اللاجئون العرب في ألمانيا ضيوف أم أصحاب بيت؟
أجلس في القطار الذي يربط مدينة بون بمدينة ساربروكن، وأقرأ في كتاب باللغة الألمانية، يصعد ثلاثة شبان وشابتان، كلهم عرب، يرتدون بنطلونات جينز، وجواكت سوداء، وكأنه زي مدرسي موحد للجنسين، باستثناء الفتاتين كانتا محجبتين، يجلسون في المقاعد المقابلة والمجاورة لي، كل واحد يحمل هاتفه الحديث، يتحدث فيه أو يكتب رسائل، عيونهم حمراء بلون الدم، ويبدو عليهم الإرهاق البالغ. بعد دقائق قليلة، يغلبهم النعاس، ويبقى واحد منهم فقط مستيقظًا للحفاظ على أمتعتهم القليلة المتواضعة.
يرن الهاتف، ويرد أحدهم وصوته مختنق من الغضب والتعب، قائلًا: «نعم ركبنا القطار الخطأ، وضاعت ساعات حتى انتبهنا إلى ذلك، من الساعة الثانية صباحًا، حتى الحادية عشرة، من قطار لآخر، نحن الآن في القطار الصحيح، لكني لا أعرف المحطة، وأخاف أن نضيع مرة أخرى…»، قاطعته وقلت له: إنني سأدله على المحطة. أنهى المكالمة فورًا، ونظر إليّ مذهولًا، وفتح البقية عيونهم، وتساءلوا في نفس واحد: «أنت عربي؟ لقد تكلمنا طوال الوقت من دون انتباه؛ لأننا حسبناك ألمانيًّا، بسبب الكتاب الذي تقرؤه، وعدم ظهور أي انفعالات على وجهك من حديثنا». أكدت لهم أني لم أنصت إليهم؛ لأني كنت مشغولًا بالقراءة. وسألتهم عما بهم، فقالوا: إنهم وصلوا الليلة الماضية، بعد رحلة استغرقت أسابيع، من سوريا إلى ألمانيا، وإن بعض مرافقيهم لم يكمل الرحلة من فرط العناء، واضطروا هم لمواصلة الرحلة بدونهم.
للمرة الأولى ألتقي لاجئين سوريين فور وصولهم، وقبل أن يذوبوا في المجتمع العربي الذي يوجد في ألمانيا منذ سنين طويلة، أدركت للمرة الأولى أن اللاجئين ليسوا أعدادًا، بل بشرًا، يحمل كل واحد منهم أحلامه، وآماله في حياة أفضل، وأن التفكير فيهم باعتبارهم مثل (الطوفان)، هو أمر يفتقد إلى الحس الإنساني. كانت معي زجاجة ماء زمزم، أخرجتها من حقيبتي، وقدمتها لهم، وطلبت منهم أن يشربوا منها، ويدعوا الله أن ييسر لهم أمورهم، فرأيت فرحة غامرة، وكأن ذلك آخر ما كان يخطر على بالهم، أن يحصلوا على ماء زمزم في قطار ألماني، لكنهم بالرغم من ذلك كانوا حذرين للغاية، إذا تحدثوا بينهم خفضوا أصواتهم؛ حتى لا أسمع. يبدو أن الرحلة القاسية التي قطعوها علمتهم ألا يثقوا فيمن لا يعرفونه.
هل كان أهل هؤلاء الشباب والفتيات سيقبلون أن يتركوهم يسافرون بمفردهم كل هذه الآلاف من الكيلو مترات في غير هذه الظروف؟ هل حرمتهم الحرب طفولتهم وشبابهم، والاستمتاع بتدليل الأهل لهم، والانتظام في دراستهم، والعيش في دارهم؟ هل يعرفون ما ينتظرهم في معسكرات اللاجئين من حياة صلفة؟ هل هؤلاء من يخاف الألمان أن يغيروا نمط معيشتهم، وأن يجعلوا من بلادهم (جمهورية ألمانيا الإسلامية)؟
ليسوا مجرد أرقام
يلقون أطفالهم في البحر، مثل أم موسى عليه السلام، ويدعون الله أن تلتقطهم قوات حرس السواحل، وتنقلهم إلى الشاطئ الأوربي، ويقولون: الموت غرقًا أفضل من الموت أشلاء جراء القنابل المتفجرة، التي تلقيها الطائرات المتوحشة، حتى إذا ما وصل الأطفال إلى هناك، وجدوا الرعاية والاهتمام، وطلبوا (لمّ الشمل)، وجلبوا آباءهم وأمهاتهم وبقية إخوتهم. ثم قررت أسر بأكملها أن تحمل أرواحها على أكفها، وتقطع الطريق بأي وسيلة ممكنة؛ لتجد من يستقبلها على محطات القطار بالترحاب، ثم زاد عددهم فغاب المرحبون، ثم زاد عددهم أكثر، فوجدوا من يسد الطريق، ويطلب منهم العودة من حيث جاؤوا، وكأن هناك بيتًا يمكن أن يعودوا إليه.
لم يعد هناك ما يشغل بال الألمان مثل قضية اللاجئين، وبدلًا من أن يتحدث الناس عن الطقس، أو السؤال عن الصحة، أصبحوا يتحدثون عن هذا الفيضان البشري الذي غطى ربوع بلادهم، وبعد أن كانت مستشارة ألمانيا، أنغيلا ميركل، أكثر السياسيين شعبية في بلادها، فقد مُنِي حزبها بخسائر فادحة في الانتخابات المحلية في ثلاث ولايات، بعد استياء كثير من الناخبين من تمسكها باستقبال اللاجئين السوريين، ورفضها إغلاق الحدود في وجههم، أو وضع حد أقصى لأعداد اللاجئين التي ستستقبلها ألمانيا، وفي المقابل حققت الأحزاب الرافضة لاستقبال اللاجئين مكاسب ضخمة. فهل يعيد المهاجرون العرب رسم خريطة ألمانيا السياسية، والاجتماعية والدينية؟
مليون شخص دخلوا ألمانيا في العام الماضي، احتل السوريون المرتبة الأولى بينهم، وقد سجلت السلطات الألمانية 377 ألف سوري في المدة من يناير إلى سبتمبر من العام الماضي، ويمثل اللاجئون السوريون في ألمانيا 5% فقط من إجمالي السوريين اللاجئين في مختلف دول العالم. فهل يشكل هؤلاء فعلًا فيضانًا يجتاح هذه البلاد؟
الطبيب السوري يعالج الألمان
لم يأت كل السوريين في قوارب متهالكة في عرض البحر الأبيض المتوسط، ولم يعتمدوا جميعًا على المهربين الذين دلوهم على المناطق الحدودية التي يتسللون من خلالها من دولة لأخرى، بل حصل بعضهم على تأشيرة دخول، وجاء بالطائرة، ولم يجد أي صعوبة في الدخول مثل أي سائح أو ضيف. فما الفرق بين مئات الآلاف من السوريين المعذبين الذين لا يرغب فيهم أحد، وبين القلة التي تفتح لها الأبواب؟
يقطع خطيب الجمعة حديثه، ليطالبنا بأن نتزاحم، ونضيق المسافات بين الصفوف؛ لأن عدد رواد المسجد قد تضاعف خلال الأسابيع الماضية، بعد قدوم الإخوة والأخوات من سوريا، ثم استأنف خطبته مطالبًا بأن نقدم لهم يد العون، وألا نتركهم يواجهون نفس الصعوبات التي مررنا بها عند وصولنا إلى ألمانيا، وحذرنا من الأنانية، وبخاصة أن بعضنا يقول: إن هؤلاء اللاجئين السوريين كثير منهم يملك المال في بلاده، وعاش دومًا حياة رغدة، عكس غيرهم من الذين جاؤوا من قبلهم من دول العالم الأخرى.
وما كادت الصلاة تنتهي حتى جاء صديقي طبيب الأسنان السوري الشهير، وقدم لي شخصًا آخر لم أره من قبل، قائلًا: إنه طبيب أنف وأذن وحنجرة، جاء الأسبوع الماضي من سوريا، وسيعمل في مستشفى بون، ويحتاج إلى ممارسة اللغة الألمانية، حتى يتمكن من التفاهم مع المرضى، وهذا هو الشرط الأساسي لكي يمارس عمله. اتضح أن ألمانيا ترحب بالأطباء السوريين، المعروف عنهم الاجتهاد، والمستوى العلمي الذي لا يقل عن نظرائهم الألمان؛ لذلك يحصلون بسهولة على تأشيرة دخول إلى الأراضي الألمانية، وتصريح عمل، وغالبًا يجدون وظائف في انتظارهم؛ لأن المستشفيات الألمانية دومًا في حاجة إلى أطباء. ومرة أخرى هي الحرب التي جعلت طبيبًا سوريًّا يحتاج إليه آلاف المرضى والجرحى في بلاده، يضطر إلى السفر إلى الخارج؛ ليضمن أن يبقى على قيد الحياة، وأن يكتسب المزيد من الخبرة، لعله يعود يومًا ويعالج بني وطنه، بعد أن يتخلص من المعاناة التي لم تعد تطاق.
ألتقيه في شهر رمضان، وأستمع له، وهو يتحدث عن الإفطار في بلاده، مع أفراد أسرته المشتتين حاليًا في داخل سوريا وخارجها، وكيف كانت الحياة رغدة في بيت والده الطبيب الشهير، والمزرعة الكبيرة المطلة على البحر، ثم الانتقال إلى العاصمة دمشق، بعد أن وقعت مدينتهم الساحلية في يد هذا التنظيم أو ذاك، ثم قصف الجيش السوري. كل ذلك دفعه للهجرة، والعيش الآن في غرفة متواضعة، لم يكن يتخيل يومًا أنه سيعرف هذا الصنف من الحياة.
حصل على الاعتراف بدراسته، وتصريح مزاولة المهنة كطبيب كامل التأهيل مثل أي طبيب ألماني، وانتقل من بون للعمل في عيادة في مدينة ميونيخ، صحيح أن الراتب ليس جيدًا، والمدينة غالية، لكنه راضٍ. اضطر للسكن في شقة مع شاب ألماني، وفتاة فرنسية؛ مما أغضب أهله، لكنه لا يجد بديلًا بإيجار معقول، يعد والديه أن يراعي الله في كل شيء، لكنه فعلًا مضطر، ولا يفكر فيما يغضب الله، ويضيف قائلًا: «هذا ثمن العيش في هذه البلاد!» تمر أسابيع قليلة ثم يأتيه عرض جيد بوظيفة كاملة، وبراتب يسمح له أن يستأجر شقة بدون فتاة فرنسية فيها، بل له وحده، ولزوجته السورية مثله؛ لأنه قرر أن يكمل نصف دينه، وكانت النهاية التي تبدو سعيدة، لكنه يصر على أنه لا يعرف طعم السعادة، خارج بلاده.