طيف امرأة الجبل*… جبل «هِتّاش الخلا»

طيف امرأة الجبل*… جبل «هِتّاش الخلا»

الجبل من بعيد علامة ثابتة يتلاعب بها السراب في النهار، وأنا على سفحه علامة متحركة، وندخل نحن الاثنان في لعبة السراب في نفس اللحظة دون إحساس بالفرق من جهتي. وإن كان هناك من يراقبنا من بعيد، فإني غالبًا لا أظهر في اللعبة إلا عبر المقراب. أختفي عن العين المجردة بسبب بعد المسافة وبسبب طريقتي في التخفي لكني أظهر في الرؤية عبر الآلة مع مزيد من التركيز والبحث. ليس من الصعب أن أُرى في النهار عبر المقراب إذا تخليت عن شيء من الحذر والتحرز. وفي الإجمال، لا يفرق نهم الآلة بيني وبين الجبل، فأية نقطة حولي إنما هي مكاني التالي أو كانت مكاني قبل قليل، لكنها في كل الأحوال نقطة ثابتة في الجبل دائمًا.

إنني في كل الأحوال، في مكان ما من الجبل، أمشي على السفح، أو أستكن في غار، أو أقعي بحذر لأنني لمحت شيئًا رابني، أو أنبطح مثل أفعى على الحجارة لأحصل على شيء، أو لأختفي من شيء. نحن على منوال ما يحدث في كل مرة، تلمسنا الهبوب ويمسنا الضوء، غير أننا في حال المقراب ننحشر في ثقبين آليين يسلطان علينا من بعيد. من هناك تبدأ اللعبة، أما نحن فلا نبالي كثيرًا بالمتعة القائمة في تلك الناحية. إن شئت الدقة، لا أكترث لمتعة من يختبئ هناك، إلا بقدر ما يمس سلامتي الشخصية. وبهذا الخصوص، هل هناك متعة فيما يقوم به هو، أم إن الأمر مجرد تربص مميت على نحو ما تفعل الأفعى قبيل الانقضاض. إنه في نقطة بعيدة، لا يمكننا، أنا والجبل، الوصول إليها معًا؛ وذلك بسبب عجزنا عن التصرف بالمثل، لسنا عيونًا ولسنا آلات، ولا يحسن أن ينفصل أحدنا عن الآخر، وليست لدينا خطة محكمة لمراقبة أحد، بينما هو في نقطة مناسبة تسمح له بمراقبتنا بصبر وبطء مقصودين.

وبما أنني أنا المقصودة في اللعبة أكثر من الجبل، فإنه يراقب ما إن كانت هناك حركة مني أو ردة فعل تثيره على نحو خاص. يراقب تدرجات اللون فيما تكسر من النهار على الصخور والحجارة والأشجار، وذلك ليس لفرجة عابرة، وإنما لتزداد المتعة عنده إذا ضمني إلى التضاريس. أفهم ذلك، فهو تارة تستفزه تفاصيلي إذا نظر إليّ كرجل، يشتهيني ويحلم بأشياء، وتارة أخرى يكتفي بمراقبتي ليطمئن إلى أنني هناك وحسب.

أما تفاصيلي، فإذا كنت أعني جسدي، فإنني في الأوقات العادية التي أراها آمنة أمشي على سجيتي في السير المتمهل، في التخفف من لوازم المشي المجربة عادة في السهول، لا أتوقى من العيون، ولا ألم جسدي في صمت امرأة رأت رجلًا على الطريق فارتبكت. إنني أمشي على رأي الجبل، وهو أن الصخور لا تَرى. ليست ملساء تمامًا لتشف، وليست فيها نتوءات تسمح بالقول بأنها وجِدت لمراقبة الخارج، ميزة أنها صماء تحميها من القلق على أي شأن آخر، وهذا يحميني أيضًا، وهي قطعًا لا تتطفل على جسدي لأنها دومًا ملمومة على نفسها كما تفعل القنافذ الوجلة. وسواء جلست على صخرة أم مررت بها فإن شأنها سينصرف عني بعيدًا، إنني بالنسبة إليها كقطرات المطر التي تنزلق من على سطحها دون أن تتمسك بها، أو كالريح التي مهما كشطت منها على مر السنين فإنها لا تنفعل ولا تشكو النقص.

ورأي الجبل يقول: إنني محرزة بمنعة خاصة، فالصاعد إليّ يجب عليه أن يلهث، ينقصه فقط أن تتردد أنفاسه بشدة في صعوده لأعرف، فإن فعل فإن لهاثه يشي به مهما تخفى عني. وعندئذٍ أتوارى من الطلب. لا أهرب إلى الوجه الآخر من الجبل، ولا أتعلق بقلته كما تفعل الوعول في طلب النجاة، وإنما أتماهى مع تضاريسه فلا يراني إلا الفهامة الحاذق في اكتشاف الفوارق الدقيقة بين الأشكال الأصلية والمتماهية معها.

ورأي الجبل يقول: إن الصخور لا تؤلف ظاهر الجبل ليثقل على الأرض، وإنما تؤلفه ليطمئن، فالجبل الضخم دون صخور ضخمة ليس إلا كتلة صلعاء من الطبيعة تبعث على الخوف وينعدم فيها التناغم مع البيئة، بل لن يجد من يثق به حد أن يختبئ فيه أو يجعله مأوى. والصخور أيضًا تحمل الجبل لتصنع الطريق فيه، تسهله وتوعِّرُه، تطيله وتقصره، وذلك ما يجعل اللهاث للصاعد أول واشٍ به. ورأي الجبل يقول: إن أشجار الجبل ليست فضولية أبدًا وذلك لأنها منهمكة باستمرار في لملمة كسورها ومواساة نفسها. صحيح أنها تطل من كل جوانب الجبل على الأراضي المنخفضة، ويمكنها أن تكون رقباء صامتين على ما يقع تحتها، لكنها بالرغم من ذلك تبقى حدود اهتمامها في أنها شيء مكتفٍ بذاته. الصخرة كائن زاهد، والشجرة كائن مواسٍ. الصخور تنسى عظمتها بالرغم من أنها تشد الجبل من قاعدته إلى قمته. والشجرة تعالج ما تشقق من لحائها؛ لأن فيه سر كتمانها أمام الخارج، ولأن منه صون نسيج بقائها في الداخل.

ورأي الجبل يقول: إن الجرف الصخري إذ يعترض طريق الصاعدين نحوي ليس أهلًا لأن يكون جرفًا ما لم تطبعني تجاويفه بما يموج فيها من أخيلة وأوهام. إنني جزء من الوهم تارة، وجزء من الحقيقة تارة أخرى. شيء من الوجود وشيء من العدم. أُرى في الحركة وأُرى في السكون. لدي صبر قط جبلي في انتظار صيده، ولدي تململ جرذ جائع. لي في كل حال ما يناسبه.

ويقول رأي الجبل: إن أرنب السفح إذ تلتصق بجحرها خشية أن تصاد، فإنما لتريني حكمة الكمون من أجل غاية نفيسة. فروها الطفيف المغبر يهديني إلى أخذ كفايتي من الأشياء لأحيا على قدر ما يلزمني فقط، والبرثن المتوتر يهديني إلى فن المراوغة وتضليل المتعقب. وعند الإحساس بالخطر، لن تكون الأذنان الملتصقتان بالظهر، سوى طريق نجاة. أما الأنف فصياد ماهر لروائح المتعقبين. لا أقول: إنني أجيد مهنة التخفي كما تجيدها الأرانب، وإنما أقول: إنني أرنب على طريقتي. أرنب بحسب حجمي، وبقدر الأخطار التي تحدق بي، إنني أرنب أيضًا في تلمس النهايات الآمنة لمساراتي وأحوالي. ليس لدي ضغيب الأرنب لتألفني الأصوات المشابهة، أو لأندمج تمامًا في مخلوقات الفرو، ولكني أمتلك صوتًا دقيقًا يناسب طريقتي في تحذير نفسي.

وماذا عن حرباء الجبل أم حبين؟ ماذا آخذ منها زيادة في التخفي؟ إنها حرباء ملول، تقفز طوال النهار من صخرة إلى أخرى برأس مرفوعة جهة السماء، وحين تجد مطلبها يهدأ في جسمها فزع الحرابي، ويقر ذيلها الطويل على حال واحدة حتى تنتهي. وبالرغم من أنها تنفر مني في النهار إلا أنها في الليل تسمعني فحيحها في مكان ما، فأسكن تمامًا وأتعلم منها القرب الملائم لحرباء تناجي حرباء من منطقتها. ما لم أستطع استعارته منها هو القدرة على تبديل الألوان مثلها لكني استعضت عن ذلك بالقدرة على التنقل بخفة من موقع إلى آخر، وتعلمت منها كيف أصمت ورأسي مرفوعة جهة السماء.

لذلك، فإن المراقب عبر الآلة يجدني تارة على هيئة شجرة، وتارة على هيئة صخرة، وتارة ثالثة ألتصق بفجوة في الجبل كما تفعل الأرنب، وأحيانًا أسقط في صدع مثل حرباء، وأنا في كل أحوالي أعلم أنه هناك يراقبني من مكمنه. لكنه يخشى الاقتراب لأنني سأسمع لهاثه، ويرفض الابتعاد لأنه إذا ابتعد عن موقعه بردت في عينيه شهوة القناص. أو شهوة القسَم. إنه فقط يتحين الفرصة لأختار شكلي المناسب للموت، لأشير إليه أن يهمز إصبع البندقية باتجاه المرأة التي اختارت أن تكون شجرة. كلا، بل إرم الصخرة المدورة هناك منذ دقائق، إنها أنا، وإني بكامل استعدادي لأنفلق شطرين من طلقة واحدة. وإن تأخرت أو ترددت فانتظر قليلًا وسيمكنك إطلاق النار على رأس حرباء كبيرة تعمدت أن تبرز رأسها عاليًا لتكون في متناول الرصاصة. تلك الحرباء الهادئة تمامًا، هي أنا، ولا بد أنني تعلمت الكثير من الحرباء لأختار نهايتي برأس مرفوعة.

عن السراب والمقراب، إننا، أنا والجبل، طوع الرؤيتين في كلا الحالين، رؤية المقراب ورؤية السراب، لكنا في المقراب ينوس منا من بعيد ما ينوس من الطبيعة، ذهب، نحاس، حجر، شجرة، غير أنني أصغر بكثير من الجبل؛ لذلك لا مانع أن أبدو في بعض الحالات مثل خشبة ناتئة توشك أن تهوي من على السفح، أو قرن غزال ملقى على جرف منذ عشرات السنين. إنني ذلك الشيء الذي تبحث عنه العين الطبيعية من مسافة بعيدة، وعندما يعجزها العثور عليه، فإنني بالنسبة إليها فراغ، أو بقعة معتمة في نتوء جبلي فائض عن الرؤية.

الإنسان في جبل هو ذلك الشيء المتواضع للغاية الذي تهيمن على بروزه أشياء أضخم منه بكثير، فهو مقارنة مع الجبل ليس إلا كِسرة متحركة تتموج فيها أخاديع الضوء على وجه يوحي بفنائها وعدمها. غير أن الفارق بين الرائي من بعيد والرائي من قريب يتأكد في التجربة المباشرة من داخل الشي، من اختراق الشيء والوصول إلى عمقه، وبالتالي إلغاء كتمانه الظاهر للمراقب من الخارج. فالبدوي في قربه من الأشياء حوله، إنما هو بطريقة ما مخترِقٌ للصورة البرانية لها. ليس وحسب بسبب إقامته في الصحراء، وإنما لأنه أيضًا عاش أحوالها، وخبر على وجه التحديد طقوس الكتمان التي لا تظهر لأي عابرٍ في العلن.

ذلك هو القناص الكامن لي في تلك النقطة البعيدة، الممسك ببندقية مؤهلة للقتل دون أن يغادر موقعه. هل يرتاح؟ هل ينام أو يأكل؟ هل يذهب لقضاء الحاجة أو يغفو؟ بغض النظر عن كل ذلك، أظن أنه يواصل ليله بنهاره لغاية واحدة هي قتلي. إنني أعلم ذلك تمامًا، وأعلم عن القوم الذين كانوا بدوًا ثم سكنوا القرى، أعلم أنه قبل أن أهرب أقسم لأبيه في اجتماعهما الخاص أنه سيدفن الفضيحة بأنف البندقية، سيطلق علي الرصاص في مكان خفي، أو يطعنني بخنجر في القلب، وسيدعي أمام القوم أنني مت عطشًا في المراعي البعيدة. سيدفنني في مربض شاة عجفاء؛ لأنني في عينه لا أستحق قبرًا يليق بإنسان. سيقتل المرأة التي حملت عضوين تناسليين منذ ولادتها، ولا تستطيع أن تختار أي الجنسين أقرب إليها. تصدقتْ عليها الأم بعدم الإفشاء بسرها حتى كبرت، ولما اضطرت الأم إلى إخبار الأب ثم الإخوة بسبب كثرة الخاطبين، لم تستطع بعد ذلك الإتيان بحل لتهدئة الثائرين على الحقيقة الجديدة. عجزتْ عن جعل ابنتها ابنتها لتكون عروسًا. أو على الصفة الأخرى، لم تستطع جعل ابنها ابنها لتلطم أنوف القائلين بأنها لا تلد إلا إناثًا. أي مصيبة حلت باسم المنطقة الوسطى بين الرجل والمرأة؟! قالوا لها: أنتِ ولدتِ هذا المخلوق على هذه الصفة المربكة فماذا نقول للناس عنه؟ ايتينا بحل. بل ماذا نقول لهم عنك أنت؟ وتتابعت الأسئلة، وكبرت المصيبة. وأخيرًا خرجوا يجأرون بمخرج واحد. أن تكون الابنة في حجم كارثة بهذا القدر، فإن الحل الملائم هو أن توضع في حجر أمها، ثم تنسب للشياطين وليس للإنس. ستكون الأم ممسوسة بهم، معاشرة لهم في السر. إنها ابنة حرام جاءت من نطفة شيطان. ولإخفاء المسخ الشيطاني يجب قتله.

اخترت الهرب لأنقذ أمي من الفضيحة التي قرروها رغمًا عني وعنها. هربتُ في الليل إلى أحد الأودية ثم اتجهت مباشرة إلى جبل «هِتّاش الخلا» حافية القدمين باكية العينين. دعست على رؤوس الأفاعي وتخطيت أنياب الذئاب لأصل إلى الجبل. هذا هو الأمر. وأعلم أن الرجل المكلف بقتلي يكمن لي هناك منتظرًا اللحظة المناسبة. إن شئت أن أصوغ كلامي بدقة، سأقول: إنني لا أدري هل يرابط بالفعل في مكانه طوال هذه المدة أم إنه يعاود المجيء إليه بين وقت وآخر دون أن أتنبه له في بعض الأوقات. إنه يقيم في خرم جبلي ليس بالقريب مني غير أنه قريب في تقدير البندقية للمسافات القاتلة. سمعت من الرماة من يقول: إن المسافة حتى أربع مئة متر تعتبر الإصابة قاتلة، المسافة أبعد من أربع مئة متر إصابة خطرة لكنها غير قاتلة. ومنهم من يؤكد أن المسافة حتى ثماني مئة متر تدخل في الإصابة القاتلة. بالرغم من ذلك، فإنني أشعر به حولي، يأتيني إحساس ما يقول: إنه بالقرب مني في صورة من الصور، لكنه لن يستطيع قتلي إلا عندما أقرر أنا ذلك. هذه هي لعبتي معه، فالأيام القليلة التي مرت في المراقبة من جهته والتخفي من جهتي منحتني قدرًا كبيرًا من الطمأنينة بأن الأمور ستجري هكذا. نستطيع أن نقول بأنها لعبة مقابل لعبة. لكن الثمن مكلف.

دخلت الجبل حافية القدمين، لكني تعلمت بسرعة من الحيوانات والأشجار والصخور والحشرات والطيور كيف أكون محصنة على طريقتها، تلك الحصانة الهشة التي قد تتعرض لثقوب مدمرة في أي وقت. تنصلت بمشقة كبيرة من كوني إنسانًا سهل المنال. كلما تعلمت حيلة جديدة في التواري أو في محاكاة الأشياء تهذبت بطريقة أفضل على صورة جسدية غير مألوفة أو مرئية.

إنني أقيم في الجبل منذ عام واحد، أشرب من «رِسٍّ» لا ينضب ماؤه، يعرفه المسافرون العابرون وعشاق القنص، وهو حفرة متوسطة الحجم تتجمع فيها مياه الأمطار، وهذا المورد وجد هكذا منذ القدم ولا أحد يعرف كيف وجد، غير أن هناك ما يُحفر بالأيدي مع بعض الأدوات البسيطة حتى الوصول إلى عروق الماء بين الصخور. لكني أشرب أحيانًا من المطر إذا استقر في النقرات، أو من مساربه إذا جرت في المنحدرات. بعد مجيئي بفترة، اتخذت من الحجارة سكاكين ونسجت أردية لي من النباتات ولحاء الشجر، إما للتمويه أو لأنني في حاجة إلى كساء. يعرفني صيادو الوعول والأوبار بالغولة، ويتحاشون الاقتراب مني، لكنهم لإثبات حسن النية يرمون لي بلحم من صيدهم، ويلقون إلي بملابس وأردية دون أن أقترب. يفعلون ذلك على طريقة تقديم النذور لسيد المكان التي كانت شائعة بقصد حصول البركة ونيل الأمان. لكن أحدهم، وكان جريئًا، حاول استثارة اشتهائي للرجال بتعريه الكامل أمامي..


*من رواية لم تنشر بعنوان «غَبْنة».

المهرب النائم كل الصحراء فراشه

المهرب النائم كل الصحراء فراشه

عندما دخلت ليلته الأولى في الموقع الجديد، هيأ لنفسه مفرشًا بين الخيمة والعُنّة، ووجد الأرض لينة تحت جسده الضخم، وأحس بنسيم الليل يشده برفق إلى الطبيعة ويصله بالمهاب النائمة في تلك اللحظة، وكأنه يضطجع في كل الصحراء وليس فقط على فراشه. ولفرط إحساسه بالخلوة خيل إليه أنه ممسوس برقة الفراشات، فهو كل شيء فاتنٍ لكنه قابل للكسر، وهو من الرهافة بحيث تحمله نثار البذور من شجرة إلى شجرة في طول البرية وعرضها، فيضع في كل شجرة شيئًا منه للغد. وبينما هو مستلقٍ على ظهره، راقه التفكير في أن يكون هو النداوة التي في الريح، وأنه عندئذٍ أصبح قديمًا جدًّا، فإذا هو مع الريح يقطع مسافة طويلة من المرور على الأشياء، حتى إذا استنفد نفسه بعد زمن طويل وقع على الأرض كما يقع الغبار، لا ضجيج ولا رجيف ولا زلزلة.

كثافة الصمت في هذا المكان وجدها من النوع الذي لم يجربه منذ زمن طويل، لكنه يتذكره جيدًا في شبابه. كثيرًا ما كان ينام في خلاء مقفر من الأصوات إلا أصوات كائنات البر، لكن حتى أولئك الكائنات كانت منهمكة في شؤونها ولم تعره انتباهًا. هذا هو القرب من الأشياء الذي يحلم به منذ عقود، القرب الذي لا يفتته في الأشياء وإنما يبقيه معها دون أن يفقد شعوره بذاته وإحساسه بجسده. أن يسمع تعرقات أذنه إذا دفنها في الوسادة، وأن يتناهى إلى سمعه صوت ما تبقى من عشاء تلتهمه نملة. طالما شعر أنه جزء مهم مفقود في الطبيعة، وأنه لا يعرف مكانًا حقيقيًّا ينتمي إليه سوى مكانه هذا، لكنه حينما وصل إليه، حين بلغ الصحراء، كان في الثمانين. وها هو الآن يحاول النوم كمن يحاول النوم بثمانين عامًا من الانفصال عن الطبيعة.

وقد تكون هذه الليلة ليلته الأخيرة، لكنه بالرغم من ذلك يجب أن يتأمل السماء مثل فلكي، وعليه أن يعيش لحظاته مسافرًا أبديًّا في عمر النجوم. وتنهد عميقًا، ووضع ظهر يده اليمنى على جبهته وهو ينقّل بصره من موقع إلى موقع آخر في السماء الرحبة، غير غافل عن إبهامه الذي راح يرتخي إلى أسفل، جهة عينه اليسرى، مشكلًا نتوءًا لا لزوم له، لكنه موجود. النتوء موجود. إذًا، هل هذا هو حاله في هذا العمر؟ سأل نفسه وبصره ينتهي موقتًا عند النجوم في درب التبانة. هل هو نتوء لا لزوم له يعترض مسار شيء آخر؟ ما ذلك الشيء؟ هل هو زوجاته؟ أولاده وبناته؟ جماعته؟ الحي الشعبي كله؟ المدينة التي ينتمي إليها؟ هل هو نتوء مفرد في وطنه؟ أم إن وطنه هو النتوء الذي يعيش فيه؟ هل هو نتوء التصور عن الصورة؟ أم هو نتوء الشيء في الشيء نفسه؟ شبّاب في شبّاب؟ ومن عمق السماء هوى بصره إلى الأشجار القريبة الواقعة عن يساره. شجرة، شجرتان، ثلاث، أربع، وراح بصره يغوص في الليل حتى آخر شجره تمكن من رؤيتها. لو كان هناك، وراء تلك الشجرة الأخيرة، رجل مقعٍ على الأرض يحدق فيه، لما رآه. أو ذئب يتشهى وجبة. أو لص متحفز. أو حفرة عميقة تنتظر حصتها من الإنسان والحيوان منذ زمن بعيد. لو كان هناك أفعى تتربص. لو كان هناك، وراء آخر شجرة، شيء لا يعرفه على الإطلاق ولكنه موجود ويلزمه وقت لكي يظهر نفسه فيراه.

في عامه الخامس والعشرين، حدث له شيء من هذا في إحدى الفلوات، وكان ينتظر أحد رفاقه الذي غاب طويلًا في الليل والصحراء. فجأة، ظهر من وراء آخر شجرة شبح بين الإنسان والحيوان لكنه لم يتحرك لوهلة بل بقي ثابتًا في مكانه. لف شبابًا خوف وحذر، وامتدت يده إلى درج السيارة فأخرجت مسدسًا ملقمًا بالرصاص وراح يتأهب للحظة الفاصلة. خشي أن يسلط عليه الضوء فيخبر الضوء عن وجوده في الليل المتكسر من حوله فقرر أن يبقى مستورًا به على أن ينفضح فيه.

بعد ثوانٍ تحرك ذلك الشبح باتجاهه، وكان يخطو ببطء واضح وكان يتمايل في مشيته. بعد خطوات، بان قليلًا فتبين لشبّاب أنه إنسان، وكان رأسه حاسرًا، ويمسك بيده اليمنى عضد يده اليسرى في أثناء مشيه البطيء. وضع شبّاب سبابته على الزناد، وضغط على نفسه بالتزام الصبر والحكمة، ثم لما اقترب منه ذلك الشخص من جهة نافذة باب السائق غلب على ظنه أنه في مأزق وأنه يبحث عن مساعدة. بيد أنه لم يثق في ظنه، لذلك صوب المسدس ناحيته بالقرب من الباب، ثم أرخى زجاج الباب قليلًا متوقعًا أسوأ المواجهات. لكن المفاجئ أن المواجهة الأسوأ لم تقع، بل فتح شبّاب الباب بسرعة، مترجلًا من المقعد، ولامست قدماه الأرض وهو يقول بصوت خفيض: عناد.

يتذكر شبّاب تلك القصة، وهو على فراشه، وقد مست شفتيه ابتسامة طفيفة، مستعيدًا طرافة الموقف ووقع المفاجأة. كان عناد هو صديقه الذي وقف ينتظره في ذلك المكان. قبضت الدورية على سيارته وهرب هو وقد أصيب بجرح في عضده الأيسر من رصاصة لم تتمكن منه. لذلك يعتقد شبّاب، على شيء من القناعة والتوجس، أن وراء كل آخر شجرة شيئًا ما ليس طبيعيًّا. لذلك، احتفظ بذات المسدس كل هذه المدة الطويلة، وها هو الآن يضعه تحت وسادته محشوًّا بذخيرته. لم يستخدمه لأمر جدي قط، غيّر الرصاص كثيرًا منعًا لفساده بسبب طول العهد، وتعددت صيانة المسدس، واستخدمه مرارًا في التمرين على التصويب. هذا كل شيء. يقول: إن المسدس «خوي» لا يخون، لكن ينبغي الحذر من دفعه إلى معركة لست واثقًا من مبررها ونتيجتها.

وفيما هو يتنفس بهدوء دون تغيير لوضعيه جسده أحس بثقل طفيف يتسلق قدمه اليمنى باتجاه أصابعها، أرجل ناعمة الوخز بطيئة الحركة تجرب صعود قدمه المستندة على العقب. سمح للزائر بالتقدم دون أن يعلم ما هو، لكنه يعتقد أنه أحد عناكب الأرض طويلة الأرجل يبحث عن عشاء، أو عن مهجع في أعلى القدم. لما وصل إلى منطقة الأصابع جمد في مكانه بضع ثوانٍ، ثم واصل التقدم محددًا مسارًا واضحًا توقع شبّاب أن يكون الهدف هو الفرجة الكائنة بين الإصبع الكبيرة والتي تليها. إذًا، هو يبحث عن مهجع، إذ من المستحيل أن يجد هناك شيئًا يأكله إلا إذا كانت قشور الأصابع تصلح أن توصف بالعشاء.

وتوقع أن انحشاره غير الصعب في الفرجة قد يشجعه على الكمون حتى الصباح. لكن ذلك سيقيد حركة شبّاب بصورة جزئية، وبالذات في منطقة القدم المطروقة. ذلك هو معنى الأسر الهزيل الذي لا يمكن وصفه سوى أنه ورطة عارضة وحسب، على الرغم من ذلك فليس هناك سبب يدعو إلى تقويضه. وفكر، هناك أشياء في الحياة نتعايش معها في مكان واحد لكنا لا نشعر تجاهها بحب أو بكره كالحشرات غير السامة، وهناك أشياء نخاف منها كالعقارب والأفاعي ولذلك نكرهها، وهناك أشياء نتجنب الاقتراب منها خوفًا عليها من الإيذاء والموت كالفراشات والنحل. قال شبّاب لنفسه في تلك اللحظة: هذه أمور يجب أن تضعها في الحسبان ما دمت في هذا المكان. وقال لنفسه وهو ينتظر الحركة الأخيرة من ذلك الشيء الذي اقترب كثيرًا من إصبع قدمه الكبير: إن أفضل ما يمكن أن تفعله هنا لتعيش بهدوء وسلام مع كل هذه الكائنات هو أن تلغي إلى حد بعيد رغبتك في إلحاق الضرر بشركائك على هذه الأرض. لا تقتل عنكبوتًا ولا سرعوفًا ولا عقربًا ولا أفعى، ولا تقتل ما زحف على بطنه وما درج على أرجله، ولا تقتل ذا جناح ولا تسفك دم ما له ناب أو برثن إلا في حال النجاة بالنفس.

وصل ذلك الشيء إلى الفجوة بين الأصبعين، وقدر شبّاب من حركة الزائر الليلي أنه تمكن من الاستحواذ على الموضع، لكنه لم يتوقف عن الاحتكاك بالأصبعين على نحو يوحي بعدم شعوره بالراحة. إن كان ذلك كذلك فهو ليس وحده في هذا الشأن، شبّاب أيضًا يشعر بقلة الارتياح لهذا المتطفل الغريب. لقد جعله يترك استمتاعه بالمكان وينصرف عن تأملاته ويوجه تفكيره إلى حركته وماهيته وأين وصل. لم يشعر بالراحة لأن أي حركة غريبة عند الأقدام عادة ما تثير القلق والفضول معًا، وقد تعلم من مناماته في الصحراء إبان التهريب أن كل دبيب واخز يحس به الجسد ينطوي على خطرٍ ما، من العقربان إلى العقرب، وكل مس للجسد في لحظة سكونه يوجب الحذر والتصرف بحكمه، الأفعى والأفعوان.

هجع القطيع في العُنّة أو كاد، ومن مكان بعيد بعض الشيء سمع ضباح ثعلب يتردد في الليل، مرة يقترب ومرة يبتعد، ضباح متقطع يحتمل الحزن أو الوحدة. مس شبّابًا طرب لذيذ من صوت الضباح وتمنى ألا يتوقف الثعلب عن النداء. ما الذي يشغله في هذه اللحظة سوى التسمع للأصوات وأن يحس بمراقبة حركة الكائنات الصغيرة التي تنشط في الليل. وذلك الثعلب الحزين أو الوحيد جزء من مكمنه البري في التسمع والإحساس والبحث. الثعالب ينادي بعضها بعضًا في الظلام، إما للتزاوج أو ليتفقد القطيع بعضه بعضًا في المنطقة الواحدة.

وبما أنها تتميز بحاسة سمع قوية جدًّا، كما سمع، قدّر شبّاب أن النداء وصل إلى كل ثعلب حي في تلك الجهة وعما قريب سيجتمع الإلف مع إلفه ولا بأس أن تناديه أيضًا في هذه اللحظة. إنه ثعلب هرم فقد العشرة منذ زمن وفقد ضباحه الخاص ويتوق إلى العيش مع قطيع يقبله. لم يكن يهزل وإنما فكر في هذا الأمر بجدية، العيش مع الثعالب ليس امرأ سيئًا على الإطلاق بل سيقبل منها أن تعلمه الدهاء وهو ما ظل ينقصه طوال حياته. الاستمرار في الحياة بكرامة ورفعة يحتاج إلى دهاء وليس فقط إلى صبر وشيء من الأمل. أن يكون المرء ثعلبًا يدفع الأمور بالحيلة خير من أن يكون حمارًا يقع في الخطأ في موقف مماثل. الثعلب يستطيع أن يتظاهر بالموت عندما يقع في ورطة لا فكاك منها إلا بهذه الطريقة، وحين يذهب الخطر يعود حيًّا فيهرب. يستطيع بحيلة من حيله أن يضلل الكلاب التي تطارده.

لقد رأى ذلك بعينيه في برية يقيم بها بدو يربون مع الغنم والمعز دجاجًا في طرف إحدى القرى، إذ تسلل ثعلب يريد قن الدجاج لكن الكلاب تنبهت له فاضطر إلى الهرب غير بعيد منها، ثم اختفى وراء صخرة فتجاوزته الكلاب ظنًّا منها أنه يجري أمامها، ولما ابتعدت منه ظهر لها من تحت الصخرة، فعادت إليه بأقصى سرعة لكنه اختفى عنها وراء الصخرة من الجهة الثانية ولم تتوقف الكلاب عند الصخرة بل واصلت الركض باتجاه البيوت وكأنها تراه يركض أمامها… واستمرت مناورته ثلاثًا أو أربع مرات دون أن يفهم شبّاب لماذا فعل ذلك بكلاب على ذلك القدر من الغباء.

لكنه اعترف بأنها طريقة مبتكرة في إذلال الخصم وإنهاك قواه دون أن يتطلب الأمر مواجهة مباشرة معه. هذا من الدهاء الضروري للإنسان… يقرر شبّاب هامسًا لنفسه. لكنه الآن ليس لديه من القدرة والوقت ما يجعله مستعدًّا لمعارك الدهاء وإنما ما يريده هو أن يحتفظ بقدر جيد منه لئلا يموت بدونه. ولئن نأت الثعالب الهرمة عن العراك المباشر مع أعدائها فإنها لا تتخلى عن دهائها حتى في وجارها، فقد يدهمها الموت أو الخطر وهي جاثمة في مأمنها.

فصل من رواية جديدة تحمل عنوان: «المُهَرِّب».

تجويف في شجرة

تجويف في شجرة

لم ير شجرة أكبر منها في ضخامة الجذع وكثرة الأغصان. وبعد أن دار حولها، حيَّره سواد الأعشاش التي تعد في فروعها بالعشرات. رائحتها المركزة، كأنما جُمعت فيها روائح الطبيعة، حادة ومسيطرة، لكنها لا تشغل الأنف بتقصي الروائح والتقاط منابعها، بل تفعمه بخلاصتها، فتبدو المعرفة بالسلالات ليست مما يُبتغى في طلب الكينونة والمعنى، وإنما المشتهى في مثل هذه الحال هو صفوة الشيء، والوصول إلى صفوة الشيء يجب أن يكون مثله في الصفاوة والنقاوة والإيجاز. وقف ملصقًا جسمه بالجذع الضخم، فوجده يتسع له ويفيض عنه وعندئذ استعان بعتبة صغيرة عند القدمين فدخل التجويف. هو الآن في قلب الشجرة دون إحساس بضيق المكان. لكن الضوء الذي يبهر العين في الخارج لم يدخل منه إلا أقله، كما أن الروائح التي تأرجت في موقعه الأول تكاد تتلاشى في موقعه الجديد بل لم يصله منها إلا الرائحة الداخلية لخشب الجذع المسود. وفيما هو يدور حول نفسه مذهولًا من هذا الاكتشاف العجيب، واتاه شعور بالمنَعة والسلام العميق. كأن الجذع الخشن من الداخل امتصه برفق، ثم دمج لحمه بخشبه فبات مثله أسطواني الشكل تقتسم خلاياه المساحة نفسها مع نسيج الخشب. تنفس بعمق، مسلمًا لقدميه الحافيتين تحسس الأرضية الواخزة بعض الشيء، يود لو يصف الشعور الذي يتموج في داخله منذ لحظات. شعور غريب لم يجرب مثله من قبل، لكن يمكن وصفه على نحو احتمالي بما يشبه الدخول في كون مختلف أو في كبسولة تتحرك بسرعة لا يعلمها إلى اتجاه ما. وبما أن المكان من حول الشجرة كان خاليًا من سواه قبل الدخول فإن كثافة الصمت في داخل الجذع ليست أشد منها في الخارج وإنما يختلف الإحساس بها. يكاد يقول: إنه صمت يحس به يتسرب إلى جسمه كما يحس في الليل والنهار بفرق الحرارة. يحس به يتجمد في فمه كالشحم في الشتاء القارس، يلطأ بأطراف يديه، يمس بطنه، يخف في ناحية ويثقل في ناحية أخرى. وأحس به ينزل مع رجليه إلى القدمين، ويتكتل في أصابعهما ويسكن عند الأظافر. إنه صمت يحاكي في شكله ماء في برميل يدخله الشخص عاريًا فيحس بالماء يطوق جسمه من كل الجهات ويضغط على جلده برفق. وهو صمت يفكر ويتحول على نحو ما يمكن وصفه بغلاف شفاف من مادة غامضة تسير الجسد حيث شاءت وتتحكم في حركاته وسكناته.

ثم وخزه شيء من التعب فقعد متئدًا في النزول، ولما استوى قاعدًا مشبكًا بين أصابع يديه حول ركبتيه أعتم المكان وتناقصت الرائحة وخامره احتمال أنه بات في أسفل نقطة من الأرض. وأن كل شيء بات في الأعلى، وهو وحده البعيد هناك في الأسفل باستثناء أنه من مسافة لا يستطيع تقديرها تناهى إليه ما يشبه قطرة الماء إذ تسقط على سطح صلب فتحدث صوتًا رقيقًا محسوس التردد. قطرة ماء واحدة تنزل من مكان عالٍ، في وسط الظلمة، في شدة الصمت، حد أن مرورها في الهواء يكاد يكون له حفيف يسمع. وهناك تكشفت له رؤية لم يرصدها بعينيه وإنما بكل جسمه الذي لم يعد يدرك ما هي أبعاده. كل ما يفترضه في هذه اللحظة أن جسمه يبصر عنه من أي نقطة شاء، أو يتصرف عنه في صورة جسد بديل حدث الآن. تراءى له حشد كبير من الناس يملؤون أرضًا غير واسعة ويغطون في النوم، ويتحادثون في النوم، وتتحرك أيديهم وأرجلهم في النوم، ولكن دون أن يقفوا ليمشوا أو ليتعاركوا. وفيما هم يفعلون ذلك بدا له أنهم يفعلونه في وقت واحد وإيقاع واحد وكأن ثمة من يطبعهم بنشاط جماعي موحد لا يخرجون منه. وساوره ظن بأنه جاء متأخرًا وأن دخوله كان من باب ضيق فلم يجد مكانًا للنوم في الأرض. عندئذ أقعى على قدميه كمن يتهيأ لفعل وشيك. والتفت فإذا هو يقعي بقرب سلم مركوز بشكل مائل، فتحسس درجاته فإذا هي من خشب. غير أن وقتًا طويلًا مر تعرض خلاله لنوبات من النوم كانت تسقطه على الأرض فيقع على نائم أو نائمين وبعد وقت يستيقظ فيرجع إلى إقعائه وقد مسه اضطراب وحرج. وكمن يقاد إلى فعل يشك في نتيجته اختار أن يجلس على إحدى درجات السلم. وتحرك الزمن دون ليل أو نهار، وجسمه تتناوبه زوايا إبصاره من موضع إلى موضع.

يقول: إنه اختار البقاء صاحيًا على السلم ذي الدرجات الخشبية ليتجنب الزحام الهاجع تحته. فالأرض فيما يرى تكتظ بالنائمين، والانطراح عليها يعرضه للنوم مثلهم.  وفي الحالات القليلة التي نام فيها هناك وجد نفسه يصحو قبل الوقت أو بعد الوقت الذي يخمن أنه وقت الصباح. فيما مضى، كان يهمه أن يعرف السبب، ثم استقر تفسيره على وقت أن الصباح إما أنه يأتي فجأة في أي وقت أو أن النائمين أدركوا أنه لا يأتي أبدًا فقرروا النوم طول العمر. لكنه الآن، وقد توقف تفكيره عن البحث في الأسباب، يكتفي من السلم بدرجة من درجاتها العريضة لصحوه. السلم الذي التهم السنين الطوال واقفًا يتحمل الصدمات كما تتحمل درجاته العابرين. إنه الآن يستلقي على الدرجة العريضة ملء يقظته، يتكلم مع أحلامه التي تأخذ شكل السلم إياه، يكبر في يقظته مثل الشجر، ينحت من شكله أخشابًا عريضة ملساء يضع بعضها فوق بعض، يرتفع بثبات إلى أعلى مثل الغيوم فوق الغيوم، يمطر أعلاه على أسفله، يأكل حتى يشبع من ثماره، يتواضع إذ يشرب من مائه فلا يجعل جرعة كبيرة وأخرى صغيرة، ولا يطأ بقدمه قدمه الثانية، ولا يعلو بعضه على بعض، ويصغي كل الإصغاء لدبيب أشكاله المتجولة من حوله. يقول النائمون تحته: إن حجمه الصغير، الذي لا يثير زحامًا فارقًا، يساعده على التمدد على سريره الخشبي، بل إنه يتقلب في نومه دون أن يخشى السقوط، والأهم أنه يحلم في الوقت المناسب، وكلما اختار درجة أعلى كان وقت أحلامه أكثر دقة، وكانت أحلامه أكثر صفاء.

وذلك ما جعله يبدو في غاية السعادة كلما تحدثوا عن طريقته الغريبة في اختيار المكان المناسب للنوم. أما من دفعهم الفضول لمعرفة السر، ولماذا يبدو سعيدًا بكونه يقظًا كل يوم، فيما هم يحملون أنفسهم نائمين شبه محطمين، فاعتقدوا أن للسلم مزية في النوم لا تصلح إلا للحشرات التي تنام ملتصقة بالجدران والأخشاب والسقوف. ودرجات السلم، بالنسبة إلى الحشرات، أماكن فسيحة، والنوم عليها مريح. لكنه لا يتحدث عن هذه الأمور التي يمضغها الراقدون على الفرش، بل يطيب له أحيانًا أن يتحدث عن ضجيج أقدام يبقى على درجات السلم زمنًا غير قصير. تبتعد الأقدام، ويسمع عن موت بعضها في الزحام الهاجع، أو يتعرض عدد منها إلى اعتداءات مروعة في سكونها، ويختفي بعضها في حوادث مريبة، ويبقى الضجيج على الدرجات الخشبية في أشد ما يكون على سمعه. على هذا الضجيج المتفاقم تفتَّحتْ آذان صغيرة في رأسه تلتقط أشد الأصوات خفوتًا، وتشد بعضها إلى بعض في ألفاظ مسموعة. كلها تصعد السلم من قاع النوم، وكلما صعدت درجة اقتربت أكثر من غطيطها الرنان. أصوات كثيرة تتمدد في رقادها، تتوالد، تتعارك، تتسافد بين وقت وآخر، فيما غطيطها الرنان يتحدث عنها بلا كلل. يسمعها هو تتشاغب حول السلم طول الوقت. لذلك يجلس هناك. لذلك اختار قضاء المهمة على السلم الذي دون حسبان انقلبت قمته إلى أسفل، وتحطمت درجاته بدءًا من الأعلى، وأصبح هو في وضع معكوس يناضل ليستعيد مكانه الأول. ثم يسمع الأصوات الدقيقة تشتبك معه على الأرض، تحيط به من كل الجهات، تنتزع آذانه الدقيقة وتحاول تقديم رأسه مسلوخًا مقطعًا أجزاء صغيرة إلى الرؤوس النائمة لتلهو به في أحلامها الطويلة.

يضحك، ويقول: إن درجات السلم فيها الكثير من الأصوات التي لم يسمعها بعد، وأن المخبوء في تجعداتها يتأهب لتسريح نفسه من أي وصف يدفعه للتلاشي وانمحاء الذات. يتلقى كل شيء بحدس العارف بدقائق الحكاية من بدئها حتى انتهائها ثم يقول: إن الجميع في يوم ما ستضربهم صعقة الصحو فإذا هم بلا مأوى اسمه مأوى، بلا سبيل اسمه سبيل، سوى مأوى واحد وسبيل واحد، هم المأوى وهم السبيل. يجد نفسه يقول هذا دون أن يصله من الحكاية ما يجعله يدعي المعرفة بها بل هو بها جاهل في هذه اللحظة. وبينما تقوده غريزة غريبة إلى صقل ملاحظاته حول النوم العتيد، استمرت تطارده ألفاظ النائمين، تصمه بالمخرب والمعتدي. إنهم يتحدثون كمن يتحدث في ذروة الصحو، وهو يكافح في إخراج نفسه من الإدانة بالبحث عن حكاية كل الأشياء في هذا المكان. ما هي الحكاية؟ وما الذي حشر هذا المكان في الظلمة إلى هذا الحد؟ وما هو النوم الذي له هذه السطوة العاتية على جمع كبير من الناس؟ من الذي صنع النوم هنا؟ من الذي حقن به هؤلاء؟ وكيف يمكن استدراج نوع من الهدوء يستطيع من خلاله تنظيم المكان وإخضاعه للمعنى ليبحث في أسباب هذه الفوضى البشرية القابعة في العتمة والسفول؟ غير أنه بالرغم من ملاحظة أنه ليس نائمًا مثلهم، وهذا أمر حسن، وأنه يفكر بوعي، وأنه في منجاة من أي برهان لإثبات رباطة جأشه وتماسكه، لم يتمكن من الوصول إلى تجربة يعتد بها في معرفة ما يجري. فقد كان كل شيء أقرب إلى كيان حُلمي قيد التشكل، يلج بعضه في بعض، ويؤلف بعضه بعضًا على نحو رجراج غير مستقر. النائمون والألفاظ والسلم والعتمة والمكان السفلي، بل إنه يفكر فيما إذا كان هو جزء من هذه العجينة الرخوة دون أن يشعر أو يدري؟ ولذلك يعتقد أن السبيل الوحيد لتأكيد نجاته من هذه المعمعة هو أن يسعى إلى إيقاظ هؤلاء النائمين المساكين الذين وضعهم العالم وراء ظهره. غير أنه قبل الإقدام على هذا الفعل، يتعين عليه أن يكشف العناصر الفاعلة في تأبيد الإسبات وتمضية الوقت على هذا النحو البدائي المهين. هكذا بدون مقدمات راح يفكر في خطوة كبيرة كهذه الخطوة، ولعله تحت زعم أن الأمر ممكن راح يغامر في طرح الحلول. ولعله تحت تأثير هذا الفخ الذي وقع فيه شرع يفكر فيما يشبه هذا العالم الصغير المحشور في مأزقه من العالم الواقعي.

قبل أن توقظ شخصًا غارقًا في نوم أطول من المعدل العادي للنوم الطبيعي اسأل ما هو السبب أو ما الأسباب التي أدخلته النوم بهذه الوفرة الطويلة؟ سوى المرض والإرهاق الشديد وتناول المنومات والاكتئاب والعطالة العميقة والإدمان على المخدرات والشعور الذاتي بعدم الجدوى، ما هي الأسباب الأخرى التي يتعرض لها الإنسان فيبدو عاجزًا عن إيقاظ نفسه، مذعنًا لوصفة يقدمها آخرون على أنها طريقة ناجعة في الحصول على حياة آمنة مستقرة؟ فكر في هذا الاحتمال. فكر في احتمال أنهم وقعوا تحت سطوة عمل سحري مزعزع شديد التأثير. فكر في طقوس وثنية غير اعتيادية يمكن أن تحدث هذا التحول الهذياني الواعي نوعًا ما. ثم فكر في نفسه أخيرًا، وكان سؤاله الأول عن نفسه ما الذي يجعله مختلفًا عنهم في حياة ما قبل الدخول في الجذع؟! هذا العالم الضيق الذي رأى فيه ما رأى، على النحو الذي حدث، ألا يمكن أن يكون هو عالمه الذي يحمله منذ بواكير وعيه بالأشياء؟

ألا يحتمل أن يكون سبب قدومه إلى البرية هو السبب نفسه الذي غفل عنه مدة ثم لما مرت السنون تكشف له أنه فقد معناه، وأن البحث فيه من جديد سيكلفه الكثير؟ هناك ما هو أكبر من هذا الجذع وهذا العالم المعتم لكنه قاسٍ وتلعاب والولوج فيه رهان على الخيار الوحيد الذي يفرضه وهو التماهي معه والتكيف مع متطلباته حتى وإن كان رفضه يعني في أقل الأحوال تخريبًا للسلامة الشخصية. وفيما هو يحاول تنظيم الأفكار التي راحت تنهال عليه بكثافة كبيرة لم ينسَ أن حبيس الأمكنة الضيقة يستعين بمخيلته في التعويض عن حريته المنقوصة وحركته المحدودة. مع المعاناة تنمو الحاجة إلى مواساة، وكلما اشتدت الكربة بات الطريق إلى الحيوات المتخيلة ممهدًا دون أن يكون هناك فضل في هذا الخيار، فهل هناك سواه؟ يشعر أنه مُتجَلٍّ أكبر من اللازم، أكبر من جذع. وأن الأفكار الكثيرة التي بدأت تضغط على عقله المتاح هذه اللحظة شرعت في التصرف على الوجه الذي يجده من الصمت المطبق عليه، وعلى نحو ما تفعله شبكة الإبصار الموزعة في جلده، شرعت تسلبه حريته. وهو الآن بين أن يتكيف مع حبسه هذا، مع أفكاره هذه، وبين أن يخرج من الجذع، إن استطاع، حيث يعود إلى طبيعته ذاتها ليكون الشخص نفسه؟ ما الفرق؟ تساءل.

وطفرت منه حركة خفيفة، ولما استوعب هذا التغير الطفيف، سمع مرة أخرى صوت القطرة يهبط على سطح صلب. إنها القطرة الثانية، وهي الأخيرة على وجه متوقع، وبما أنها مضت فإن الرجوع إلى الذات يحاكيها في القلة والخفة، ذلك هو المسن اللازم الذي فعلته القطرة الأولى كما رجح. انتهت كما حدس طقوس مذبح الجذع وكان هو القربان الوحيد لتطييب سبيل النائمين ولم شعثه المزمن. قاده حدسه إلى نفثة شفيفة يطلبها من هواء الخارج، يمد رأسه قليلًا كمن يتسول حياة جديدة… ويسحب
هواء الخروج:

– ما بك؟ ما الذي أخذك إلى هذه الشجرة؟ سأله غربي

– دلني عليها أحد الرعيان، ولما رأيت ضخامتها أخذني الفضول إلى قلبها.

– هذه الشجرة يطلق عليها الأم، لعلهم قصدوا أنها أم الأشجار أو تأتي لفظة أم

بمعنى الأكبر، أي الشجرة الأكبر. أو هي أم الكوابيس، أو هي أم اللعنات كلها. لا

أدري. نسيت أن أحذرك من الذهاب إليها.

– إنها شجرة غريبة. هل دخلت جذعها من قبل؟

– كثيرًا، واستولت علي أشياؤها في الجذع.

– ما معنى كثيرًا؟ هل تقصد أنها تستهويك لتجرب أكثر من مرة.

– ليس هكذا على وجه التحديد وإنما أدخلها من باب تغيير المشهد، طردًا للملل

أحيانًا. لكن المشهد الذي يدخل علي منها هو نفسه لم يتغير.

– ما هو؟

– امرأة عارية تبكي وتصيح وتقول: إنها تغتصب.

– كل مرة؟

– كل مرة.

– ترى المرأة بأم عينيك؟

– نعم، أراها على النحو الذي وصفت.

– وكيف تفسر هذه الرؤية؟

– لا أدري، لكني سئمت التكرار فهجرتها. ماذا رأيت أنت؟

– مجموعة من النائمين يتهاذون وأنا في وسطهم لا أفهم شيئًا.

– لم تأتك المرأة؟

– لم أرها. فقط ناس نائمون.

– سمعت أن الأم ستقطع قريبًا بقرار رسمي.

– لماذا؟

– كثرت الشكاوى حولها وكثرت الادعاءات من أهل الديرة ومن غير أهل الديرة.

– لحسن الحظ أنني لم أُحبس في داخلها فاقدًا للوعي.

– عليك أن تحافظ على وعيك إذًا، ولا تستهن بما رأيته فقد يكون فيه شيء من الواقع.


فصل‭ ‬من‭ ‬رواية‭ ‬جديدة‭ ‬تصدر‭ ‬قريبًا‭ ‬بعنوان‭: ‬‮«‬نار‭ ‬المرخ‮»‬‭.‬

النقاد والرواية الخليجية.. انشطار البوصلة بين ماضٍ ومستقبل

النقاد والرواية الخليجية.. انشطار البوصلة بين ماضٍ ومستقبل

الرواية الخليجيةفي حوار صحافيّ مرّ عليه ما يناهز العام، لوَّح الناقد البحرينيّ فهد بن حسين بما يشبه البشارة بمستقبل واعد للرواية الخليجية، قال هذا الكلام في بداية الثمانينيات الميلادية عندما كانت الرواية الخليجية تخطو وراء نظيرتها العربية خطواتٍ بطيئةً وأحيانًا متعثرة. وأذكر أن آراء نقدية مشابهة كانت تتردَّد في أروقة الصحافة الثقافية يحدوها أمل أن تصل الرواية الخليجية إلى مرحلة من النضج، تستطيع أن تُراهِن بنفسها على حضورها العربيّ والخليجيّ، وكان ذلك يعني أن النقاد في ذلك الوقت لم يكونوا واثقين من قدرة الرواية الخليجية على اختراق شكها في إمكانياتها تجاه ما تضمره تحديات المستقبل؛ لذلك كانوا يتحاشون فكرة المراهنة عليها؛ لأن المراهنة على شيء ما يشترط إيمانًا ما بطاقته الكامنة فيه، وهذا الإيمان يكاد يكون مقامرة غير مضمونة النتائج عند الحديث عن الرواية الخليجية.

غير أن الناقد البحرينيّ فهد بن حسين حينما بشَّر بمستقبل واعد للرواية الخليجية لم يكن رأيه هذا ضمن آراء ذلك الوقت، إنما قاله في جريدة الرياض بتاريخ 29 مارس 2015م. لماذا قاله إذًا في هذا الزمن وليس قبل ذلك؟ هل تأخَّر كثيرًا في الإبانة عن تفاؤله بالرواية الخليجية في المستقبل؟ لقد كانت آراء جُلّ النقاد في الثمانينيات متفائلة تقريبًا بتطور ما للسرد الخليجيّ في المستقبل. بمعنى أننا الآن نتحدث عن لحظة زمنية هي في الواقع من ضمن المستقبل الواعد الذي بشَّر به أولئك النقاد، ويمكن القول: إن المستقبل الذي قصده النقاد آنذاك بدأ تقريبًا في التسعينيات، وإنه على قدر من البطء، لكنه انفجر في منتصف العشرية الأولى من الألفية الثالثة على نحو تقريبي، وكانت هذه الرؤية المستقبلية في ذلك الوقت محلّ هزة رأس مترددة. الناقد فهد بن حسين على الرغم من تفاؤله بأفق واعد للرواية الخليجية ساقَ ملحوظات نقدية ليست بسيطة على روايات اليوم التي يكتبها شباب من الجنسين بكثافة.

من هذه الملحوظات الاستسهال في كتابة الرواية، وهذا ما يفقد الرواية القيمة الجمالية التي هي من ركائز الشرط الإبداعيّ للعمل الروائيّ؛ إذ إن الكتابة الروائية التي تخلو من قيمة جمالية تفقد القارئ لحظة إمتاعية لن تكون الرواية من ضمن مقتنياته من دونها، وهي للناقد فهد بن حسين حقل جماليّ يتيح له قراءة العمل من منظور نقديّ متعدد الزوايا. هناك ملحوظة أخرى، حسب الناقد فهد بن حسين، وهي افتقاد الرواية الخليجية الشبابية على وجه الخصوص المرجعية الثقافية، موعزًا السبب إلى أن المنهل الرئيس للتجارب الشبابية هو (الشارع وحكايات الناس)، وهذا الانتهال كما يقول: ليس أصيلًا، ولا يمتلك مقومات عمل روائيّ يُفترَض أن يتَّسع مصراعاه لتجارب عميقة وأكثر تعقيدًا وأوسع نظرًا من مرويات شفهية سطحية في معظمها. فالحب على سبيل التمثيل لحظة إيروسية في النصوص الشبابية، وقلما يعبر في أثناء النص عن غير ذلك. لكن الحب -حسب رأيه- قيمة جمالية وفلسفية ومعرفية كذلك.

وإضافة إلى حب الشهرة المرَضيّ لدى فئة غير قليلة من الشباب، والكسل القرائيّ، يعتقد الناقد فهد بن حسين أن الرواية الخليجية الراهنة والشبابية خاصة، تفتقر إلى ثلاثة عناصر مُهمة لا بد منها عند التفكير في كتابة رواية تقع في أفق ما ارتُقب وقوعه في المستقبل، وهذه العناصر هي: (كاتب يملك وعيًا، وقدرة على التمرُّد المسؤول، وحرية). العنصر الأول لا يشكل ملمحًا واضحًا في الرواية الخليجية بشكل عام، وهذا رأيي أنا، فالوعي الذي يفترض أن يتوافر لدى كاتب يفكر بجدّ في ثقب الحاجز القائم بينه وبين الرهان على عمل يستحقّ، لا يتوقف عند إنشاء النص بالشكل الروائيّ السائد؛ ذلك الشكل الذي نلمسه في معظم منتجنا الروائيّ المعاصر، وهو الدفع بالفكرة إلى مهاد أولية من الحكي العادي، وتوزيع الشخصيات والمدى الزمنيّ الطويل نسبيًّا والمكان والزمان وبقية (الشغل) المألوف الذي يجعل من أي عمل بين غلافين على هذا المنوال روايةً شكليةً، تنطلق من فورها إلى الناشر، ثم إلى المطبعة، ثم إلى السوق؛ كلَّا، ليس هذا الوعي الإنشائيّ هو ما يفترض أن تراهن عليه رواية جديرة بالمستقبل، إنما هناك مستوى من الوعي هو أعلى وقطعًا أعمق من هذا الوعي التقليديّ، وأقصد الوعي القائم على مرتكزات جمالية وثقافية وفلسفية ومعرفية قبل الخوض في فكرة إنشاء النصّ. فالزمن المتدفّق في الأشياء التي نعيشها ونمارسها متخلِّق في أصله ليس من الإحساس بالوقت وتأثيره في الأشياء فحسب، إنما -أيضًا- من مفاهيم ومضامين جمالية وفلسفية ومعرفية صهرتها في كلّ واحد عالمية الواقع المعيش، وإن كان هذا الواقع يحفل بتفاصيل نائية عن حافة العالم، وعالمية اللحظة الإنسانية الراهنة، وما تنتجه هذه اللحظة من مفارقات وتناقضات على أكثر من مستوى.

والوقوف بإزاء هذا التدفق الزمنيّ العجيب، وهذه اللحظة المليئة بالتغيير المتسارع الصادم في أحايين كثيرة، يتطلب قدرًا ملائمًا من استيعاب اللحظة نفسها، وما تشترطه من أشياء لمساءلة الذات والآخر، والمكان، والزمان، والثقافة، والاعتقاد، إضافة إلى المسافة بين كل هذه المكونات في الذات الواحدة وعلاقتها، سلبًا أم إيجابًا، بالخارج وما يتَّصل به من حقائق ووقائع وأحداث ليس على أساس محاكمتها بالضرورة، إنما على أساس فهمها على ضوء معطيات متاحة أو ممكنة.

هذا بإيجاز شديد، ما يمكن أن نفهم على ضوئه رأي الناقد فهد بن حسين تجاه الرواية الخليجية، ولا شك أنه أوسع من الفهم الذي طرحته هنا، وحتى تأتي في المستقبل مَصَاديق متواترة لما بشَّر به هذا الناقد، وهو ما آمل أن يتحقق على أيدي روائيين شباب، يجب أن يكونوا أفضل وأكثر فهمًا واستيعابًا من كُتاب اليوم للفنّ الروائيّ، وعلاقته بقيم جمالية ومعرفية وفلسفية لا غنى للرواية عنها في أيّ زمن ومجتمع وثقافة، حتى يأتي هذا المستقبل سنبقى في لحظة توقُّع مَن يقبض في شكل صحيح وسويّ على لهب الإفاقة الأولى من هذا الراهن الروائيّ الإنشائي في معظمه.

إلى أن يحدث ذلك، ليس من المستبعد أن يبشر ناقد آخر، في زمن مقبل، بمستقبل واعد للرواية الخليجية على ضوء ما توافر لديه من نصوص سردية، يرى أنها محلّ اطمئنان للتبشير بذلك المستقبل. وقد تكون تلك النصوص من إصدارات حقبة زمنية مقاربة للزمن الذي نشر فيه توقعاته الإيجابية، ما يشير إلى احتمال استمرار الرواية الخليجية في الدوران حول نفسها في نفس الموضوعات والتقنيات التي ظهرت بها في الثمانينيات، يوم بشّر نقاد ذلك الزمن بمستقبل واعد لها، ثم في مرحلة التسعينيات وما أعقبها من عقود من دون تغيير كبير في الشكل والمضمون.

وفي كل الأحوال، لن يعدم المتابع اللصيق بالمشهد ملاحظة مهمة تكاد تكون هي سبب هذا التباطؤ الحاصل في الدينامية البنيوية للرواية الخليجية، وهي اتصاف الحراك النقدي –إن كان هناك حراك نقديّ فعليّ- بتباطؤ مقابل في المواكبة النشطة، ليس في هذا فحسب، إنما –أيضًا- في الكسل النقديّ من جهة ما نراه اليوم من نكوص واضح عن تدشين مشاريع نقدية كبرى تؤسس لمرحلة ثقافية ومعرفية تنخلع بمقتضاها من المقاربات النقدية البسيطة التي تتغذى عليها الملاحق الثقافية على نحو هو أقرب إلى الاستهلاك منه إلى الدراسات المعمقة التي تنطوي بالضرورة على مستقبل يفترض أن يكون مبشِّرًا بصحوة نقدية شاملة.