الرواية وأنا صناعة أقدار وصيد بط!
يسألون: هل نحن نعيش عصر الرواية؟ وأسال أنا: منذ متى لم يكن للرواية عصر تعيش فيه؟ إنها شيء خالد كالرُّوح، الرواية ليست سوى حكاية واحدة لآلاف الحكايات التي نعيشها كل لحظة. حتى أكثر الروايات جنوحًا للخيال، هي الأخرى تنطلق من حكاية عشناها في زمن ما. أو لا نزال نعيشها؛ كل واحد منا له حكاياته، كل واحد منها هو بذاته حكاية. أنا. أنت. الآخرون هم كلهم حكاية. ولكل واحد أسلوب في طرح حكايته؛ بعضنا يكتبها، فتصبح رواية. وأحيانًا يكتفي صاحب الحكاية بسردها على الأصدقاء، وسواء كتب الإنسان حكايته، أم اكتفى بسردها، فنحن جميعنا رُواة بشكل أو بآخر؛ ما يجعل أحدنا أكثر براعة من غيره، هو الأسلوب الذي يطرح فيه حكايته.
في الماضي، كان (الحكواتي) أو الراوي، هو الرواية كلها، فهو جزء من القصة التي يرويها بالترتيب والتسلسل نفسه من دون أن يملّ هو، أو نملّ نحن من سماعها؛ ليلى والمجنون، عنتر وعبلة، أبو زيد الهلالي، وحكايات أخرى كثيرة. نعرف بداية كل حكاية ونهايتها، ومع ذلك نسمعها من فم الراوي، باهتمام شديد كل مرة، كأننا نسمعها أول مرة، ويعني هذا أن الأسلوب في الطرح، هو ما يجعل العمل روائيًّا ممتعًا، أو يسلبه هذه الصفة، لكن الحكاية تبقى هي ذاتها، قطعة من تجربة يومية؛ كُتبت أم لم تُكتَب، رُويت أم لم تُرْوَ.
حينما كنتُ شديدَ الخجل من مواجهة الناس، وحينما كنت أتمتع بأسلوب إلقاء تعيس، فقد آثرت أن أَتَّجه إلى الرواية المكتوبة، كنت أعيش كل يوم رواية، فأحببت أن أُسجِّل ما أعيش، لكنني وفي أحيان كثيرة تمنَّيت لو لم تكن التجربة التي عشتها، أو سمعتها، ابتدأت أو انتهت كما حدثت بالفعل. وكم تخيلتها لو بدأت هكذا وانتهت هكذا، ولأنني كنت عاجزًا عن تغيير الواقع، فقد التجأت إلى الرواية، إلى الخيال؛ لأصنع كل شيء كما أريد، شيَّدتُ مُدنًا كما أريد، وخلقت شخصيات كما أريد، وحرَّكت الأحداث كما أريد، لقد كنت أصنع أقدار أبطالي كما تمنَّيت دومًا أن تكون نجاحاتهم وإخفاقاتهم، وبداياتهم ونهاياتهم.
ما فعلتُه بعد ذلك هو أنني لزمت مكاني صامتًا، إن قلتُ: إني ترفعتُ عن مراقبة ردود فِعْل القُرَّاء على ما أكتب، فقد كذبتُ، بل كنتُ، في صمتي، شديدَ التطلُّع إلى معرفة رأي القارئ كائنًا مَن كان، ومع هذا استمررتُ في ادِّعائي أني لا آبه له، وأصررتُ في العلن أكثر مما في السر على أن قمة نجاح الروائي هو أن يكتب فقط، ربما كان ذلك حقيقيًّا، كما أدركت لاحقًا، لكنني حينها، وفي البدايات، كنت خلاف ذلك؛ أستجدي كل ثناء أو نقد، حتى هذا الأخير يَعْني أنني قد حركتُ جزءًا، ولو ضئيلًا، من البحيرة.
وكما قلتُ، فقد أدركت لاحقًا، أن نجاح الروائي لا يتحقق من خلال ثناء الناس عليه أو رفضهم إياه، ولا من خلال جائزة يحصل عليها أو مكافأة ينالها، فلم تكن تلك الجوائز في رأيي سوى إهانة رهيبة للأدب، أقول: إني أدركت لاحقًا، وبقناعة راسخة، أن أعظم مكافأة يستحقها الروائي والكاتب أن يتجرد من خوفه، ويكتب ما هو مؤمن به. وتَعَمَّقَ في يقيني أن قمة نجاح الروائي أن يكون أنانيًّا في المطلق؛ أي: أن يُرضِي نفسه أولًا وأخيرًا، لا أن يسعى إلى إرضاء القُرَّاء، أو استجداء الجوائز.
وأنا اليوم هنا بعد رحلة طويلة مع الكُتب، والقلم، وقدر كبير من الروايات التي كتبتها أو التي قرأتها؛ أتمنى بحسرة لو يمكنني تأسيس جمعية أو منظمة ترسِّخ غايتها لمحاربة جوائز الأدب؛ إذ إن من شأن تلك الجوائز، إضافة إلى إهانة الأدب، أن تقتله أيضًا، ويكفي أنها أصبحت مقياس نجاح الرواية وإخفاقها؛ حتى بات الكُتَّاب يستجدون الرِّفعة من وراء جائزة يتيمة، أكثر مما يستجدون السموّ من إيمانهم الصادق والمخلص بما كتبوا. وها نحن نرى اليوم روايات لا تستحقّ محض القراءة، وقد حصدت من الجوائز ما لم تحصده روايات أعظم منها شأنًا، وما الفارق بين هذه وتلك سوى أن الحظّ خذل واحدة، وقاد أخرى إلى أصحاب العصمة والقرار.
لقد أَسَرَنِي عالَمُ الرواية في نقائه؛ حتى بتُّ أرى في كل مقاطع يومي، صباحي ومسائي، فكرة رواية جديدة، الوقت يخذلني أحيانًا، والفكرة نفسها تتملَّص مني في أحايين أخرى، فبتُّ كصياد البط الذي يكمن لفريسته بين أعواد القصب، لكن الأفكار مناورة وماهرة في التملُّص من السقوط في كمائن الكاتب، فالبط يُغيِّر مكانه والصيادُ قابِعٌ ينتظر، كان عليه أن يُغيِّر موقعه، وهكذا بتُّ أُغيِّر موقعي؛ بحثًا عن فكرة طائرة لا تهرب مني، فتكون عملًا جديدًا يبدأ من أرض الواقع، حيث أنا بين أعواد القصب، ثم أُحلِّق به أعلى من مستوى البط.
ومتى أضحت الفكرة أسيرتي، لا مجال لهروبها من قلمي، لا تلبث تلك الفكرة أن تتعاطف مع القلم ضدي، فيسعيان معًا إلى لَيِّ ذراعي؛ لِأتوجَّهَ بالكتابة إلى طريق آخر غير الذي كنت أرمي إليه عندما وضعت الكلمة الأولى، لا أتوقف عن الكتابة ولا أستسلم، ولا القلم والفكرة يستسلمان، فنتعارك، ونتحابّ، ثم نتعارك من جديد، فنفترق ونلتقي، وأخيرًا يكتمل العمل وقد انتصر أحدُنا؛ أنا أو هما، وأيًّا كان المنتصر، سيكون هناك عمل ما، وهذا أعلى درجات النجاح الذي يجب أن ينشده أيُّ روائي.
فعندما يقول أحدهم: إن هذه الرواية قد نجحت وتلك أخفقت، فإن مثل هؤلاء يجهلون تمامًا، أنه لا توجد رواية ناجحة وأخرى غير ناجحة، فهل لو حققتِ الروايةُ مَبِيعاتٍ كبيرةً تكون قد نجحتْ؟ إن كان هذا هو المقياس، فكُتب الجنس لا يضاهيها كُتُب، أما إن كان مقياس النجاح هو الجوائز، فكم من كاتب مات مجهولًا ثم أضحى عظيمًا، ولو كان مقياس النجاح هو تلهف الناس على قراءة العمل، فكتاب مثل «التاريخ المختصر للزمن» لستيف هوكينغ لا يوجد من لم يسمع به، لكن مَن قرأه أو استطاع أن يفهمه؟
لا تَعْدادَ النُّسَخ المَبِيعة من الرواية، ولا الجوائز، ولا السمعة التي رافقتها أو تخلَّت عنها، تُعَدُّ مقياسًا لنجاح الروائي، فإن كان هناك مِن مقياسِ نجاحٍ واحد يُعْتَدُّ به فهو أن يُقدِّم الكاتِبُ عملَه كما هو مؤمن به، متجرِّدًا من خوفه، ومستمسكًا بأخلاقياته، ولو خالف البشرية كلها أو خالفتْه. في هذه الحال سيكون قد حقَّق نجاحًا كبيرًا، ولو لم يقرأ عمله إنسان؛ إذ مَن يعلم ماذا يخبئ المستقبل.
واليوم.. إن كان مِن وَقُود يدفع محرك الكتابة في داخلي للاستمرار بلا كلل، فهو هذا الشيء وَحْدَه، لا أكثر.
هاني نقشبندي – روائي سعودي