مواسم الهجرة القاتلة إلى الشمال

مواسم الهجرة القاتلة إلى الشمال

تفاقمت مشكلة الهجرة غير المقننة (ولا أقول غير الشرعية) من دول الجنوب إلى دول الشمال، في السنوات الأخيرة، ووصلت أعداد المهاجرين إلى أرقام مهولة، فقد بلغت هذه الأعداد خلال أربعة عقود بعد الحرب العالمية الثانية، ما يزيد عن ثلاثين مليون مهاجر، وقفزت في العقد الأخير فقط إلى رقم مضاعف أي أكثر من ستين مليونًا، أما أخطر ما رافق هذا التزايد في الهجرة فهو قوارب الموت؛ إذ لم يكن التسلل من بلاد إلى بلاد، يتسبب في هذا الموت الجماعي للمهاجرين، كما يحدث مع قوارب الموت وإحصائياتها المفزعة.

كان خطر الهجرة غير المقننة محدودًا جدًّا، ولا يصل إلى موت المهاجر أثناء عبوره للحدود، إلا عدد قليل وحالات فردية، نادرة الحدوث، مثل تلك التي جعل منها الكاتب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني موضوعًا لروايته الشهيرة التي احتفت بها السينما «رجال في الشمس»؛ إذ فقدت مجموعة من المتسللين عبر الصحراء في طريقها إلى الكويت حياتها؛ لأنها اختفت داخل خزان ماء فارغ موضوع فوق سيارة لشحن الماء، نتيجة لسوء تصرف قائد الرحلة، الذي لم ينتبه إلى دقات الرجال داخل الخزان، ولم يستطع تقدير الخطورة التي يمثلها القيظ في الصحراء على زبائنه داخل صندوق حديد.

وسجلت أعمال أدبية غربية، وبخاصة في الأدب الألماني مثل هذه الحالات الفردية، ورصد بعضها ما يتعرض له المهاجرون تسللًا عبر حائط برلين من ألمانيا الشرقية إلى الجزء الغربي من المدينة، وكيف كان بعضهم يسقط تحت رصاص الحراس، ولعل أكبر أعداد من المهاجرين في الأزمنة الماضية كانت تلك التي تسللت بشكل سري إلى أميركا عبر حدودها من المكسيك، وهي أيضًا كانت موضع أعمال أدبية أميركية.

مواسم-الهجرة-١قوارب الموت

غير ذلك فإنها ظاهرة حديثة جدًّا هذه التي جعلت الموت جزءًا من المغامرة، وجعلت الفواجع الكبيرة والمهولة التي حصلت في البحر الأبيض المتوسط، المتمثلة في قوارب الموت، تستنفر الضمير العالمي، وتفزع كل كائن يملك قلبًا ينبض، وتتصاعد الأصوات من مختلف أنحاء العالم، بل ومن قلب الغرب المستهدف بالهجرة، تطالب بوجود صيغة أكثر رحمة وأكثر إنسانية للتعامل مع الهجرة التي يسمونها خطأ هجرة غير شرعية، ويقترحون لها اسمًا آخر مثل طالبي اللجوء، أو الهجرة غير المنظمة، وأن يسعى المجتمع الدولي لانتزاعها من براثن العصابات التي تتاجر بالبشر، وهي التي تحملهم بأكداس بشرية فوق قوارب مطاطية قابلة للعطب والغرق، بعد أن تسلبهم مدخراتهم، وحوادث نصب كثيرة تحدث، يجد فيها المهاجر المسكين نفسه يدور في حلقة مفرغة؛ مثل: حالات حصلت في ليبيا، تنقله العصابة من شاطئ البحر في جزء من الشاطئ الليبي، وتضعه في جزء آخر من نفس الشاطئ، باعتباره وصل إلى جزيرة إيطالية، بينما هو لا يزال في ليبيا وقد عاد إلى المربع صفر بعد أن فقد كل ما يملك من أموال أعدها ثمنًا للحصول على الهجرة.

وتشكل بلادي ليبيا في سنواتها الخمس الأخيرة، التي أعقبت ثورتها على نظام الطغيان العسكري الانقلابي، مكانًا مثاليًّا لعصابات المتاجرة بالمهاجرين السريين، وتهجيرهم عن طريق البحر الأبيض المتوسط، فلليبيا حدود مفتوحة مع العمق الإفريقي؛ إذ هي تتاخم مناطق دارفور السودانية، وتربطها حدود طويلة مع تشاد ومع النيجر، وهذه البلدان نفسها ترتبط بعلاقات عشائرية مع بلدان أخرى تتاخمها؛ مثل: نيجيريا ومالي، وهناك حركة حرة لهذه العشائر، تسهل لعناصرها الدخول إلى ليبيا، وبخاصة بعد أن غابت الدولة، وصارت الحدود الليبية مع الجوار الإفريقي قابلة للانتهاك لضعف الرقابة، وانهيار الإدارة، وضعف مؤسستي الأمن والجيش، وانتشرت بجوار عصابات المتاجرة بالبشر، عصابات التطرف الإسلامي؛ مثل: داعش والقاعدة، وهي عصابات تستحل لنفسها ما حرم الله؛ من أجل تمويل نفسها، فدخلت هي أيضًا في تهريب البشر، وتهريب السلاح، وتهريب العملة، وتهريب البضائع الممنوعة؛ مثل: الحشيش وغيره من المخدرات، وصارت ليبيا بسبب حالة الفوضى التي تعيشها مصدرًا من مصادر التوتر في العالم، ونقطة انطلاق للهجرة غير المقننة، ومحطة للهاربين من العدالة من مجرمين وإرهابيين، وهو أمر يضع ضغطًا على أهل الحراك السياسي؛ من أجل معالجة الفراغ الذي تسبب بانهيار الدولة، وحالة الاحتراب القائمة بين الميليشيات، وهناك ضغط عالمي وجهد تقوم به الأمم المتحدة؛ من أجل وجود صيغة تؤمن نوعًا من الحل الذي يؤدي إلى قيام الدولة بكامل مؤسساتها الدستورية والأمنية العسكرية والقضائية؛ لقطع الفرصة على هذه العصابات، ومحاصرتها، وإنهاء وجودها فوق التراب الليبي.

وليبيا تعطي مثالًا واضحًا لكيف أن الهجرة غير المقننة، صارت جزءًا من منظومة الإجرام العالمي التي تدخل فيها عصابات المخدرات، وعصابات تهريب العملة، وعصابات تهريب السلاح، ثم أخيرًا عصابات الإرهاب الديني وأهل التطرف والمغالاة من أهل الجرائم الذين يتلمسون غطاء من الدين، والدين منهم براء.

حروب أفرغت البلدان من مواطنيها

ولهذا فإن الحل لمشكلة أو ظاهرة الهجرة غير المقننة، ليس فقط حلًّا أمنيًّا، ولا حلولًا تقتصر على قوارب إنقاذ تبحث عن الغرقى وتحاول إنقاذهم، إنما حلول جوهرية، تبدأ بالبحث عن أسباب الهجرة، وتجفيف مواردها، بدءًا بإنهاء الفتن والنزاعات والحروب الأهلية، وخلق حالة من السلام في هذا الجزء من العالم الذي ابتلاه الله بحروب أفرغت بلدانه من مواطنيها، وأغلقت مصادر الرزق، وجعلت الموت يطوف في الشوارع، فكانت الهجرة عملية هروب من الفاقة، وأحيانًا عملية هروب من الموت، حتى لو كان المهاجر يعرف أنه يخوض عملية خطرة قد تنتهي بالموت؛ لأن موتًا محتملًا في البحر أفضل من موت مؤكد في شوارع مدينته.

وهناك غير الحرب والقلاقل الناتجة عن الصراعات المسلحة، الحالة الاقتصادية المتردية، وبخاصة في بعض الدول الإفريقية؛ مما يستوجب جهدًا إنسانيًّا عالميًّا لخلق نوع من التوازن الحضاري، بين شمال العالم وجنوبه، وإنشاء صناديق دعم لبعض الأقطار الفقيرة في القارة السمراء، وصناديق أخرى؛ لخلق عمل لبعض العاطلين داخل بلدانهم، وتنمية مواردهم؛ مما يمنع عنهم العوز، وينهي البطالة، التي تدفعهم إلى الهجرة، وضمان حزمة الإجراءات المطلوبة إنسانيًّا، وتسهيل قواعد الهجرة، وخلق مسارات قانونية تجعل الهجرة أقل خطرًا مما هي الآن، ويمكن لكل دولة تحصين نفسها بجملة من القوانين التي تحقق رفع الضرر عن المهاجر، وفي نفس الوقت تأمين الوطن المستهدف بالهجرة من الأزمات، والمشاكل التي تحدث بسبب هؤلاء المهاجرين.