زهاء حديد .. غرائبية الأشكال المعمارية المعاصرة
تتسم عمارة «زهاء حديد» المعمارة العالمية ذات الأصول العراقية، (التي توفيت مؤخرًا في 31 مارس (آذار) 2016م، في أحد مشافي ميامي بأميركا، إثر نوبة قلبية مفاجئة)، بسمات محددة، أفضت إلى أن تكون مقاربتها التصميمية حدثًا مهمًّا وفريدًا في المشهد المعماري العالمي. وهذه المقاربة المنطوية على تميز واضح، تستقي إلهامها وجوهرها من ينابيع شتى؛ أضفت عليها نوعًا من الخصوصية المتفردة والاختلاف البين بينها وبين أقرانها من المعمارين العاملين في هذا الحقل. والحال أن عمارة زهاء حديد لا يمكن إدراك ماهيتها التكوينية عبر الأسلوب التوصيفي Descriptive.
إذ يظل هذا الأسلوب معنيًّا ومحددًا بالنتائج المرئية للمعطى التصميمي، على حين أن المطلوب هو الغوص في كنه تلك المقاربة، واستجلاء جوهرها. وهذا يتأتى من فهم عوامل عديدة أثرت في صياغة وظهور تلك المقاربة، وهي عوامل مختلفة ومتشعبة، قد لا تكون خاصة فقط في الشأن المعماري. بتعبير آخر: إن المطلوب هو معرفة خواص «الماكنة» المفاهيمية، المؤهلة باستيلاد مثل تلك التصاميم، عند ذاك يتم إدراك واستيعاب مسوغات الناتج الأخير بكل غرائبية «فورمه» الاستثنائي. وهذا بالطبع يقتضي مساحة إضافية من التحليل والمتابعة لا يتوافران هنا؛ لخصوصية هذه الدراسة ومحدودية غاياتها. آملين أن نعود مرة أخرى لفحص هذه الإشكالية المعرفية ومساءلتها مستقبلًا.
ومع هذا، مع مثل هذا الإقرار، فإن من غير المنطقي تجاهل تأثيرات الفترة الأولى للتشكل المعرفي والذوقي، وهي فترة ما انفك كُثر يعتبرونها هامة (وأحيانًا حاسمة) في تكوّن شخصية المرء. إنه لأمر مصيب القول بأن اكتساب الثقافات المعرفية الخاصة بالعمارة والفن، قد استمدتها زهاء من خصوصية المجتمع وقيمه الذي أقامت بين ظهرانيه لفترة طويلة، وشكلت بالتالي منظومة ذائقتها الجمالية. لكنّ قولًا آخر ليس من دون مصداقية، يشير بأن تأثيرات الوعي، (وربما اللاوعي أيضًا)، العائدة إلى فترة النضوج، قد تلعب دورًا موازيًا لا يستهان به في مهام تحديد نوعية الذائقة الجمالية إياها، وتسهم في تكوين خصوصيتها.
قد يتوقع المرء أن ثمة إضافات «مستترة» تضفيها المصممة على مشاريعها ذات اللغة المعمارية الفريدة التي عُرفت بها. وبواعث هذه الإضافات تظل بالطبع استحقاقات طبيعة المكان، الذي نشأت فيه المصممة. المكان الذي تتكلم عنه زهاء بعاطفة وشغف عميقين. على أنه علينا التأكيد، بأن مثل تلك التأثيرات لن تنعكس بصورة مكشوفة أو ملموسة في التصاميم المعدة من مكتب المعمارة؛ ذلك لأن عملها (أي عمل التأثيرات) سيخضع لعمليات التأويل وستكون متداخلة مع جوهر مقاربتها المعمارية تداخلًا عضويًّا، ما يجعل من الوهم توقع حضور مادي لها، أو إيجاد انعكاس جلي لها في تكوينات المشاريع المنجزة. كما يجب ألا يغرب عن البال طبيعة عملية إنتاج العمل المعماري المعاصر، المنطوي دومًا على أسلوب القرارات الجماعية المشتركة. نحن نتكلم، إذن، عن مناخ، مناخ تصميمي يتشكل من خصوصية المكان، الخصوصية القريبة من ذهنية المعمارة التي لا تزال تشغل حيزًا ما في ذاكرتها البصرية. يتعين التذكير بأن غرائبية الأشكال المعمارية المعاصرة، ليست مقتصرة على نتاج زهاء حديد وحدها، فالمشهد المعماري متخم بمثل هذه النزعة التصميمية التي سبق أن برر بواعثها «بيتر آيزنمان»، بكونها تمثيلًا لناتج معماري ما بعد حداثي، وهذا الناتج عليه أن يتجاوز بصنيعه أوهام الحداثة المتمظهرة في «وهم التمثيل، ووهم المنطق، ووهم التاريخ». لكن ما تقدمه زهاء يفوق ذلك التجاوز، ويقترب من مهمة جعل «مهرجان» الأشكال الغرائبية تبدو وكأنها حدث عادي، لا يفترض أن يثير الدهشة أو الاستغراب.
والسؤال المهم، هو كيف تحقق ذلك؟ كيف باتت «غرائبية» الأشكال المصممة تغدو وكأنها محض أشكال «عادية» في مقاربة زهاء المعمارية؟ بل إن التساؤل الأكثر أهمية، هو: من أين تستل زهاء هذه الغرابة التشكيلية لتصاميمها؟ وأين تكمن جذورها؟ لا يمكن الإجابة عن هذا التساؤل المشروع من دون تحليل عميق لطبيعة المقاربة «الزهائية»، ومن دون قراءتها قراءة نقدية متأنية ومتشعبة. وهو ما لا يمكن تحقيقه الآن، ضمن محدودية أهداف هذه الدراسة. ومع هذا فإننا نتطلع إلى الإشارة، ولو بعجالة، إلى المنابع التي شكلت فيوضها مزيج المرجعيات المتعددة التي منها تنهل زهاء خصائص نهجها التصميمي. بالطبع تقودنا تلك الإشارات، مرة أخرى، إلى خصائص العمارة التفكيكية، التي كثيرًا ما استقت زهاء منها توجهاتها. بيد أنها «تغرف» أيضًا من منابع شتى لجهة ترسيخ نهجها التصميمي الخاص، الذي تفصح عنه ببلاغة تصاميمها المنجزة، وبالصيغة التي أصبحت مألوفة في الخطاب، ولدى كثر من المتلقين. إن «فرشة» هذه المنابع لواسعة. كما أنها عديدة ومختلفة وحتى… متناقضة.
حلول تكوينية غير شائعة
أحد هذه المنابع الهامة في رأي زهاء، هو تأثيرات الـ«كونستروكتفيزم» الروسي وهوسه باستيلاد حلول تكوينية غير شائعة في المشهد، بل وبعيدة من المفهوم «الدارج» لمعنى العمارة وحدود مجالاتها. ثم علينا ألا ننسى أيضًا، طالما نحن لا نزال في روسيا، تأثيرات «كازيمير ماليفتش» ودعواته لارتياد آفاق جديدة في الفن والعمارة، عبر أنساق هندسية صوفية وتجريدية، تهجر السائد وتهجس بالآتي. وهو ما لقي هوى خاصًّا لديها، تمثل في استيعاب وتأويل الدرس «السوبرماتي» الماليفتشي. ثم هناك منابع جذورها الشرقية، المؤسسة لطبقات حساسة تكتنزها الذاكرة، وتفصح عن نفسها أحيانًا في «تصحيح» ذائقتها الجمالية. ثمة عامل آخر، قد يبدو للكثيرين عاملًا طارئًا وربما غريبًا، لكنه وفقًا لزهاء، كان عاملًا مؤثرًا من جهة نفوذه وتأثيره على صياغة نهجها التصميمي، وهي أعمال المعمار البرازيلي المعروف «أوسكار نيماير»: «تأثرت تأثرًا كبيرًا بأعمال أوسكار نيماير –تعترف زهاء حديد– وبخاصة إحساسه باتساع المكان، إبداعه وإحساسه هذا بالمكان فضلًا عن موهبته الفذة كلها مع عناصر أخرى تجعله متميزًا ولا يعلى عليه. فأعماله هي التي ألهمتني وشجعتني على أن أبدع أسلوبي الخاص مقتدية ببحثه على الانسيابية في كل الأشكال». (الشرق الأوسط، 25 إبريل 2008م). ولئن أثر كل هذا على صياغة مفاهيم زهاء، فإن ما أسهم في تحديد مقاربتها بشكل مهني وملموس، يظل بالطبع نوعية ثقافتها المعمارية، والأجواء المهنية المحيطة بها، وطبيعة متطلباتها؛ وخصوصًا متطلباتها، والأهم في كل ذلك القدرة على الإصغاء لهاجس تلك المتطلبات، وكيفية تمثيلها بجدارة.
وإذا تجاوزنا مرجعية الأشكال المتفردة ذات السمة الغرائبية، الحاضرة في مشاريع زهاء حديد، فإن طبيعة الأشكال ذاتها تثير قدرًا كبيرًا من السجال حولها. فهي، كما أشرنا سابقًا، غاصّة بالتنافر التشكيلي، وعدم التناغم بين عناصر لغتها المعمارية، وهي مليئة بالالتواءات والهشاشة المتقصدة، مع الإيحاء بالحركة والتشظي. والأمر الأساسي فيها هو غياب الأشكال المنتظمة، وعدم «منطقية» الفورم المصمم. إنها بالطبع أشكال متميزة. متميزة من السياق، ومتفردة عن الأنساق أيضًا. ولهذا تحتاج إلى تسويغ مفاهيمي، يبرر حضورها في المشهد، ويجعل من لغة عمارتها حدثًا مقبولًا.
قد لا يكون الفهم «المنطقي» وما يترتب عليه من قيم قادرة على تسويغ ما تقدمه زهاء من أشكال تصميمية؛ ما يحملنا إلى تقصي مفاهيم أخرى، يمكن لها أن تجيب عن مبررات ظهور أشكال المقاربة التصميمية إياها. وحتى لا نذهب بعيدًا في تيه التقصيات المتنوعة وربما المجهولة، علينا التذكير بأن مقاربة زهاء يمكن أن تصنف ضمن «المقاربات التي تعيد البشرية بين الفينة والأخرى حالاتها المتفردة العصية على الاستنساخ والتقليد. فالمخيلة الإنسانية ظلت على امتداد سفر التاريخ تجنح لإفراز تمظهرات تكون مترعة بالتعقيد والتناقض، ومشوبة بالغموض وفرادة الأشكال، كجزء من منظومة جدلية، تتفاعل بين النظام واللانظام، العقلانية واللاعقلانية، القاعدة واستثنائها؛ والتي بها يغتني المنتج الإبداعي الإنساني ويكتسب فرادته وتعدديته؛ لينجو من تبعات الرتابة وإيقاعها المتماثل الممل» (خالد السلطاني، عمارة ومعماريون، 2009، بغداد).
من هنا، يمكن إيجاد ذرائع للكثير من الأشكال الغرائبية التي رافقت الجهد التصميمي عبر مراحل مختلفة من التاريخ. ويحفظ السجل المعماري العالمي أمثلة عديدة من التصاميم، التي لا يمكن تفسير «فورماتها» من وجهة نظر المنطق فقط. في جميع أشكال تلك التصاميم وغيرها كثير، يظل المنطق العقلي قاصرًا عن فهم بواعث الهيئات الغريبة غير العادية، وطبيعتها الحافلة بالفرادة واللاعقلانية في آن. وتصاميم زهاء حديد يتعين إدراكها بالطبع، وفي الجوهر، طبقًا لما توفره طروحات ما بعد الحداثة (وخصوصًا في نسختها التفكيكية) من رؤى معرفية غير مسبوقة في الخطاب. لكن مراعاة تأثيرات «الرؤى الأخرى» المستلة من رحم الظاهرة التي أشرنا إليها توًّا، سيضيف بعدًا آخر لطرائق معرفتنا، ويضفي عمقًا على إدراكنا للمنجز «الزهائي». وبالتالي لن يكون ثمة نفي قسري يبتنى على قرار مسبق، يدين بتقيماته إلى «سطوة» المنطق وحده، نازعًا عن المصممة حقها في التطلع نحو خياراتها الغرائبية، وحاثًّا في الوقت عينه متلقي عمارتها بعدم قبول تصاميمها أو الرضى والتعاطف مع تلك التصاميم.
مزج مرجعيات مختلفة
وتبقى زهاء حديد تستمد لغتها التصميمية، أساسًا، من نهجها المعماري الخاص بها، النهج الذي تأسس، كما أشرنا، على مزج مرجعيات مختلفة ومنطلقات متنوعة. وهي توضح مقاربتها بالقول: إنها «تستوحي عناصر الطبيعة، وتمازجها مع العالم الحضري» وإن هذا العنصر «ينسحب على أعمالي، فأنا أحاول دائمًا التقاط تلك الانسيابية في سياق حضري عصري. وحين درست الرياضيات في بيروت، أدركت أن ثمة علاقة تربط بين المنطق الرياضي والمعمار والفكر التجريدي». (الشرق الأوسط، 25 إبريل 2008م). صحيح أنها تشعر بشعور خاص عندما تصمم تصاميم مخصصة بالأرض العربية، وتتطلع لأن يكون حضور المكان فيها مثريًا للعملية التصميمية؛ بيد أنها تخضع كل ذلك لرؤاها المهنية الخاصة، ولتأويلها لمعنى «الهوية» وإدراكها لها؛ وهو إدراك يتعاطى مع الأخيرة بكونها صيرورة منفتحة، وبكونها أيضًا ابتكارًا متواصلًا وليس إرثًا جاهزًا. وهي في هذا الصدد تعرض رؤاها بصراحة عن سؤال حول رأيها في تطور العمارة في العالم العربي ومتابعتها لها، «لا شك في وجود تغير ملحوظ في الآونة الأخيرة يمكن وصفه بنوع من الزهو بالهوية العربية. فجأة أصبحت أشياء كثيرة متاحة وممكنة. يمكن القول: إنه وقت مثير بالنسبة إلى المعمارين العرب، والفضل في هذا يعود إلى هذه الرغبة في التجديد ومواكبة التحولات العصرية» (الشرق الأوسط، 25 إبريل 2008م). وانطلاقًا من التجديد ومواكبة التحولات العصرية التي انهمكت بها زهاء نفسها، فإن المتلقي قد يجد في تلك التصاميم اجتهادًا في تأويل خصوصية المكان، وتأثيراته على الصيغ المقترحة لتصاميمها العربية. وما تؤكده المعمارة من اتساع الأحياز التي تتوق إليها في حلولها التصميمية، وحضور الانسيابية، وإيجاد روابط في المنطق الرياضي والفكر التجريدي والشأن المعماري، هي في الواقع، من صميم انشغالات العمارة الإسلامية، تلك الانشغالات التي وسمت خصوصيتها وطبعتها بطابع مميز. وتظل بالطبع، القدرة على إعادة قراءة تلك القيم: قيم العمارة الإسلامية واستنطاقها، هي ما يميز الإضافة التصميمية التي انبنت على طبيعة تلك القراءة أو ذلك الاستنطاق. وبرحيل المعمارة الفذة زهاء حديد، خسر العالم ولا سيما العالم العربي واحدة من أفضل معماريه ومبدعيه في مجال تغيير البيئة المبنية المحيطة نحو الأجمل والأكثر حضورًا وافتنانًا؛ هي المولودة في بغداد (1950م)، وفيها أكملت دراستها الأولية، قبل أن تدرس الرياضيات لاحقًا في الجامعة الأميركية في بيروت، ثم تلتحق بعد ذلك عام 1972م، بمدرسة «الجمعية المعمارية» (AA) بلندن، لتتخرج منها عام 1977م، وتبقى تصاميمها العديدة، وخصوصًا تلك التي صممتها للبلدان العربية، بمنزلة تذكار لها ولتلك القيم العمرانية والمعمارية التي سعت وراء ترسيخها في الخطاب المهني المعاصر.