفي الماضي كان الحِرَفِيُّون ينحتون النِّعال بأيديهم إلى أن ظهرت آلات تؤدي هذه المهمة، فأصبح عملهم يقتصر على تثبيت الجزء المصنوع من الجلد، ويعد خشب التوت والجازورين والفيكس هم أفضل أنواع الخشب المستخدمة في صناعة القبقاب.
القبقاب وصراع الحضارات
في صراع الحضارات، يقف القَبْقاب العربي شامخاً أمام الغرب وجبروته، فلم أعثر في بحثي عنه في الحضارة الأوربية إلا في موضع واحد –ولا يصح أن نعدّ حذاء سندريلا قبقاباً- وهو: «لا ينبغي أن نُلبس الميت قبقابيه لئلا تُجرح رجلاه، فيدخل الجنة، وهو أعرج؛ الأمر الذي لا يُرضي القديس يوحنا». على حين ينتشر القَبْقاب العربي في كل محطاتنا التاريخية، ويشارك في وضع التاريخ أو تغيير مجراه، وأشهر الوقائع في ذلك واقعة القَبْقاب الذي قُتِلت به شَجَرُ الدُّرّ على أيدي الجواري، وكان مصنوعاً من خشب الورد، ويسمي (قبقاب أم علي)، يليه (قبقاب الدراويش)، وكان سلاحاً قوياً ضد جنود الحملة الفرنسية في ثورة القاهرة الثانية؛ إذ دَقَّت فيه النساءُ مسماراً؛ كي يصيب جنود الحملة.
القباقيب الدمشقية هي الأشهر
تُعَدّ دمشق من أشهر المدن التي صنعت القباقيب، وبها سوق عريقة تسمى (سوق القباقبية)، ومن هذه السوق كانت القباقيب تُصدَّر إلى جميع المدن العربية، وعلى الرغم من وجود صُنَّاع مَهَرة في تلك البلاد، فإنهم لم يكونوا في حرفية الدمشقيين ومهارتهم؛ لذلك فالقباقيب الدمشقية لها أشكال ومسميات؛ منها (الزحاف)، ويقال له: الزحافي، ويُعَدّ أكثر الأشكال رواجاً لِرِخَصِه، وتنتعله العامة لسهولة المشي والجري به، و(قبقاب سجك) ويتميز من غيره بأن مقدمته ملتصقة بالأرض ومؤخرته لها كعب مرتفع، و(الشبراوي) وهو المرتفع عن الأرض بمقدار شبر، وهو قبقاب نسائي استُخدم بكثرة، ويكون خشبه مرصعاً بالصَّدف، وسيره مطرَّزاً بخطوط الفضة، و(الجركسي) أو ما يسمى (قبقاب المهاجرين)، وسُمِّي بهذا الاسم لقيام بعض الحرفيين من المهاجرين والجراكسة، الذين قِدموا دمشق بصناعَتِه لأهل بلادهم الأصليين، وهو أقل الأشكال ارتفاعاً وألصقها بالأرض وأبخسها ثمناً، وهناك (العكاوي) وهو أقل ارتفاعاً عن الأرض من (الشبراوي)، ولا يعلم أحد سبب تلك التسمية، فربما كان أهل عكا يلبسونه خاصةً، أو أنه كان يُصنع في مدينتهم عكا. وهناك قبقاب (الكندرة) وهو يشبه قبقاب الجراكسة إلا أنَّ له مقدمة ومؤخرة، وقد انتعله كثير من الفقراء والموسرين؛ اتقاءً من أوحال الشتاء ورخص ثمنه.
وكان القَبْقاب في الماضي من ضمن أساسيات جهاز العروس -وكرسي الحمام كذلك- وكان القبقاب يغلف بالمخمل، ويطلق على قبقاب العروس في منطقة الحجاز اسم (القرحاف)، وله أسلوب مميز من غيره في تزيينه وتجميله بالفضة والذهب.
وأغرب قصص القَبْقاب التي وجدتها في تاريخنا ما حُكي عن أحد لاعبي السيرك الذي سافر من حلب إلى دمشق ، وأظهر ألعاباً وفنوناً غريبة منها أنه مشى على الحبال منتعلاً قبقاباً وتحته ألواح الصابون. وهناك حادثة شهيرة أخرى كان القَبْقاب فيها سبباً في الهلاك والموت، وهو ما حدث لقاضي الحنفية بمصر برهان الدين إبراهيم الكركي (922هـ/ 1516م)، وكان يقف على بركة الفيل ليتوضأ وفي رجله قبقاب، فحدث هبوط في السلم فزلقت قدماه فوقع في البركة، وكانت ممتلئةً بمياه فيضان النيل، ولم ينتبه إليه أحد لينقذه، وعندما غاب وبحثوا عنه وجدوا عمامته طافية فوق الماء وأحد قَبْقابيه على السُّلَّم. وكان أهل دمشق يستخدمون القَبْقاب بوصفه نوعاً من العقاب والتنديد والتسميع بالجاني؛ إذ دخل ضمن أدوات العقاب، وكان يُعلّق في عنق المُشهَّر بهم.
وعلى الرغم من فائدة القبقاب وجماله، فإنه يحمل القسوة ويمثل حرجاً للعريس الذي يتقدم إلى خِطبة فتاة، فبعد أن يزور بيت الفتاة ويراها وتراه، ولم تُعجب العروس به، كانوا يضعون قبقاباً على عتبة باب الدار، وعندما يخرج الخاطِب من منزل العروس ويرى القَبْقاب على الباب يعلم عدم قَبول خِطبته فلا يعود، أو يصبغونه بلون ذهبي ويضعونه في علبه فاخرة ويرسلونها إلى أهله.
أما الآن فيرى كثيرون القبقاب لا يناسب العصر؛ لاختلاف أنماط الحياة والسكن والتطور، فلم يعد القَبْقاب حذاءً شعبياً، بل أصبح حذاء سياحياً، وفي بعض الأحيان حذاءً طبياً، يصفه الأطباء لبعض المرضى؛ ممن يعانون مشكلات في أقدامهم؛ مثل: الحساسية، أو مرض السكري، لكن لا يزال الصوت الذي يصدره يثير لدى السامع إحساساً مختلفاً يعيده بالذاكرة إلى الزمن القديم.
ولا نستطيع أن نخلع القَبْقاب من قدم التاريخ العربي، إلا بعد أن نستمع إلى نصيحة أهل الشام القديمة التي تقول: البسوا في أرجلكم القبقاب، فهو من الخشب ومريحٌ للقدمين، ولا يتأثر بالحرارة أو البرودة، ولا يسبب التشققات الجلدية؛ لأنه ليس هناك أحنّ من الخشب على بني آدم. هذا وننتظر أن نسمع دقة القَبْقاب العربي تحدث دوياً هائلاً في التاريخ العالمي، كما تدقّ في أسماعنا بوصفها دليلاً على عمق تراثنا العربي الخالد.