موت زاحف إلى لبنان
أن تعيش في بلد لا يشهد حربًا مباشرة، لكن موتًا يشبه الحرب، بل يفوقها قسوة، يزحف إليه من كل جهة، فهذه تجربة مختلفة، وأثقل مما تحمله الحرب من أعباء. ذاك أنك أيها الرجل تُعاين الموت البطيء بأم عينك، فيما الموت في الحروب سريع، وما يُخلفه من صدمة يجعل منه غريبًا وطارئًا ومؤقتًا، أما الموت في بلد يحتضر من دون حرب مباشرة، فيمكن معاينته ورصده وهو يقترب منك، وهو بهذا المعنى موت غير صادم؛ لأنه جزء من طبيعة الأشياء.
في لبنان يقترب الموت منا منذ أكثر من عشر سنوات. نعاين في كل يوم اقترابه خطوة منا، ونشعر بأنه صار أقرب إلينا من أنفسنا. لبنان المحاصر بالحروب الأهلية والملتبس والمعقد ما عاد يفصله عن الحرب الأهلية سوى مسافة واهية، هي نفسها ما يجعل اللبنانيين يعتقدون أنهم ما زالوا خارجها. لا بل إن عدم سقوطه في هذه الحرب هو جزء من عجز البلد عن الإتيان بأي شيء. حتى الحرب يبدو أن لبنان عاجز عن خوضها على نفسه، وهو عاجز ليس لأنه محصن منها إنما لأنه فاقد القدرة على المبادرة.
بيروت تفقد كل يوم وظيفة من وظائفها. يصح ذلك على وظائفها المباشرة بصفتها مدينة أهلها، وعلى معانيها أيضًا. فعندما انقض حزب الله على المدينة في 7 مايو 2008م كفت بيروت عن كونها ملجأ لأهلها، وعندما أعلن الحزب انخراطه في القتال في سوريا أنهى بهذا الإعلان قيمة الحدود وفتح لبنان على احتمالات الحرب الإقليمية، واليوم بعد أن فُجر بنك لبنان والمهجر في أعقاب التزامه ببرنامج العقاب الأميركي للحزب، أخضع الحزب القطاع المصرفي لمنظومته الأمنية، ومن المتوقع أن يستجيب القطاع لضغوط حزب الله، ويصبح لبنان خارج المنظومة المالية الدولية.
مدن البؤس التوتاليتاري
لم تجرِ هذه الوقائع منفصلة عن حال من الموت، ومن مشابهة مُدن البؤس التوتاليتاري التي تقبض عليها أنظمة شمولية. فالوسط التجاري للمدينة راح بالتزامن مع انقضاض حزب الله التدريجي على المدينة وعلى أهلها ينطفئ يومًا بعد يوم. في كل يوم يشهد هذا الوسط إقفال متجر أو شركة أو مقهى؛ حتى صار اليوم مدينة خالية يزحف الفراغ على مبانيها مخلفًا طبقات من الغبار.
منطقة الحمرا التي حاولت الاستثمار بموت الوسط التجاري فراحت تزدهر وتتوسع ابتليت بشيء اسمه «الحزب السوري القومي الاجتماعي» وهو حزب يقاتل إلى جانب حزب الله في سوريا، ويسيطر على شارع الحمرا، ومعممًا فيه شعارات لا تمت إلى الحياة وإلى هذا الزمن بصِلة. وكما فرض الحزب نموذجه وذوقه على الشارع فرض أيضًا لافتات كُتبت عليها عبارات تُشعر العابر بأنها كتبت للنيل من ذكائه ومن كرامته. وبموازاة ذلك تحول الحزب السوري القومي «الاجتماعي» إلى سلطة تفرض «خوّات»، وتنتشر على زوايا الشوارع معلنة عن نفسها على نحو فظ.
والموت المحدق بلبنان جعل من أي رغبة في مقاومته أمرًا مستحيلًا. ثمة انقسام يمنع أي طموح للوقوف في وجه هذا الموت. فقد قررت بيروت مثلًا في الانتخابات البلدية الأخيرة أن تُعلن تذمرها وعصيانها على تيار المستقبل، وهو السلطة البلدية فيها، فجاءت نتائج الانتخابات كاشفة عن المزاج البيروتي المتذمر من أداء المستقبل، لكن النتيجة لم تسمح بالتغيير؛ لأن لائحة المستقبل فازت بفارق ضئيل، يتيح هذا الاستنتاج، لكنه لا يتيح التغيير.
لا يريد اللبنانيون معظمهم دورًا في القتال في سوريا، لكن حزب الله أقوى منهم، وبإمكانه توظيف انقساماتهم في معركته هناك، ويريدون رئيسًا للجمهورية، لكنّ أحدًا لا يستطيع انتخاب رئيس ما دام الحزب لا يريد رئيسًا. رائحة النفايات صارت جزءًا من وعي اللبنانيين لأنفسهم؛ لشدة عجزهم عن محاسبة الحكومة المسؤولة عن تراكم هذه النفايات. وهم، أي: اللبنانيون، صاروا على قناعة باستحالة التغيير، لا بل شرعوا يكيفون وقائع عيشهم مع حقيقة أن النفايات هي جزء من طبيعة الأشياء ومن جريانها اليومي.
جبال النفايات
لا شيء يُمكن تغييره. هذه قناعة مستقرة في منطقة راسخة من وعي أي لبناني، وهذا الأخير ستراه منقادًا إلى انتخاب من تسبب له بهذا اليأس وهذا الموت. لا شيء أوضح من أزمة النفايات تعبيرًا عن هذه المعادلة. المسؤول عن جبال النفايات المنتشرة في كل مكان هو حكومة ووزراء ومسؤولون سيعيد اللبنانيون انتخابهم في أقرب موعد للاقتراع. فالتظاهرات التي شهدتها العاصمة بيروت احتجاجًا على غرق العاصمة بالنفايات بدت أصغر من أي تظاهرة يمكن أن يدعو إليها زعيم أي طائفة مهما كان حجمها. في وقت طرحت التظاهرة ضد النفايات على نفسها مهمة مواجهة زعماء الطوائف مجتمعين.
لا يمكن لأحد أن يُغير شيئًا. تفجير فردان الأخير كان أوضح مثال على العجز. الوضوح وانكشاف المهمة والوظيفة أشارا إلى أن الجهة المُفجرة لا تشعر أن ثمة ما يمنعها من أن تُعلن عن نفسها، وأن لا رأي عام يعنيه هذا الوضوح. فالتفجير هو جزء من اللغة العادية التي يقبلها الجميع، وهو على استعداد للتعامل مع نتائجها، وقبول الرسالة، والعمل بموجب ما يطلبه المفجرون. ففي أعقاب التفجير عُقد اجتماع لجمعية المصارف، وأُعلن في أعقابه تفهم الجمعية مخاوف حزب الله من قبول المصارف بالشروط الأميركية.
ولبنان هذا هو على نحو ما هو عليه، أي أنه على شفير الانهيار من دون أن يبلغه تمامًا، فقط لأن وظيفتين ما زال لبنان يؤمنهما للمجتمع الدولي، وإلا كانت الحرب وكان دبيبها؛ المهمة الأولى استقبال اللاجئين السوريين، وهي ما يحسبه العالم له. والمهمة الثانية المحافظة على ما تبقى من وجود مسيحي، وهي أقل أهمية للعالم من المهمة الأولى، لكنها تُخاطب بعض القيم الدولية. لكن البلد لن يصمد كثيرًا، والمهمتان لا تكفيان ولا تحصنان، والإرادة الدولية ليست عاملًا وحيدًا يعيق الانهيار، فنحن أمام بلد بلا حدود، وبلا أمن، وبلا اقتصاد. أمام بلد يضم حزبًا أكثر قدرة من كل جماعاته، وأكثر قدرة منه هو نفسه.