سقطت سلطات الشاعر ولم يبق للشعر سوى نفسه
كثر الحديث عن تحوّلات تطال فنّ العرب الأول وهو الشعر، في وقت تتبدّل أحوال العرب وأهواؤهم السياسية والاجتماعية. حُكي عن أزمة لغة وتغريب من جيل يفضّل التعبير بلغة شكسبير، ويهجر لغة ابن الرومي، والمتنبي، وعمر بن أبي ربيعة، ونزار قباني، ومحمود درويش، وسميح القاسم. هل الشعر الحديث اليوم في أزمة أم هي أزمة مجتمع وحريات تنعكس على ثقافتنا وسلوكياتنا بصفة عامة، كما يحلل الشاعر والكاتب والمخرج المسرحي يحيى جابر؟ في عصر الصورة والسينما ومواقع التواصل الاجتماعي والصحافي المواطن، ماذا يعني هروب الشعراء إلى الرواية، وانحسار القراء وعدم الاهتمام بدواوين مهمة يصدرها شعراء كبار وآخرون موهوبون؟ أم أننا نبالغ في وصفنا ما يعيشه الشعر اليوم بالأزمة، وهي سيمفونية يجب أن تتوقف، كما يقول الشاعر والكاتب فيديل سبيتي، على اعتبار أن «الجماهيرية لم تكن يومًا معيارًا للشعر ولا للنقد، وأن الشعر اليوم هو المكان التعبيري الأكثر جدوى من أي وقت مضى؟» لكن لا بدّ للشعر الذي يمثّل الإيجابية والحياة والتحريض عليها أن يبقى. فهو حاجة الناس إلى التعبير والكلام، وحاجتنا إلى الفرح والغناء والمدح والذم والرفض والتعبير عن الواقع. الشعر سافر منذ سنوات في رحلة بعيدة ويمرّ بسحابة سوداء، لا بدّ أن يتخطاها ويخترع رسامين لأمنياتنا وأحلامنا وأوهامنا وحبنا للحياة. هنا شهادات لمجموعة من الشعراء اللبنانيين حول الشعر؛ راهنه وأحواله.
يوسف بزي: شعراء بلا مكافأة ولا نجومية ولا جمهور
حتى وقت قريب، كان الشعر يتبوأ مشهد الثقافة العربية. كان هو «وجدان» هذه الثقافة ولسانها. هو الناطق بها، هو لغتها وذاكرتها ومادتها. كان الشعر بئر الثقافة العربية وموردها. ما حدث لاحقًا، هو التحولات العميقة في ثقافة الفرد العربي، وفي مصادر هذه الثقافة. تحولات في القيم والذائقة كما في وسائط نشر المعرفة، ووسائل التبادل والتواصل. حدثت تبدلات جذرية في معنى «القراءة» وأدواتها. باختصار، تلاقى نزوع القصيدة «الحديثة» نحو النثر، مع حاجة مجتمعاتنا المضطربة إلى السرد. جاءت الرواية جوابًا موضوعيًّا، تلبية تلقائية للتغير الذي أصاب الكتابة العربية. لا نتحدث عن «قيمة» الشعر، بل عن قابلية القراءة، وعن القارئ الذي بات في مكان آخر.
أما فيما يتعلق بالشعراء الشباب اللبنانيين، فهم في معظمهم شعراء الحيرة. يحاولون الفكاك من إرث السابقين. يصارعون ذاكرة شعرية مهيبة، من ناحية، وزمنًا تأبى فوضاه أن تنتظم في قصيدة، من ناحية ثانية. والأصعب، أنهم أتوا في وقت لا يأبه بالشعر أصلًا؛ لذا هم شعراء بلا مكافأة ولا نجومية ولا جمهور، محرومون من حيوية التداول والسجال والنقد. وحول القضايا المطروحة اليوم في الشعر اللبناني، لست أدري ما المقصود هنا بكلمة «قضايا»، فالكتابة الشعرية مفتوحة على كل ما يتصل بالوضع الإنساني ومأسوية الوجود. لكن في البحث عن خاصية ما في كتابات الجيل الجديد، قد نلحظ هذا النزوع المتجدد نحو الأنا المعزولة، التي تخاصم وقائع العالم وسيرورته.
لكن الشعر اليوم أصبح أكثر يتمًا، فلا جوائز مرموقة تحفز الشعراء، ولا مطبوعة مهمة تهتم به، ولا نقاد مهمومين بنقد الشعر؟ لازم «ازدهار» الشعر العربي الحديث، انتشار الصحافة الورقية وتقنية الطبع والنشر (الجرائد، والمجلات، والكتب…)، كما لازمه المنبر المسرحي والمهرجاني (الأمسيات، والندوات، والاحتفالات الجماهيرية). هذه الوسائط ذاتها تذهب شيئًا فشيئًا نحو الماضي والانصرام. معنى القراءة وأدواتها، ومعنى النشر والتداول، تعرضا لتحولات عميقة. يمكن القول بأن ثمة «سلطة» سقطت، سلطة الصحيفة الثقافية، سلطة المجلة النخبوية، سلطة المنابر السياسية، سلطة الشاعر نفسها، سلطة النقد ذاتها… كلها سلطات فقدت صلاحيتها. في رأيي، كل هذا يمنح الشعر عزلة إضافية، نقاء أكثر، غربة أشد، حرية أكبر، ونثرية أرحب. لم يبق للشعر سوى نفسه. وهذا قد يكون مكسبًا عظيمًا.
يحيى جابر: أزمة حريات
إنه مأزق عالمي عمومًا. فالشعر موجود أكثر اليوم في السينما وفي الرواية، وخصوصًا في الصورة والحوار الذكي واللقطة الذكية. الشعر تغيّر مع التحولات السوسيولوجية والسياسية والثقافية، فالشاعر لم يعد وزيرًا للإعلام كما كان في السابق، ولا محرّضًا ولا رسولًا. فدور الشاعر وأنواع الشعر، هي مسائل وهمية وخرافات. فتلك الصفات والمواصفات والأسماء الضخمة مثل شاعر الثورة، أو شاعر الفلسفة، أو شاعر البياض، أو الشاعر الوجودي، كلها انتهت مع الثورة التقنية الرقمية. وأصبح هناك فيسبوك وتويتر وفنون مفاهيمية وموسيقا الراب وغيرها، وكلها يكمن فيها الشعر بشكل أو بآخر.
الطموح إلى السلطة
كان الشاعر يعيش من بيع الدواوين والمهرجانات والأمسيات التي يحييها ويلقي فيها قصائده. كان بمنزلة رسول، منجّم، متحدث باسم الأمة، أو المتحدث باسم الفرد والأنا المتضخمة… وهؤلاء كلهم مثالهم الأعلى المتنبي، أي يحلمون بالسلطة والسلطة فقط بما يتضمنها المال. وهذه السلطة إما أن تكون ثقافية وأقصى حدّ فيها أن يُعيّن الشاعر مسؤولًا لقسم ثقافي في صحيفة أو وزارة، وإما أن تكون سلطة أيديولوجية؛ إذ يعيّن الشاعر نفسه متحدثًا باسم الفقراء وعذاباتهم، وإما أن تكون سلطة سياسية؛ أي يطمح الشاعر الذي يكون لبقًا بهندسة الكلام بترؤس حزب، أو متحدث باسم هذا الحزب، أو متحدث باسم زعيم ما. وأكبر مثال على ذلك الشاعر السوري أدونيس؛ لأنه يعدّ نفسه المتنبي، ويعيّن نفسه منظّرًا سياسيًّا فوق إرادة الشعوب والأفراد. وحالة الشعراء هذه كوميدية بامتياز.
أما القصيدة الشعرية فيمكننا القول: إنها بُترت أو جُرحت أو ضُربت في السنوات الأربعين الأخيرة، وزاد انكسارها مع ظهور وسائل تعبيرية حديثة آخرها السوشيال ميديا ومواقع التواصل الاجتماعي التي كانت بمنزلة الضربة القاضية. وهنا يبقى فقط 5 أسماء لامعة من أربعين سنة حتى الآن، بعد كل هذه الضربات الموجعة. فالمجلات والملاحق الثقافية العربية أنتجت مئات الشعراء، لكنها لم تُنتج حالة شعرية مهمة باستثناء ما حصل في بيروت ومصر. وفي لبنان على رغم ما أتت به مجلات الشعر المتخصصة التي عُدّت بمنزلة ثورة في القرن الماضي، إلا أن الشاعر في لبنان كان دائمًا تابعًا بشكل عام للسلطة بغض النظر عن نوع السلطة (وصاية سورية، ثورة، يمين، حركة وطنية). وأرى أن هذه الأزمة مسؤول عنها الشعراء أنفسهم والأيديولوجيات التي تحكّمت بهم وأنتجت دور نشرها ومؤسساتها الثقافية. وهنا نقصد الحركات اليسارية والشيوعية والقومية والوطنية حتى الإسلامية.
لذا نحن اليوم نرى أن الشعراء الشباب يمارسون عادات وسلوكيات أسلافهم من الشعراء، في لباسهم ونمط عيشهم والمقاهي التي يرتادونها، أما القصيدة فهي غير موجودة. وهؤلاء يكتبون عن الشعر، ولكنهم يعجزون عن كتابة قصائدهم.
باختصار أزمة الشعر العربي تعكس أزمة مجتمعنا من النظام إلى السلوك اليومي. مجتمع لا يعرف أن يعبّر، ولا كيف يهاجم سلطة، ولا كيف يثور وينجح في ثورته، ولا كيف يبني نظامًا سياسيًّا. إنها أزمة حريات وشجاعة، فالشاعر ابن الرفض، ولكن الـ «لا» لها ثمن وتحتاج إلى شجاعة، ولكن الشجاعة مفقودة.
فيديل سبيتي: المحل التعبيري الأكثر جدوى
الشعر العربي ليس في مأزق كما لم يكن في أي وقت، فهو وسيلة العرب الوحيدة للتعبير عن مآزقهم وآرائهم فيها، وتفنيدها، ودفعها، ورفعها، والسير بها، أو مدحها، أو ذمها. فكيف الحال في هذه الآونة من مآزق العرب الكثيرة والمتشعبة التي لن يفهمها إلا شاعر، أي متأمل ومغلّب مشاعره على واقعه بالمعنى التقليدي لتعريف الشعراء. بالتأكيد فإن الشعر العربي هو المحل التعبيري الأكثر جدوى لقول ما لا يمكن قوله في أي نوع من أنواع الفنون الأخرى، إلا إذا كان السؤال يتضمن جوابه؛ أي القصد بأن الشعر بلا جمهور.
هنا أقول بأن السيمفونية الدارجة التي تقول بموت الشعر أو بانفضاض الجمهور عنه يجب أن تتوقف إلى غير رجعة. فالشعر الحديث أو قصيدة النثر، لم تكن منذ بداياتها جماهيرية، بل كانت محارَبة من مُحبّي الإيقاع والقافية وبحور الشعر والتراث الآفل. وقصيدة النثر أو الشعر الحديث لم تتوجه يومًا إلى الجمهور إلا إذا استثنينا بعض الشعراء الذين يكتبون أصلًا لجمهور متخيل حين يخطون قصيدتهم؛ كمحمود درويش، ونزار قباني، وبدر شاكر السياب، ومظفر النواب، وغيرهم قلائل. فالشعر الحديث نخبوي بطبعه وهو لا يطلب الشعبوية أو الجمهور أو التصفيق أو البيع؛ لأنه شعر رفض الجماعة، وعاداتها، وتقاليدها، والمرسّخ من كل ذلك، إنه شعر قلب العالم إلى عالم آخر لا يحبذه الجمهور ولا يستسيغه، بل يتهمه بالهرطقة.
لوركا سبيتي: غياب النقد
أولًا لو أردنا الحديث عن موضوعات الشعر، أو ما قضايا الشعراء الشباب اليوم، سنتحدث عن كل الأفكار التي قد تخطر، وكل الانفعالات التي قد تتجسد، وكل الهموم الإنسانية التي يستوي عندها جميع البشر عامة والشعراء خاصة؛ إذ لا شيء معين يتناوله الشعراء الشباب اليوم، هي موضوعات أزلية أبدية تخص الحياة والموت وما بينهما، لكل منهم طريقة في التكلم عنها وتجسيدها بما يهوى، بأسلوب يميزه من الكتاب الآخرين. ولكن، لا بد من الإشارة إلى أن الملاحظ أكثر ما يكتب، وليس جميعه، له رائحة الواقع. ينقله بحقيقته من دون مواربة. ولنتخيل ما قد يكتبه هؤلاء الذين يعيشون في عالم دموي إن لم يكن قاتلًا فهو مقتول… منذ الجاهلية وصولًا إلى عصرنا هذا لا تزال الموضوعات ذاتها… الحب… العصبيات المتجسدة بمدح الفرد إلى مدح العشيرة إلى مدح الوطن والزعيم… .
على مستوى الأفكار لم يرافق تطور الوعي والغايات تطور الوسائل، فتغير شكل القصيدة من دون أن يتغيّر مضمونها، ولا يزال الشاعر يتغزل بمحبوبته بحسب لون شفتيها وشكل عينيها، مسترجعًا صورة هارون الرشيد في خياله وجواريه، من دون أن ينفتح على بعد إنساني أبعد وأعمق. أما إن كان الشعر العربي بمأزق؟ فالشعر ليس بكيان مجرد كي يقع في أزمة خاصة، هو نتاج الشعراء. وإن ابتعد القرّاء عن الشعر فهذا مرده إلى عدم قدرة الشعراء على ملامسة عصب الجمهور ودغدغة أحلامه عبر معانقة واقعه. وهذا ما لا تسمح به الرواية، فطبيعة الرواية تفرض على الراوي الانطلاق من الواقع ورسمه وتلوينه، ما يجعلها جذابة لخيال القارئ الذي يبحث عن نفسه وموضوعاته وهمومه في النص بعد أن ملّ من «أنا» الشعراء التي في الأغلب ما تدور حوله القصائد بشكل مباشر أو غير مباشر، في هذا الزمن الذي انسحق فيه «أنا» الفرد في الواقع وأصبح يبحث عن «أناه» عبر الخيال آملًا في استرجاع بعض إنسانيته، وهذا ما تسمح به الرواية عبر فضائها الأرحب والأوسع والمتحرر من «أنا» الكاتب.
ثم إنني أرى في هذه الأيام أن الأغنية حلّت محل قصيدة العصر القديم في وجدان الناس، بلحنها وأدائها وكلماتها، حفظها الناس أكثر من القصائد بذاتها. والمشكلة الحقيقية للشعر في وطننا، هو غياب النقد الحقيقي؛ بسبب غياب المتخصصين في النقد الشعري، إذ إن أغلبية النقاد هم شعراء أو كتّاب أو مسؤولو صفحات ثقافية في الصحف، وهؤلاء في الأغلب يفتقدون الخلفية العلمية الخاصة بالنقد، ليحل مكانها أهواؤهم، ومصالحهم الشخصية، ونظرتهم إلى جودة الشعر، وتقييمهم له.