فيكتوريا هزيمة الفرد في المدينة الكبيرة
ما الذي يدفع أحدهم إلى خوض تجربة التمثيل الصعبة، بل المريرة أحيانًا، وتعريض حالته النفسية لاضطراب حتميّ؟ السؤال يجيب عنه الممثل الكبير أنتوني هوبكنز؛ إذ يقول: «كثيرًا ما تنشأ بيني وبين كاتب النصّ علاقة تبدو غريبة الأطوار، فيها كثير من الشدّ والجذب، والمنفعة المتبادلة، فكلٌّ منا يستفيد من الآخر، ويا حبذا لو كانت هذه العلاقة متوترة بعض الشيء، وهذا جزء من مسبّبات التجاذب بين الطرفين». صحيح أن التمثيل هو الأقرب من التواصل مع الناس، لكن أحدهم لم يسأل الممثل عن نفسه وهو يمثل.
سينما
فيلم «فيكتوريا» الذي صور في 2015، يثير مثل هذه الأسئلة، وهو يحاول البحث عن إجابة في تجربة فريدة من نوعها. فاز فيلم Victoria الألمانيّ بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان برلين 2015م؛ لتفرُّده في عملية الإنجاز البصريّ المتقن، وعنصر التجريب اللافت المُستخدم بعناية؛ إذ إن 138 دقيقة هي مدة عرض الفيلم تحوَّلت إلى لقطة واحدة متصلة من دون انقطاع. المخرج سيباستيان شيبر ينتقل بكاميراه إلى عالم المهمشين الذين لا صوت لهم، ورأيهم ذائب في المجموع، وينقل صورة الأفراد وما يرتبط بها من تقدير وتحقيق الذات، وما يمكن أن يسهم فيه كل شخص وَحْدَه؛ كي يشعر بقيمته في المجتمع، ومعه تَتجدَّدُ الطموحات والآمال، فيغيب عن معاناته النفسية ولو دقيقة، وإن شعر بها لاحقًا. فيكتوريا (الممثلة لولا كوستا) فتاة إسبانية جاءت إلى برلين للعمل، وحيدة تدير مقهى ما، من دون أصدقاء أو مواهب خاصة أو أي شيء متميّز، نموذج لنقيض البطل (Anti-Hero)، وسرعان ما نرى بقية أبطال الفيلم بالكيفية نفسها؛ أشخاص عاديون لا يرمزون إلى أي شيء، ولا يمكن إسقاط أي قيمة عليهم، لكنهم موجودون بكثرة. إنهم بيننا. إنهم أنا وأنت.
لقطة واحدة طويلة
خرج سيباستيان شيبر من البلاتوهات الجاهزة والاستوديوهات الملفقة إلى الشارع، انتقل من مقهى، إلى بائع صُحُف، إلى سوبر ماركت، كما انتقل من قبلُ المخرج المصريُّ محمد خان بآلة التصوير إلى شوارع القاهرة الكبرى في قصة بوليسية: فيلم (ضربة شمس)، وشوارع العشوائيات والمهمشين في قصة رجل واحد ضائع: فيلم (الحريف). شيبر يؤمن بأن ثقافة الشاشة قد أصبحت وسيلة سائدة للتعبير الفنيّ، وإذا كنت تعتزم أن تصبح فنانًا عاملًا في عالم اليوم، فإن عليك أن تصارع مع هذا على مستوى من المستويات. ينتقل في لقطة واحدة طويلة من ملامح البؤس على وجه فيكتوريا وهي تشعر بالغربة والحنين إلى التفاصيل الصاخبة لمرقص، تحاول أن تستعيد فيه رُوح الشباب وبعض المرح، ثم تخرج منه إلى شوارع المدينة الواسعة الطاحنة؛ لتفتح أبواب المقهى الذي تعمل فيه.
نراها بعين المخرج الذي ترك لها حرية (تقمُّص) الشخصية بتفاصيلها كاملة؛ وهذا رافد جديد لتجربته، لقد ترك لها وللأبطال الأربعة الآخرين ترجمة كل ما يعبّر عنه سيناريو الفيلم المكتوب في اثنتي عَشْرةَ صفحةً فقط، (كتبت القصة مع المخرج: أوليفيا نيرجارد هولم) تسأل نفسها: ماذا تريد؟ كيف يتجاوب عقلها الباطن مع علامات الوَحْدَة والشعور بالفراغ؟ نرى على الشاشة المكان الفسيح، تسكنه المقاعد من دون رُوَّاد، والشوارع مفتوحة قبيل الفجر من دون مارّة، نرى الذي يقف هناك وحيدًا (مسمّرًا) كأنه عمود نور. ويظهر أن ثمة (مقتربًا مفاهيميًّا) يبدو أنه مبشّر وواعد أكثر من السابق في تجارب التصوير في الشوارع المفتوحة الفعلية، ارتكز على القياس بالثورة الرقمية (الإنتاج لشركة مونكي بوي، ودوتش فيلم، وراديكال ميديا)، لكن من الواضح أنه يلقى إغفالًا من النقاد في عالم السينما، ربما لعوامل أخرى لا تتعلق مباشرة بالتقنيات الرقمية؛ مثل: ترجمة النصّ إلى مشهد، وسلطة الإخراج .. إلى غير ذلك. ومن ثَمَّ فقد تهدّد هذا المقترب بالإخفاق في لفت الانتباه وإثارة مشاعر الثورة التي شعر بها المراقبون للتغيرات في دراسة السينما بصريًّا في التسعينيات.
فيكتوريا .. والذين يدخلون عالمها
تنتقل الكاميرا المحمولة الواحدة كأنها فقرة متصلة في رواية يجب أن تكون كاملة المعنى، بين فيكتوريا وبين الذين يدخلون عالمها، تصعد معهم وتهبط، إنهم أربعة من الشباب الألمان: يتعرَّف إليها سوني (الممثل فريدريك لاو)، الذي بوساطته تَتعرَّف إلى بقية الأصدقاء: بوكسر الضخم، وفوسي الصاخب، وبلينكر المرح. وثمة دعوة إلى قضاء ليلة واحدة من القلب، أشبه باليوم الذي قضاه البطل مع البطلة في (إجازة في روما) أو في نسخته العربية (يوم من عمري). هذه ليلة واحدة في المدينة الكبيرة التي تضمّ الجميع، تسير معهم بدرّاجتها الهوائية، أما سوني فينطلق في ادعاءات صبيانية كاذبة تثير ضحكاتها، والليلة التي بدأت بالمرح وخفة الظلّ تدخل في منحنى بعض الاضطرابات، وتعرف أن بوكسر قد سُجن من قبلُ، والتصرفات العفوية كلها كانت تخفي وراءها كثيرًا من العلل.
تتذكّر معهم معاناتها عزف البيانو والحلم المجهض؛ بسبب غيرة زميلاتها في المعهد، لقد راقتنا البساطة والتمثيل التلقائيّ. وأحببنا الحوار الكاشف والغياب الكامل للنصّ (التحتي) وللمهمات المعروفة. يتورّط الأصدقاء في سرقة، وتقود فيكتوريا السيارة، هذا الملمح يُعيد إلى الأذهان المأساة التي ينتهي بها فيلم (ثرثرة فوق النيل)؛ الفراغ والقنوط والعبث الذي يدفع إلى الجريمة دفعًا. والشرطة لهم بالمرصاد، تصيب اثنين منهم، وتهرب هي وسوني إلى بناية للهروب إلى مغامرة جديدة.
كل هذا في لقطة واحدة طويلة بمنزلة رحلة مشاعر تجعلك في حالة توتُّر وترقُّب طوال الوقت، ولا يعمد المخرج إلى مؤثرات خاصة تفصل المشاهد عن الواقع؛ مثل: المكياج المبالغ فيه، أو تنظيف الساحات (كان مدير التصوير المصريّ طارق التلمساني يغسل الأشجار في الطريق قبل العمل؛ كي تعود إلى حالتها المُغْبَرَّة بغبار المدينة)، أو أمطار صناعية. آلات التصوير تقترب وتبتعد من زوايا وجهات نظر مستحيلة لشخصيات حقيقية بالكامل؛ السَّرْد يَتدفَّق في تيار واحد، لا يتكلمون كالإنسان الآليّ، ولا يسقطون لفافات التبغ، إنهم يسرقون ليعيشوا ليلة ظريفة فحسب، تنتهي بالدم والمطاردة. ما بدأ سهرةً لطيفةً انتهى بخسارة إخوتها الأربعة الجُدد، بهمسات وحسرات على أسطح إحدى البنايات، أما فيكتوريا التي يشير اسمها إلى الانتصار يتضح أنها مثال لهزيمة كل فرد في المدينة الكبيرة.