«امرأتان» رواية مأساوية
أن تكتب وأن تجد شخصًا يصغي إلى ما تقول، هذا يَعْني أن كتابك وصل إلى هذا الشخص؛ هذا ما يجعلك تدرك إلى أيّ حدّ أصبحت كاتبًا. نعم، الكتابة تدفع إلى الغرور، بالقدر نفسه الذي تدفعك به إلى التواضع؛ لأنك في لحظة تشعر أنك ملكت العالم؛ لأن شخصًا ما قدّر كتابك، وأخبرك إلى أي حدّ هو معجب بما كتبتَ وبما تمثله له بوصفك كاتبًا. وفي اللحظة التي بعدها وبالحماس نفسه يهتمّ شخص بأن يوصل إليك رأيه فيما تكتب، ومضمون هذا الرأي أن ما تكتب من أكثر الأشياء تفاهةً في العالم. هذا هو عالم الكتابة، حيث أنت وَحْدَك مع القارئ، لا توجد وسائط.
الحلّ الوحيد إذا أردت أن تعبّر من دون أن تتضخّم ذاتك، وتشعر أنك الكاتب الوحيد في الكون، أو أن تتحطّم معنويًّا، وتكسر قلمك، وتشعر أن ما تكتبه لا معنى له، هذا إذا تجاوزنا مسألة التقييم الأولية لقِيمتك بوصفك كاتبًا التي لا بد أن تخوضها عند البدايات؛ عليك أن تكتب لنفسك، تصدّق ما تكتبه، لا تمارس الألعاب التي يمارسها بعض الكتاب للوصول إلى القارئ. لو كنت أنت القارئ الأول لما تكتب، لو كنت تؤمن بذائقتك، ستعرف وقتها أنك لستَ أعظم كاتب في الكون، ولستَ تافهًا أو مكرّرًا أو بقية الصفات التي أطلقها عليك قارئ ما. أنت كاتب، تكتب لأن هذا شيء تحبُّه ولا تستطيع أن تمضي في الحياة من دونه، بذلتَ في المسألة وقتًا طويلًا، قرأتَ وتعلَّمتَ واستمعت إلى نُقَّاد، صقلت موهبتك، وقرأت للآخرين بعين مفتوحة وبِنَهَمٍ شديد، وباستمتاع يفوق أو يشبه الاستمتاع بسائر الملذَّات الأخرى في الحياة.
لا يمكنك أن تكون كاتبًا جيدًا إذا لم تكن قارئًا جيدًا، هذه اللذة التي تجدها في القراءة تشبه اللذة التي تجدها في الكتابة، لا أتصوّر كاتبًا حقيقيًّا لا يجد المتعة في الاثنين.
سأتحدث الآن عن روايتي اامرأتانب التي تحكي قصة صديقتين، تشبه إحداهما الأخرى في الرُّوح، بينما تختلفان في كل الأمور الأخرى: البيئة، والأهل، والجذور، والتربية، وكل شيء.
أميركا والتزام الكتابة
بدأت الفكرة بقصة شخصية واحدة هي ليلى القادمة من عائلة محافظة؛ قصة سمعتها بشكل مختصر في عبارة واحدة، لكنها ظلّت محفورة في رأسي، وأردت أن أكتبها، وأن أكتبها روايةً. عُرفت بكتابة القصة القصيرة، لكن هذه القصة نفسها شعرت أنني لا أستطيع كتابتها قصةً قصيرةً. بدأت كتابة الرواية منذ مدة طويلة، كتبت عدة صفحات ثم أهملتها. الكسل، وعدم التفرغ، أو عدم أخذ أمر الكتابة بجدية؛ كلُّها أسباب جعلتني أؤجل الموضوع. حدث أن ذهبت في خريف عام 2009م إلى ولاية آيوا بأميركا؛ إذ دُعيت إلى حضور برنامج الكتابة العالميّ، وهو برنامج من أرقى البرامج الثقافية على مستوى العالم؛ إذ يجتمع كُتَّاب من كل دول العالم في مكان واحد، ويعيشون بوصفهم كتابًا فقط مدة ثلاثة أشهر، ويلتقون الطلاب في الجامعة، ويقرؤون أعمالهم على الناس في المكتبة العامة، ويتحاورون. أعتقد أن هذا البرنامج كان له فضل كبير علَيَّ؛ كي أدرك قيمتي وواجباتي بوصفي كاتبة، قبل أن أشارك فيه كنت أقرأ عن الكُتَّاب الذين يُصرّون على أهمية الالتزام بالكتابة بوصفها عملًا يوميًّا؛ كي تستطيع أن تنتج كِتابًا، لكني لم أجرّب، أو لم أُومن بأهمية ذلك بشكل فعليّ، ربما لهذا كان يناسبني أن أكتب القصة القصيرة التي تعتمد على حالة انفعالية مفاجئة؛ لهذا السبب لم أستطع كتابة روايتي، عرفت ذلك في أميركا، وبعد مشاهدة كل هؤلاء الكُتَّاب، وتعرّفت أهمية الكتابة والالتزام بكوني كاتبة، قرَّرت أن أعود لِألتزم.
بعد عودتي كتبت السيرة الروائية امختلفب التي حازت جائزة الكتاب التي تتبنَّاها وزارة الثقافة والإعلام. كنت أكتب 500 كلمة في اليوم، كان ذلك التزامًا قررته، وهو ما جعلني أنجز الكتاب، وكان كتابًا -أيضًا- بدأته ولم أكمله. بعد امختلفب نفضت الغبار عن روايتي، وعملت عليها بالطريقة نفسها 500 كلمة في اليوم، وأنجزتها.
مرام الصديقة كانت في فكرة الكتاب الأولى محض عامل مساعد؛ كي تساند ليلى في قصتها، لكن مرام أصبحت مهمةً بحجم أهمية ليلى، لم تَعُد الحكاية حكاية ليلى، صارت الحكايةُ حكايةَ ليلى ومرام؛ حكاية امرأتين.
حبس انفرادي
الكتابة عمل مذهل؛ لأنها تأخذك معها إلى متاهات لم تكن تتصوّرها، وتجعلك تبحث في أمور لم تكن تعتقد أنك ستبحث فيها؛ حين بدأت كتابة الفصل الذي تعيش فيه ليلى محبوسة بين أربعة جدران كأنها في حبس انفرادي؛ اضطررت إلى أن أقوم بالبحث عن أبحاث وكتابات تُعْنَى بالتأثير النفسي في السجين الانفراديّ، وحين ذهبتُ إلى المحكمة، قمتُ بسؤال المحامين عن الطريقة التي يمكن أن تتزوَّج بها فتاة عن طريق القاضي.
أشياء كثيرة ترغمك الكتابة على أن تبحث فيها، أشياء لم تخطر ببالك، عليك أن تبحث بإخلاص؛ لأن روايتك يجب أن تبدو حقيقية؛ حدثت ووقعت، حتى لو كان منبعها خيالك؛ خيالك يسلسل لك الأحداث، لكن الأحداث نفسها تستمدها من حكايات سمعتها، أو تعرف أنها ممكنة الحدوث، ردود أفعال أبطالك يجب أن تكون -أيضًا- ردود أفعال بشرية، قام بها أشخاص في حالات مشابهة؛ كلُّ ذلك يجعل ما تقوله صادقًا وحقيقيًّا.
يبقى الموضوع، بعد الشرارة الأولى، استمرارية الكتابة تعتمد على شغفك بالموضوع، إحساسي أنا بكل هذه التعقيدات التي يمرّ بها المجتمع من أجل حكاية حبّ بسيطة، شيءٌ قاسٍ ومدمِّرٌ وغير إنسانيّ. ربما كانت ليلى ستترك أحمد لو تزوَّجته، وربما كانت مرام سترفض (سامي) لو تقدَّم لها. كان يجب أن تكون الحكاية بهذه البساطة. لكنها صعبة جدًّا ومعقدة جدًّا في مجتمعاتنا؛ لهذا تمكّنت من كتابة رواية بهذه المأساوية.