مطاع صفدي قامة فكرية عالمية خسرناها
من بوابة الأدب الروائي والقصصي والمسرحية، دَلَف مطاع صفدي إلى مدارات الفكر القومي العربي والفلسفة الوجودية، واستطرادًا خوّض في فلسفة النيتشويين الجدد، الذين غذّوا أطروحاتهم الماركسية غير التقليدية بأمداء متجدّدة من أسئلة الحداثة، وما بعد الحداثة، وعلى رأسهم الفلاسفة: ميشيل فوكو، وجاك دريدا، وغيل دولوز، وهربرت ماركوز، فبرع مُفكّرنا فيما انتهجه من خيارٍ كتابيّ لاحقًا على حساب ما كان قد انتهجه سابقًا، وإن كان قد مهّد للفكر القومي العربي في الأساس، عبر روايته الواقعية: «جيل القدر» عام 1960م، التي ينتهي فيها البطل المؤمن بالوحدة العربية (ذكر أكثر من مرة أن هذا الشاب قد يكون هو، أو أي واحد من جيله العروبي بالضرورة) بخيبة الأمل بالوحدة المصرية السورية، التي قامت أركانها عام 1958م، أي قبل انفراط عقدها عام 1961م، ويستمر بالنواح عليها فيما بعد كذلك. وفي المحصّلة يعد مفكرنا تجربته في حزب البعث السوري أولًا، ثم في نظيره العراقي ثانيًا، لم تفشل فقط، إنما كانت درسًا له لن يكرره ثانية البتة؛ والسبب كما يفيد، هو تعسكر الحزب، وتحوّل قادته إلى طغاة مستبدّين، من غير المنصف مقارنة ما قاموا به من فظائع وأهوال، مع ما قام به أولئك الذين وصموهم بالرجعية والعمالة للاستعمار.
لكن مطاع صفدي (1929 – 2016م)، المفكّر العربي السوري، الذي رحل عن هذه الفانية في السادس من يونيو الماضي، أي في أجواء الذكرى الـ 49 لهزيمة الخامس من يونيو 1967م، ظلّ حتى آخر يوم من حياته على إيمانه المطلق بالفكر القومي العربي، وفلسفة حتمية نهضة الأمة العربية من جديد، حتى لو تمزّق جسدها شلوًا شلوًا على مذبح المتآمرين عليها من كل حدب وصوب.
منهج إرادة المعرفة
حتى وهو مندمج بالسؤال الحداثي الغربي، وبالبحث عن الحقيقة، من خلال تأثره «بمنهج إرادة المعرفة» و«آليات فضاء» ما بعد الحداثة، الذي دار فيه ميشيل فوكو طويلًا، لم يتخلّ مطاع صفدي عن عقله القومي، ولا عن بصيرته العروبية، ولم ير في ذلك أيّ تناقض حسبما أفادني (كان هو أحد موجّهي رسالتي الأكاديمية لنيل شهادة الدكتوراه في الفلسفة): «فأنا أبحث عن ذاتي وهويتي كشعب يريد أن يشارك في المصير العالمي، ولا يمنعني ذلك من الخوض في أي تجارب فلسفية تتخطّى البعد القومي والهويّاتي في طبيعتها ومآلاتها، بل أشعر أن من واجبي كعربي أن أخوض في تلك التجارب الفلسفية الفاعلة والمتفاعلة، وأستوعبها، وأنقدها في الصميم، كرمي تصويب معركتي الكيانيّة من أجل الحرية بإزاء الاستبدادين: الداخلي والخارجي».
من هنا رأينا مطاع صفدي ينشغل مع مثقفين وناشطين عرب آخرين في مشاريع فكرية وفلسفية جدّية، صدر حولها كتب وأبحاث ودراسات ومقالات عدة. كما رأيناه يُصدر من قبل مجلة فكرية متميزة للغاية، هي «الفكر العربي» أيام كان يُشرف على إدارة «معهد الإنماء العربي» في بيروت، الذي كان يعمل في عداد طاقمه مفكرون لبنانيون وعرب مرموقون؛ أمثال: د. وضاح شرارة، د. أحمد بيضون، د. غسان سلامة، د. حافظ قبيسي، د. منذر لطفي، د. محمد الدبس، وغيرهم.
بعدها ترك مطاع صفدي هذا المعهد، ليؤسّس «مركز الإنماء القومي» في العاصمة اللبنانية أيضًا، ويُصدر مجلة فكرية طليعية تحت عنوان: «الفكر العربي المعاصر»، ومجلّة أخرى مختصّة بالفكر الغربي، تأليفًا وترجمة، حملت عنوان: «العرب والفكر العالمي»، شاركه فيها لفيف من الكتّاب والمترجمين العرب المقتدرين، أغلبهم من دول المغرب العربي.
في هذه المرحلة كان مطاع صفدي قد تشرّب الفكر الفلسفي الغربي الحديث، بوجهه الفرنسي على الأخصّ، وانشقّ عنه بكيمياء كتابيّة جديدة، يمكننا تسميتها بـ«الكتابة العربية المفهومية»، المواكبة لآخر انفجارات العقل الغربي في مفاهيمه وإشكالياته وتعقّد أسئلته وأزماته؛ وراح خلالها مفكرنا ينقد هذا العقل، بخطاباته المصنّفة تحت لافتة الحداثة وما بعد الحداثة، فأنشأ ما سمّاه «مشروع مطاع صفدي لترجمة أمهات الكتب الغربية»، وحول ذلك كان أصدر أيضًا كتبًا مهمة من بينها: «نقد العقل الغربي: الحداثة ما بعد الحداثة»، و«نقد الشر المحض» (جزآن)، «إستراتيجية التسمية في نظام الأنظمة المعرفية»، ماذا يعني أن نفكر اليوم؟ وترجمة «الكلمات والأشياء» لميشيل فوكو، حتى صار هو (أي مطاع صفدي) أحد دعاة ما بعد الحداثة عربيًّا ومشرقيًّا، وصار أكثر من منخطفٍ بميشيل فوكو الذي خلب لبّه، ووجد فيه الفيلسوف الوحيد المستقل في العالم خلال السبعين سنة الفائتة، خصوصًا لجهة استيعابه العميق (فوكو) لمراحل الفلسفة منذ الإغريق إلى اليوم، وبكل أبعادها المثالية والمادية، وتلك المتناغمة بين الاتجاهين أو الأكثر منهما.
والاستيعاب لدى صفدي هنا، يعني النقد الجريء، والمتجاوز المليء، وشطب كل أبعاد البلادة والتنميط، حتى في صيغة ما يُطلق بـ«الحيوية»، فثمة «حيوية نمطية أيضًا، هي أخطر وأدهى من أي فكر فلسفي سكوني دال»، كما صرّح بذلك فوكو لبيار بورديو، عالم الاجتماع الفرنسي الكبير، من خلال حوار كان أجراه معه الأخير لصحيفة الموند في أواخر الستينيات، قال بورديو: «إنه يدين لميشيل فوكو في نقده القاطع لتغاضي الماركسية عن العوامل الأخرى غير الاقتصادية، والتي لا تقلّ خطورة في تأثيرها على الفرد والمجتمع من الاقتصاد وتسلّط رأسمال، ومنها، مثالًا لا حصرًا، فرض المنتج الثقافي للقوي في المدينة، وتكريسه، عرفًا ورمزًا، على الآخرين في الريف، لا لشيء إلّا لكون القوي في المدينة لديه القدرة الكاسحة على فرض «ذوقه الفني» في مكانه، وفي أمكنة الآخرين على السواء.
وميشيل فوكو الذي هو أحد فرسان ما بعد الحداثة الكبار في فرنسا والعالم، أثّر انقلابيًّا أيضًا، حتى في الجيل الفلسفي الشبابي الجديد، الذي عرفناه مطالع القرن الحالي، الذي بدأ يؤسس لإعلانه عن «موت ما بعد الحداثة»، وقيام تيار «بعد ما بعد الحداثة»، ومن رموز هذا الجيل الفلاسفة الشبّان: آلان كيربي، جيل ليبوفيتسكي، وطوني درافت، وغيرهم. وقد لخّص كيربي «بعد ما بعد الحداثة» (في أحد وجوهها طبعًا) بأنها «ضرب للحداثة الزائفة الخفيفة التي أحدثتها التكنولوجيات الجديدة، فمسخت نفسها ومسخت المعرفة معها».
من هنا بعد.. وبعد، سرّ تعلّق مطاع صفدي بميشيل فوكو، كفيلسوف اللحظة الراهنة والمستقبلية على قاعدة الحفر في الماضي، واستخلاص دروسه العميقة.
كما تعلّق صفدي بفوكو لأسباب عربية أيضًا، خصوصًا أن الفيلسوف الفرنسي الكبير، كان قد نزل إلى الشارع عام 1971م ومعه جان بول سارتر، وسيمون دو بوفوار، وأندريه غلوكسمان وغيرهم، تنديدًا بالجريمة العنصرية التي لحقت بالشاب الجزائري جلال بن علي. وكان فوكو في طليعة المتظاهرين الغاضبين، وقد تولّى بنفسه إلقاء الخطاب التنديدي بالجريمة عبر المذياع اليدوي قائلًا أمام المحتشدين في الشانزيليزيه: «لا تسمحوا للفاشية الجديدة بتفجير مخزونها الأيديولوجي المريض، واستخدام المواطنين من أصول غير فرنسية، كفائض ديموغرافي لا لزوم له، بل هم الذين لا لزوم لهم في مجتمعنا، وفي سائر المجتمعات الإنسانية الواحدة».
اتهم الغرب الأميركي باختطاف ثورات الربيع العربي
راهن مطاع صفدي على «ثورات الربيع العربي» في بداياتها، ولا سيما في بلده سوريا، لكنه خاب أمله بالنتائج المتوالية على الأرض حتى الآن. واتهم الغرب الأميركي باختطاف الثورات وحرفها عن مسارها. كما تحدّث عن شيء «سمّاه اقتصاد الأسواق الحمر في مقابل اقتصاد الأسواق السود». وقال لو أتيح مستقبلًا لمراقب عِلمي أن يتنبّه لأسرار هذه المرحلة الراهنة، وهي من أتعس ما عرفه تاريخ النهوض للأمم والحضارات، فقد يفاجئه بروز نظام جديد متكامل لاقتصاد الحروب، تصحّ تسميته باقتصاد الفتن المنظّمة، وهو آخر ما ابتدعه عصر الإمبراطورية الآحادية بديلًا عن أصناف حروبها التاريخية السابقة جميعها.
رحم الله مطاع صفدي؛ هذا المفكّر القومي العربي الحضاري، الذي أبى إلّا أن يستخدم أدوات منهج البحث العلمي المحايد في كل ما سطّره في كتبه الفكرية والنقدية. وبعدما تشبّع بكبرى عناوين ومتون أفكار التيارات الفلسفية والمعرفية بجدليّاتها المتغايرة على الأرض؛ صار، وعن جدارة، يستحق لقب مفكر عالمي كبير. قبل رحيله بشهر تقريبًا حادثته بالهاتف، فأشار إلى أنه سيغادر هذه الدنيا، ولديه أمنية وحيدة فقط، وهي ألّا يفقد شباب الأمة العربية الثقة بديناميات إنسانهم العربي، وقدراته الهائلة على بناء النهضة من جديد وفق ركائز حضارية غير مسبوقة، ومنطلقة من كل التجارب والجائحات المؤلمة الراهنة… وذلك مهما بدا المشهد العام مقفلًا أو مستحيلًا.