بواسطة لؤي حمزة عباس - قاص عراقي | يوليو 1, 2018 | كتب
«لقد لعبنا جميعًا دور الوحش، سعينا إلى الجمال، فقدنا في الزحام وجه هيلين أو وجه نفرتيتي، وبذا استعدنا الرغبة مرّة أخرى، وفي تلك المساعي العقيمة نعيد خلق العالم».
تعدُّ كتابةُ السيرة أقرب أنواع الكتابة الأدبية إلى حياة صاحبها، وبخاصة إذا كانت (ذاتيةً) يتولى صاحب السيرة فيها مهمة تدوين وقائع حياته وسرد تجاربه فيتجلّى صوته ويتكشف إحساسه بصدد ما يروي، والسيرة الذاتية كما يعرّفها فيليب لوجون، في كتابه (السيرة الذاتية، الميثاق والتاريخ الأدبي) «قصة استعادية نثرية يروي فيها شخص حقيقي وجوده الخاص مركّزًا على حياته الفرديّة وعلى تكوين شخصيته بالخصوص»، ولا تنهض السيرة بما تسرد من وقائع وما تستعيد من تفاصيل فحسب، مهما بلغت مروياتها من الأهمية والحساسية والتنوع، بل الكيفية التي تسرد فيها وقائعها وتستعيد تفاصيلها، فتتحول فور كتابتها إلى وقائع مرويّة تخضع لتقنيات الكتابة الإبداعية وآلياتها، إنها تحقق معرفتها، كما يعبّر هيو ج سلفرمان، في كتابه (نصيات، بين الهرمنيوطيقا والتفكيك) «معرفة تتبع قواعدها الخاصة، وتنصب شرائط تخومها الخاصة، معرفة تتكلم لغتها الخاصة؛ لذلك تمضي عملية إنتاج السيرة الذاتية بكلّ التخييل واللاتخييل إلى تخومها القصوى»، فتتأسس (معرفة) السيرة بناءً على ما تعمل على استعادته وتدوينه من وقائع تشكل تجربة خاصة، لنكون، عندئذ، إزاء تجربتين، تجربة الحياة وتجربة كتابتها، تتضافران من أجل تشكيل خصوصية السيرة الذاتية وأهميتها بين الأنواع الكتابية.
يقدّم الناقد ومفكر ما بعد الحداثة إيهاب حسن سيرته بعنوان: «الخروج من مصر، مشاهد ومجادلات من سيرة ذاتية» الصادرة عن دار العين، القاهرة 2018م، بترجمة السيد إمام، مؤكدًا، منذ التصدير، أنه «ليس من اليسير علينا في عالمنا الراهن رؤية من أين يبدأ التاريخ، وتنتهي السيرة الذاتية» فالتاريخ، بوصفه مجالًا عامًّا، يظل حاضرًا، واضح الأثر، في كلِّ ما نسعى لاستعادته من أجل روايته، من وقائع حياتنا، إن قوة الحضور التاريخي لا تمنحنا سوى استعادة شذريّة «تحرف أفكار يوم آخر ولحظاته عن مسارها وتبدّل اتجاهها»، وتأخذ مدوّنات السيرة باتجاه محاورة الكتابة السيرية وتأمل «إشكالية سرد التجارب الشخصية من الذاكرة»، فللذاكرة دورها الحاسم في كتابة السيرة، ذاتية كانت أو موضوعية، والمشاهد المستعادة لن تكون سوى (مشاهد) ذهنية و(مجادلات) معرفية تحقق نوعًا من (الميتاسرد) في اللحظة التي تباشر السيرة فيها سرد تجاربها، وهو الأمر الذي دعا إيهاب حسن لتوزيع سيرته على أربعة فصول في تراتبية تتخللها انكسارات وتصدعات توقف المجرى الزمني لمروياتها، لتُعنى بالتفكير بما يُروى، وتأمله، والبناء عليه:
إيهاب حسن
بدايات ونهايات.
انعزالات (1925 – 1941م)
قرارات (1941 – 1946م)
ممرات (1946 – 1985م)
حافظت السيرة فيها على انكساراتها وتصدعاتها في تقديم منظور مؤلفها للسيرة الذاتية التي لن تكون «في حقيقتها الخيالية الأعمق، مجرد أسطورة، شأنها شأن الموت ذاته»، إنها الأسطورة الأكثر قدرة على النزول إلى الجراح الإنسانية البعيدة الغور التي «تكمن في صميم وجودنا»، هذه الجراح التي تكون مسؤولة، إلى حد بعيد، عن إنتاج السيرة، فـ«الخروج من مصر» يتشكل، في جوهره، من مجموع (خروجات)، في القلب منها خروج إيهاب حسن فتيًّا من إطار الأسرة ومسرّاتها الرتيبة متوجّهًا إلى الولايات المتحدة الأميركية في أغسطس عام 1946م، بحثًا عن ميلاد جديد غير موثوق فيه، إن مغامرة الفتى ذي الواحد والعشرين عامًا تُنجز فاتحة السيرة وتحقق عتبتها السردية، لتكون الحياة المروية، مع السيرة ومن خلالها، أكثر من وقائع أثيرة مستعادة، إنها مناسبة للمراجعة والتأمل ومساحة للتفكير بما تعنيه السيرة فعلًا كتابيًّا يتماهى مع غيره من أفعال الحياة، «ومع ذلك أواصل إنشاء هذه «السيرة الذاتية» حجرًا خياليًّا فوق حجر، مثل هرم يقوم على بنائه عبيد خائفون»، إن كتابة السيرة تنطوي، بتصوّر حسن، على خيانة من نوع ما، خيانة المتخيل للواقعي، خيانة التذكُّر للوقائع الماضية، لتنتج زمانًا «خارج الزمان، خاليًا من القصد، يتعذر استعادته إلا كفضاء مسحور، الجنة الخضراء التي يحملها كلُّ طفل بداخله، ربما ليسكنها مرة أخرى فقط في لحظة الموت»، وهو ما يسوّغ وجود «ميونخ»، مدينةً مستعادةً وفصلًا متكرر الحضور في السرد السيري مثل مرآة عاكسة لوقائع السيرة، ميونخ المدينة التي اختارها إيهاب حسن لكتابة سيرته، جرح قديم آخر يتحقق في الراهن الكتابي بوصفه وسطًا عاكسًا تأخذ الكتابة معه سمةً كرنفاليةً عبر تدوين الماضي والبحث فيه، ماضي الرغبة والشعور، وهو ما يواجَه بعلاقة فارقة هي علاقة كاتب السيرة بابنه الذي يعود إلى مصر لرؤية جده وجدته بعيدًا من مسوِّغات المنفى الذاتي والهجرة الكليّة للأب وقد حتم على نفسه فراقهما، مع تأكيده أن «كلَّ فراق ضياع، وكلَّ رحيل موتةٌ صغرى»، فهل كان الأب يبحث في رحيله إلى السيرة الذاتية عن بقايا تجاربه غير المتحققة، ويُنصت لأصداء حياته البعيدة؟ هل كان الابن، بعودته سائحًا ولقاء جده وجدته، يؤسس لسيرة حياته القادمة؟
إن صاحب السيرة يدوّن في ختامها إقراره برفض كتابته، فقد فاته في سيرته المتشظية الكثير، كما يقول، وقد أنجز كتابته بوصفها تذكُّرًا غير مسبوق أو غير مُعدّ، أنا أكتب «فقط بدون معرفة أو تذكُّر أولي»، يثبت من خلاله قناعاته التي أسست طريقه ورعت سنوات حياته الحافلة، إنه يقدّم سيرته بوصفها التفاتًا لفصل أول بعيد من فصول حياته لم يجد الرغبة في أن يمتدّ به، «حيث إنني لم أكن أحب ما كان يمكن أن تؤول إليه حياتي في مصر الخالدة»، لتجيب السيرة، عندئذ، عن ذاتها ومسوّغات كتابتها وهي تستعيد ذكريات لا تخلو من كدر وتنتج رؤيتها لمنفى ذاتي خاص وترسم صورة تفصيلية لفتى عَصِيٍّ بمقدوره أن يقول عن نفسه بعد عقود على هجرته: «إنني لم أولد، على ما يبدو، لكي أفتقد أهلي، أو أحنّ إلى منزلي»، لكن استجابته لكتابة سيرته الذاتية يحقق عودته المستحيلة إلى منزله ويثبت حنينه الذي لم يعبّر عنه من قبل، فما لم تحققه الحياة بتحولاتها الواسعة، تعمل السيرة على تحقيقه، باستعادته وكتابة ماضيه.
بواسطة لؤي حمزة عباس - قاص عراقي | مارس 1, 2018 | نصوص
نحن هنا أشباح
تنحت أحلامًا من الحجر.
(محمود البريكان، دراسات في عمى الألوان)
منذ أعوام وهو يواصل النزول على الدرجات الحجريّة المتآكلة لسلّم البرج، لا شيء يؤنسه سوى صفير الهواء في الأعالي، يرفع رأسه ناظرًا نحو الكوّة التي تركها وراءه منذ زمن ليس بالقصير، يتمنى لو يُنصت للصفير بحواسه كلها، يتشرّبه ويغدو هبّةَ هواءٍ تطير نحو أماكن بعيدة لم يألفها يومًا. في أوقات متباعدة يأتيه صوت حادُّ النبرة كأنه صادر عن آلة تسجيل قديمة مجهدة، يدعوه على نحو متكرر لمواصلة النزول، أصداؤه تملأ جوف البرج وتخلّف شعورًا ثقيلًا في دواخله، ثم تأخذ بالخفوت حتى تتلاشى وتغيب، كلما طال غياب الصوت حدّث نفسه أنه لن يعود مرّةً أخرى وفي لحظة غير منتظرة يخالف ظنّه ويعود، يتوقف عندها رافعًا رأسه، تلك عادة اعتادها كلما عاد الصوت، بعدها ينقل قدميه بين الدرجات استجابة لدعوته وهي تملأ عالمه أو بدافع أقرب ما يكون إلى رغبة مبهمة، ما عاد يتذكّر – أو لم يعد معنيًّا بأن يتذكّر – إن كان نزوله استجابةً لما يتكرّر بلا موعدٍ أو انتظارٍ أو رغبةَ ذاتٍ لم تعد تعنيها الرغبات، ما يهمه بعد تلك الأعوام الطويلة أن يواصل النزول فحسب، أعمق فأعمق في عتمة البرج، يقود خطواته ضوء واهن ترسله كوّة مستديرة في أعلى البرج أطلّ منها يومًا وسحره مشهد الضباب في الخارج يلفّ غاباتٍ متراميةً كثيفة الأشجار، كان ضوء النهار في أوله وسهام الهواء الباردة تنغرز في وجهه فيحاول اتقاءها بيمينه بينما يُسند يسراه إلى حافة الكوّة المنعّمة وقد اسودّت حجارتها، أحيانًا يستبدّ الشوق براحته فتحلم باستعادة ملمس حجر الحافة الصقيل، في تلك اللحظة قرّر النزول – يذكر ذلك على نحو دقيق كأنه حدث الليلة البارحة – إلى حيث يأخذه السلّم الدائر مع الجدار لعلّه يعثر على باب يؤدي إلى خارج البرج، وها هو نثار الضوء يصله من ذكرى الكوّة الحجريّة ومن حلم الغابة المضبّبة أول النهار، ومن جديد يأتيه الصوت خافتًا لا يكاد يُسمع ثم يعلو شيئًا فشيئًا حتى يملأ جوف البرج، يُحسّه أبطأ من ذي قبل كأنما أنهكه الرجاء الطويل – كان رجاؤه فتيًّا ذات يوم! – يواصل النزول في الليل وفي النهار ومع تبدّل الفصول التي يسمع ما يتناهى إليه من أصواتها وقد ثقلت حركته وصعب عليه أن ينقل قدميه كما كان ينقلها بين الدرجات، على الرغم من ذلك لا يفعل شيئًا غير مواصلة النزول، كل درجة ينزلها تحدّثه عن معنى ما من حياته، صارت حركة قدميه أبطأ كأنها مشدودة لثقل لا يُرى، وصارت العتمة تفقده التركيز فيتوقف قليلًا ليستند بظهره إلى الحائط ثم يغمض عينيه ويعاوده مشهد الغابة كما رآه أول مرّةٍ، فسيحًا مضبّبًا، ويسمع الريح تمشّط الأشجار، يواصل النزول بعدها مأخوذًا بصفير الهواء يتردّد في أعالي البرج ولا يصله منه في القاع المعتم العميق غير رجع يزداد بُعدًا ونعومةً وغموضًا، مع كلِّ درجةٍ يوغل في عتمة البرج كما لو كان ينزل درجة فأخرى في قطرة حبر كثيفة قاتمة، وشيئًا فشيئًا تحيط به عتمة أشدّ صلابة، وفي جوفها الغامض يُحسُّ أن قدميه تفقدان قدرتهما على حمل جسده قبل أن تجتاحه رجفة باردة فيحاول الجلوس محدّثًا نفسه بصوت غريب لم يسمعه من قبل عن أبديّة النزول على السلّم الحجري..
بواسطة لؤي حمزة عباس - قاص عراقي | مارس 17, 2016 | سرد, نصوص
في واحدة من الرحلات المدرسية القليلة التي شاركتْ فيها، وفور نزولها من الباص، بعد نزول زميلاتها، نظرت للجبال المحيطة ثم تركتْ زميلاتها منشغلاتٍ وسارتْ صاعدةً على طريق صخري حاملةً حقيبة ظهرها، صعدتْ حتى لم تعد تأتيها أصوات زميلاتها بوضوح، وواصلت الصعود حتى غابت الأصواتُ عنها ولم تعد تسمع غير هبوب الريح على القمة. هي لا تحب الرحلات المدرسية وتفضّل بدلًا منها البقاء في المنزل والشعور بالفراغ، تترك باب غرفتها مواربًا وتستلقي على السرير، تظلُّ في سريرها نهارًا كاملًا محققةً رغبتها في الإنصات إلى الأصوات التي لا تعيرها الإنتباه عادةً، فتسمع أشياءً مفهومةً تنساها سريعًا، وتسمع أخرى تبدو لها غريبةً، لم تسمعها من قبل، تحاول تمييزها بالتفكير بها أطول وقت ممكن قبل أن تنساها هي الأخرى وتعود لشعورها اللذيذ بالفراغ.
في نهاية الطريق الصخري، قريبًا من القمة العالية جلست على صخرة نظيفة منعّمة، فور جلوسها سمعت صوتًا نصف بشري لم تسمع مثله من قبل، لم يكن قاسيًا أو مخيفًا على الرغم من غرابته، نهضت عن الصخرة وأخذت تبحث حول الصخور القريبة، ولأن الصوت لم ينقطع فقد تتبعته مثل خط من دخان حتى اقتربت من مصدره وهي تستدير بخطوات بطيئة حول صخرة خشنة نقّرتها حفر صغيرة ذكّرتها بنجم البحر المتيبس المعروض في محال العطّارين، كانت أعلى من قامتها تشبه دبًّا منحني الرأس، رأت إلى جانبها عينًا بشرية بلا أجفان بنصف حجم كرة قدم، فور رؤية الفتاة تراجعت خلف الصخرة.
– لماذا تختبئين؟
سألت الفتاة فعادت العين للظهور، اقتربت منها مترددةً وقالت:
– تخشى الفتياتُ العيون.
لكن الفتاة تقدّمت نحو العين التي ارتفعت ببطء حتى أصبحت بمستوى قامتها، تفحّصتها عن قرب، ثم دارت حولها دورةً بطيئةً فسّرتها الفتاة برغبة العين بالتعرّف عليها من جميع الجهات، للعيون فضولها، قالت الفتاة لنفسها وواصلت النظر بدورها إلى العين، أدهشتها حدقتها السوداء الواسعة بالتماع قزحيتها.
في البيت فتحت الفتاة حقيبة ظهرها، بعد أن أغلقت باب الغرفة، وتركت العين تحلّق مستطلعة المكان ثم تقترب من النافذة وتطلُّ من فتحة الستارة، إنها تنظر، مندهشة، لحركة العربات البعيدة وللمشاة القليلين على الرصيف.
في الليل استلقت العين إلى جانب الفتاة وأخذتا تتحدّثان، يمكننا القول: إنهما أصبحتا صديقتين.
سألتها الفتاة عن سبب وجودها أعلى القمة وفهمت منها أنها نزلت منذ ساعات فحسب، وأحسّت بالسعادة حينما رأت الباصات تقترب وسمعت جلبة الطالبات، لم تكن تظن أن واحدةً منهن ستترك الجمع فور نزولها وتصعد الطريق الصخري إلى القمة، ثم حدّثتها عن رغبتها بالنزول إلى المدينة، بودها أن ترى كلَّ ما سمعت عنه ولم تره، الحدائق الفسيحة والأسواق بواجهات محالها الزجاجيّة المضاءة، داخلها تلمع الأشياء، ورياض الأطفال، كما بودها أن تركب زورقًا، كرّرت رغبتها بركوب الزورق مرتين، ابتسمت الفتاة وهي تسمع حديث العين فما أسهل تحقيق مثل هذه الرغبات، ونامت وهي مبتسمة.
في الصباح شاركت الفتاة فطورها مع العين، أكلتا في الغرفة، وقبل أن تتوجّه إلى المدرسة تركت العين في خزانة الملابس وأبقت باب الخزانة مواربًا. وفي المدرسة لم تمنع نفسها من التفكير بالعين، تصوّرتها تطلُّ من خلال الفتحة الضيقة للستارة، تراقب حركة الناس والمركبات التي تزداد في النهار، وبعد عودتها وضعت العين في حقيبتها وتوجهت إلى حديقة المدينة، الحديقة أولًا، حدّثت العين وهي تدعوها للاقتراب. كانت قد توصلت إلى حيلة تمكّنها من حمل العين والتجوال في الشوارع بحريّة، ربطتها بخيط وسارت بها، كانت العين تحلّق فوقها مثل بالون بحدقة سوداء. أخذتا تتمشيان وتتحدّثان.
لم يستغرق وصولهما للحديقة وقتًا طويلًا، تجولتا على الممرات المرصوفة وهما تنظران للصغار بشعورهم المتطايرة وثيابهم المزركشة وهم يتأرجحون، يرتفعون ويهبطون في حركات قوسيّة تتسع وتضيق. كانت الفتاة تسير متمهلةً حينما دخل الحديقة صبيّان يقودان درّاجتين هوائيتين، لم تلاحظ اندفاعهما على الممر، شعرت بهما قريبين منها، أحدهما ربط شعره الطويل بقطعة قماش ملوّنة والآخر يقود درّاجته بإحدى يديه ويلوّح بالأخرى لأحد ما وراءها، مرّا على جانبيها وخطف أحدهما الخيط من يدها، لم تنتبه أول الأمر، وربما انتبهت ولم تصدّق أنها يمكن أن تفقد العين بمثل هذه السهولة، استدارت من فورها وركضت وراءهما وحالما رأياها تركض زادا من سرعتيهما وهما يميلان بدرّاجتيهما، كانا يلهوان، ما إن اقتربت منهما حتى أطلق ذو الشعر المربوط الخيط فحلّقت العين، نظرت الفتاة نحوها، يدفعها الهواء فترتفع عاليًا، جلست بعدها على أقرب أريكة، يمنع عنها شعورها بالأسف رؤية الحديقة وسماع ما يتصاعد حولها من أصوات.
لم يمر وقت طويل على جلوسها حتى رأت الخيط يتدلى أمام عينيها، رفعت رأسها ورأت العين، وقفت على الفور وهي تقول:
– ظننتك لن تعودي.
ابتسمت العين وقالت:
– لكنني لست بالونًا بحق لتطيرني الريح ولا أعود.
أمسكت الفتاة الخيط من جديد وعادت ترى الصغار يرتفعون ويهبطون وتسمع أصواتهم، حدّثتها العين أثناء سيرهما عن رغبتها بمشاهدة بنات آوى، استغربت الفتاة للرغبة التي لم تحدّثها العين بها من قبل وتساءلت، كما هو متوقع:
– بنات آوى؟
أكدّت العين رغبتها بلطف فخجلت الفتاة ونظرت إلى ساعتها، حدّثت نفسها بأن لم يبق على موعد إغلاق حديقة الحيوان أكثر من نصف ساعة، أجابتها العين على الفور كما لو كانت تحدّثها هي:
– إنه وقت كافٍ لرؤية بنات آوى.
استغربت الفتاة وخافت وهي تكتشف لأول مرّة قدرة العين على الاستماع لصوتها الداخلي.
ركبت الفتاة سيارة أجرة طلبت من سائقها ذي القبعة أن يسرع في سيره، لم يكن الطريق مزدحمًا فوصلت حديقة الحيوان في أقل من عشر دقائق كانت العين خلالها تواصل النظر عبر نافذة السيارة مغلقة الرجاج، قطعت بطاقة واحدةً فهي، في نظر قاطع البطاقات، لم تكن سوى فتاة تحمل بالونًا على هيئة عين بشرية. وفي الوقت الذي كانت تسير داخلة رأت كثيرًا من الناس يسيرون عكس اتجاهها على الممر الآخر.
قالت للعين:
– يبدو أننا سنكون وحدنا في الحديقة.
ردت العين:
– ستكون هناك بنات آوى.
أمام قفص الحديد الواسع وقفت الفتاة، كانت لوحة التعريف تشير لبنات آوى بالعربية والإنجليزية. كان القفص فارغًا، رأت على أرضه الرملية الجافة غير النظيفة آثار أقدام تشبه آثار أقدام الكلاب، وفي الركن البعيد رأت تجويفًا صخريًّا خفيف الضوء. اقتربت العين من السياج السلكي ونظرت إلى الداخل، لم يمر وقت طويل حتى ظهر ابن آوى من التجويف الصخري، تقدّم بخطوات رشيقة واسعة نحو العين كأنما سمع نداءها هو الآخر ووقف أمامها، لم يكن يفصل بينهما غير أسلاك السياج المعدني الصدئ، نظر أحدهما إلى الآخر نظرةً لم تكن قصيرة أو عابرة، إنهما يعرفان بعضهما، قالت الفتاة لنفسها: فتح ابن آوى فمه فبانت أنيابه حادةً ومعقوفةً وصفراء، ثم تراجع مواصلًا النظر إلى العين قبل أن ينسحب إلى التجويف الذي صار معتمًا.