اللجوء في حياة الفنانين الشباب.. أسئلة الحنين والحريات
إيبي ويوميات الهجرة القسرية
حين غادر المصور والمخرج اليمني إيبي إبراهيم صنعاء، كانت وجهته باريس. قضى ثلاثة أشهر في إقامة فنية داخل مبنى «سيتيه دو آرت». لم يفكر يومها أن يمنه السعيد سيتحول إلى جحيم. كان كل شيء يبدو طبيعيًّا إلى أن حطّ رحاله في برلين، واندلعت الحرب. فكر مليًّا بالعودة، وبصوت عالٍ شارك رفاقه هذا الهم. كانت النصيحة بأن يبقى حيث هو اليوم. بعيدًا من ألم صنعاء، الذي يحمله كهواء ثقيل في يوميات هجرته القسرية.
يتجاوز إيبي بصعوبة مشاعر الحنين والخيبة المباغتة في مدينة باردة. لا تشبه بشيء صنعاء التي عاش فيها طفولته ومراهقته، قبل أن يتعلم في الولايات المتحدة، ويقرر استخدام «فعل الفن» في مكان تنغلق فيه سبل الحياة والتجربة الحرّة بما فيها من آفاق لفنان شاب وثائر. يقول إيبي: إن قرار عدم عودته كان صعبًا، ولم يفكر يومًا في أن يغادر مرسمه الواسع وسط «الحي السياسي» في صنعاء؛ ليتركه منهوبًا لعصابات الحرب والقتلة الجوالين. إلا أن الحرب تفرض مسارات أخرى، وهي على قدر ما تؤلم ناسها، تكون «مضاعفة» على الفنان نفسه. فتشكيل الحياة ويومياتها، والعيش في زمنين ومكانين، يخلق في الفنان عوالم هشة.
يتعامل إيبي مع حياته بشيء من الخفة. كأن يبادر إلى تزيين جدران غرفته بأقمشة يمنية، أو يعدّ طبقًا تقليديًّا، أو يحتسي القهوة العدنية، ويستمع إلى أغنيات فيروز. كل هذا لا يخفف من وطأة الغياب، ولا يؤنس الوقت، إلا أنه يمرر جزءًا من الشوق. لكن ما يدفعه إلى التفاؤل دومًا أنه يمارس هنا فنه بكثير من الحرية. «الحياة تمنحك هنا الحرية الكاملة»، وفق ما يقول في مقابلة مع مجلة «الفيصل». إلا أن هذه الحياة «ناقصة»، وتكبر في الفنان «هوّة» صارخة، بين انتماءات عدّة، ومشاعر صاخبة، تحل في ثيمات أعماله. فالحرب وهولها وهوامشها عوالم حاضرة في أعمال إيبي، الذي يرى أن مشاركتها للعالم عبر أعمال بصرية وتشكيلية وتجريبية أمر في غاية الأهمية. «اليمن حاضر في كل أعمالي. وهو بالنسبة لي ليس وطنًا أو جنسية بل هو صديق. صديق يعاني؛ عليَّ مساعدته بكل الطرق الممكنة والموارد المتاحة». ويضيف أن صعوبات كثيرة واجهته، وتواجهه في مكانه الجديد، إلا أنها تشكل فرصًا، عليه اقتناصها ليتحدى نفسه، «أريد أن أجعل اليمن فخورًا بي، فخورًا بما أنتج عنه. إني أحمل اليمن في كل أعمالي وعروضي».
مغني الهيب هوب
لم تكن رحلة اللجوء بالنسبة لمغني الـ«هيب هوب» السوري خيري البش، المعروف بـ«وتر» شاقة بطبيعة الحال، كما يحصل مع معظم الهاربين من الحرب. هو لا يصنف نفسه هاربًا؛ إنها الوجهة الاضطرارية، التي تحمل معاني القسوة، لكنها ليست هروبًا. كانت بيروت إحدى محطات خيري ومكان تألقه وتجريبه كتابة الأغاني والأداء. يومها كانت بيروت لفنان سوري آتٍ من زمن المذبحة السورية، مكانًا أنيسًا لخوض غمار تجربة في مخاض الـ«أندرغراوند» العربي، قبل استقراره اليوم في فرنسا. تجربة انتقل فيها «وتر» باستعجال بين مسارح وأرصفة تضج بالثورة وأفكارها. يومها كانت الثورة السورية جزءًا من محاكاة جيل شاب، إلا أنها أيضًا غربة من نوع آخر.
أسس خيري فرقة «لتلتة» مع صديقين له، أحدهما ما زال في الفرقة، ويلقب بـ«أبو كلثوم». وبدأت هذه الفرقة تنتشر منذ عام 2011م، وكانت السياسة أهم ثيماتها. «حين بدأنا لم نكن منخرطين، أو نهدف للانخراط في الثورة أو السياسة، لكن الهيب هوب هو في الواقع مجاراة للسياسة وانتقاد واقعها». وحين قرر اللجوء إلى فرنسا، كانت لحظة ثابتة وحتمية. فبيروت والقوانين المجحفة فيها بحق السوريين اللاجئين وعدم تجديد إقاماتهم، سبب رئيسي لهجرة معظم الفنانين السوريين إلى بلاد أوربا. وجهة «وتر» الاضطرارية، لم تتضح مساراتها بعد بالنسبة له؛ «لأني جديد ولم يتعدّ وصولي أشهرًا فقط. لكن ما هو واضح بالنسبة لي هو صعوبة التواصل مع الناس هنا عبر الموسيقا؛ لأن الكلام الذي أكتبه هو عربي لهجة ولحنًا أيضًا. ومغزاه يتناول حكاياتنا وغضبنا نحن، إضافة إلى أن وجودي داخل الحدث السوري وفهمي له وفهم معاناته يختلف تمامًا عن نظر الفرنسيين له ولقصة ثورتنا وقضايانا». أما بالنسبة للجوء، فنظرة خيري تختلف كثيرًا عن معظم الفنانين، الذين يرون أن أثر اللجوء مختلف عليهم. يقول: إن «الفنان هو إنسان عادي. لكن الفرق أن الفنان قادر على التعبير وتوضيح وتفصيل الأمور والتحدث بلسان الناس العاديين. وهذا ما يخلق جمهورًا يستمع إلى الكلام والموسيقا. ولكن الإحساس باللجوء أو الغربة الإجبارية هو شعور واحد ومشترك لدى كل اللاجئين».
انشطار «الأنا» بين «هنا» و«هناك»
يبدو أن تجربة المنفى والعمل الفني والأدبي المرتبط بها، تستدعي الوقوف على حافة اللاحسم، بين أن تحضر «هنا» في الجغرافيات الجديدة وبين الـ«هناك» الماضي والجغرافيات التي تتحول إلى ذاكرة متخيّلة. فبالنسبة للمسرحي والكاتب السوري عمار المأمون، الذي يعدّ كتابًا عن «أنطولوجيا الدكتاتور»، ويعمل على كتابة أعمال مسرحية باللغة العربية، ترتبط صعوبات اللجوء، بـ«المنتج الفني والمسرحي»، وهو ما يستدعي إعادة التفكير بالتجربة الذاتية نفسها، فالـ«أنا» تنشطر بين «هنا» حيث «المركز»، حيث تغيب الخبرة بطبيعة عمل المؤسسة الثقافية والفنية (بغض النظر عن انتمائها)، و«هناك» جغرافيات الصمت والعنف، والأهم ما يرتبط بتلقي المنتج الفني (الأجنبي – المهاجر) بوصفه فانتازيا في الكثير من الأحيان.
يقول عمار، الذي انتقل منذ عام تقريبًا إلى باريس: إن المنتج الفني بخصائصه الفنية يتداعى، ويتم تجاهله أمام مفهوم «الشفقة». الرؤية المرتبطة بـ«الغريب» بوصفه مهمّشًا يختزن فانتازيا إلى جانب تراجيديا جبل عليها. لهذا يتم النظر إلى صاحبه بوصفه قادرًا على الإنتاج، بل وإثارة الإعجاب، الموضوع حساس لكنه منتشر بكثرة».
ولا ينكر المأمون، الذي يعدّ من أبرز الأصوات السورية جرأة ونقدًا، ويملك كتابة شابة ومطواعة في المسرح والنقد الأدبي، أن الأبواب والقنوات الجديدة «مفتوحة» أمام المهاجر، لا تقدر بثمن، صحيح أن أنظمة المؤسسات في الـ«هنا» أيضًا خاضعة لسياسات وأجندات، لكن لا يمكن إنكار خبرتها التاريخيّة».
ويوضح المأمون، الذي عاش طوال حياته في دمشق، واشتغل في مسارحها ثم عمل في الصحافة البيروتية كناقد فني وأدبي، وانتقل إلى الصحافة الدولية، ونشرت له مقالات مترجمة في «لا كورييه إنترناسيونال»، أن «المنافي ترتبط أيضًا بحالة من الانعتاق والتحرر من قيود الذاكرة. الانعتاق مما مضى، من الـ«هناك»، هو تجربة تحرر للأقصى، الذاكرة تتحول لمتخيّل، لتجربة سردية. تتلاشى النظرة الرومانسيّة في التعامل مع الماضي؛ لأنها محكومة بالخيال لا بالتجربة الجغرافية».
ويؤكد المأمون، الذي يسكن اليوم في شقة صغيرة في باريس، ويقضي وقته بين الكتابة والاستماع إلى موسيقا «الجاز» و«الأوبرا»، ومتنقلًا بين مسارح المدينة وعروضها، أن «تجربة المنافي والرحيل ترتبط بالجسد، بالتجربة الفيزيائية داخل جغرافيات جديدة، لا ذاكرة سابقة عن المكان، وإعادة تكوين لعلاقات جديدة مع المكان لتكوين الذاكرة، لتكوين حساسيات جديدة، هناك قطيعة لا بد منها مع الماضي، لا بد من انتصابات جديدة، إعادة تكوين لحساسيات مع المكان، لا يعني هذا النسيان، يعني إعادة تكوين حضور جديد».