عبدالله الشبل.. الإداري والإنسان
في هذه المقالة القصيرة عن الأستاذ الدكتور عبدالله بن يوسف الشبل –رحمه الله– لن أكتب عن الشبل العالم والمؤرخ لكني سأتناول جانبًا مهمًّا في حياته، وهو الجانب الإداري والإنساني. وقد عرفت أستاذنا الجليل الدكتور: عبدالله بن يوسف الشبل -رحمه الله- أول مرة عام (1391هـ) عندما كنت مدرسًا في (معهد الرياض العلمي)، وأسند إليّ تدريس مادة (التاريخ) مع أن تخصصي في اللغة العربية، وكان الشبل قد أعدّ مذكرة تحولت بعد ذلك إلى مقرَّر دراسي للتاريخ، وعند تدريسي إياها للطلاب اكتشفت عقلية فذة تنظر إلى أحداث التاريخ بعين الناقد البصير، فلا تكتفي بسرد الحوادث إنما تهتم بتحليل الأحداث وتعليلها، واستنباط العِبر منها، وربطها بأحداث العصر، وكانت تلك المذكرة تؤرخ للحروب الصليبية، وتمتد إلى بدايات العصر الحديث.
كانت امتحانات الثانوية للمعاهد العلمية مركزية؛ توضع الأسئلة بوساطة (إدارة الامتحانات) وتحمل أوراق الإجابة إلى الرياض من جميع المعاهد، ويتم التصحيح بوساطة لجنة ثلاثية، فكان اللقاء مع الشبل في لجنة تصحيح مادة التاريخ، واستغرق العمل عشرة أيام، عرفت فيها أستاذنا الشبل فإذا هو المؤرخ الثبت والعالم الجليل والمربي الفاضل، يتسم بالهدوء والتواضع وحسن الحديث، ودارت بيننا أحاديث في أمور شتى.
نموذج إنساني فريد
لقد كانت تلك الأيام العشرة كافية لأتعرف إلى نموذج إنساني فريد وفاتحة علاقة استمرت أكثر من خمس وأربعين سنة، ومنذ ذلك التاريخ لم تنقطع علاقتي به أستاذًا في الجامعة، ثم أمينًا عامًّا، فوكيلًا فمديرًا للجامعة. تاريخ طويل من العلاقة الحميمية. يحكمها نصح وإرشاد وتوجيه بلطف وَأُبُوَّة صادقة منه، رحمه الله رحمة واسعة. وما سأذكره في هذه العجالة إنما هو رصد صادق ومحاولة جادة لتعرُّف مفاتيح شخصية الشبل وأسلوبه الحكيم في التعامل مع الإنسان.
ومفاتيح الشخصية الإنسانية والأبواب التي يلج منها المحلل لشخصية ما، ويحاول التركيز على معرفة لوازمها، ثم تطبيقاتها العملية عندما تتحول من فكرة وشعار إلى برنامج عمل وسمة لازمة تحكم تصرفات الإنسان، وتوجه سلوكه، وتكشف عن منهجه في الحياة وأسلوبه في الإدارة. ولا أريد أن أتقمص دور المحلل النفسي والراصد الإداري ولست قادرًا على ذلك، لكني أصف عن قرب وأروي عن معرفة وأرصد عن طول ملازمة لمعالي الدكتور الشبل، وقد أنجحُ وقد أخفق، ولكنها في كل الأحوال محاولة ومقاربة.
من صفاته الأناة والروية، وعدم الاستعجال في الحكم على الأشياء أو اتخاذ القرارات المتسرعة. فهو يستمع إلى جميع الآراء. ويجيد الإنصات والاستيعاب. ويدرس أبعاد القضية بكل دقة وتفصيل. وهنا لا بد أن نستحضر أنه مؤرخ منصف يحكم في قضايا التاريخ بناءً على الشواهد والأدلة، ولا شك أنه استفاد من تخصصه في التاريخ مما جعله يرصد تاريخًا مفصلًا لكل قضية تعرض عليه في الجامعة.
وبعد هذا الرصد الدقيق، والتحليل العميق، واستشارة كل الأطراف دونما احتقار لصغير أو دنو مرتبته أو رتبته، ولا انخداع بمجامل أو منافق أو مخادع، وبعد كل ذلك يأتي القرار. فإذا وفق فيه فذلك فضل الله، وإن لم يكن كذلك فله أجر الاجتهاد والإخلاص والنية الطيبة. ومن صفاته –رحمه الله– الحلم والتواضع والبعد من الغرور والتعالي، فلم أسمعه يومًا وقد رفع صوته على موظف أو مراجع. ولم أره وهو يدير المجالس والحوارات قد تعالَمَ أو ادعى الانفراد بالمعرفة أو سفه رأيًا، أو احتقر متحدثًا. وهنا أقف عند علاقته –رحمه الله– بجميع منسوبي الجامعة بعد أن ترجل عن كرسي القيادة وتخفف من هموم الإدارة. هل انقطعت علاقتهم به؟! هل هي علاقة مصلحة ومنصب؟!
علاقة رئيس ومرؤوس؟! لا –والله– والدليل المشاهد هو جلسته الشهرية والمناسبات الاجتماعية والدينية في الأعياد وغيرها. هنا نجد الجميع صغارًا وكبارًا يذهبون إليه بمحبة واحترام. فالمنصب عرض زائل. أما المحبة والاحترام فمستقرة في القلوب. وإذا أحب الله عبدًا حبّب خلقه فيه. وتلك من عاجل بشرى المؤمن.
متعدد المواهب
وأستاذنا الشبل متعدد المواهب والمعارف لم يحصر نفسه في التاريـــخ لكنه ذو ثقافة شرعية عالية ومعرفة إدارية متميـــزة. وسأذكر هنا تخصصًا آخر ربما لا يخطر على البال وهو (الهندسة) فقد أشرف وتابع إنشاء (المدينة الجامعية لجامعة الإمام) وهي مدينة جامعية على أحدث طراز عالمي، بل هي مفخرة من مفاخر بلادنا الغالية.
وقد أشرف على هذا العمل الجبار معالي الدكتور الشبل منذ أن كانت المدينة فكرة، ثم تخطيطًا أكاديميًّا، ثم تخطيطًا هندسيًّا وعمرانيًّا، ثم تنفيذًا ومتابعة. ولقد عملت معه في (هيئة المشروعات) فكان الزملاء المهندسون أعضاء هيئة المشروعات يرجعون إليه في كل صغيرة وكبيرة، فيجدون المعلومة حاضرة في ذهنه والرأي السديد متكاملًا في تصوره.
في أول عام لي في وكالة الجامعة جاء وقت مناقشة مشروع ميزانية الجامعة لدى وزارة المالية، فذهبت معه للمرة الأولى لوزارة المالية، ووقفت على مكانته لدى مسؤولي الوزارة وترحيبهم به، وتذليل العقبات بسلاسة عجيبة ونقاشات وحوارات مهذبة، وبعد ذلك أوكل إليّ أمر متابعة الميزانية، وزودني بنصائح ثمينة تكتب بماء الذهب استفدت منها وقت عملي معه وبعد أن ترك العمل وجاء أخي معالي الدكتور محمد بن سعد السالم لإدارة الجامعة، فكنا نسير على خطا وتوجيهات الشبل، وهنا لا بد من ذكر شهادة للتاريخ هي أنه مع الاعتراف بالفضل لمعالي الدكتور عبدالله بن عبدالمحسن التركي في تطوير الجامعة وفي إنشاء المدينة الجامعية الرائعة لها؛ إلا أن دور الشبل يجب أن يذكر ويشكر فهو الوسيط دائمًا مع وزارة المالية، وهو الذي يمهد للاعتمادات المالية الضخمة لبناء المدينة الجامعية بأسلوبه السلس وعلاقاته ومرونته ومتابعته الدقيقة لكل مراحل التخطيط والتنفيذ.
التسامح وتجاوز الصغائر
وقد تعلمت من معاليه –وبخاصة عندما أصبحت وكيلًا له في الجامعة وملازمًا له في العمل اليومي– وحاولت الاقتداء به والسير على نهجه في إدارة العمل.
تعلمت منه الحلم والأناة والروية فلم أره يومًا يظهر غضبه، وإن كان يغلي من الداخل، وتلك صفة مدحها الله في كتابه العزيز: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} (آل عمران: 134).
وتعلمت منه العفو والتسامح وتجاوز صغائر الأمور مع من زلّ أو أخطأ أو تجاوز حدوده متمثلًا قوله تعالى: {وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ} (آل عمران: 134) ومطبقًا لقاعدة: «إن تخطئ في العفو خير من أن تخطئ في العقوبة». وتعلمت منه الحرص على الإحاطة بكل جوانب الموضوع المطروح للنقاش وكأنه في كل قضية تناقش يكتب تاريخًا لها منذ أن بدأت حتى ييسر الله لها حلًّا وفرجًا. وتعلمت منه التواضع الذي يزينه ويزيد من قدره، ومن تواضع لله رفعه، ومن تواضع للخلق أحبوه وقدروه، فكان عظيمًا في تواضعه ونبل أخلاقه. رحم الله الشبل وأسكنه فسيح جناته.