الموسيقا السعودية تعود إلى «الحياة»
الحياة الفنية في المملكة العربية السعودية كانت موجودة قبل العهد السعودي الزاهر، وبخاصة في الإقليم الغربي من البلاد، وتحديدًا في الطائف وجدة ومكة والمدينة؛ إذ كانت تتوافر ملامح حقيقية للنشاط الفني بكامل خصائصه. واستمرت الحياة الفنية بعد ذلك بعد قيام الملك عبدالعزيز آل سعود -رحمه الله- بإعلان دولته التي أمضى يناضل فيها 27 عامًا من أجل تكوينها. وإن كانت بصورة أقل مما كانت عليه من قبل.
وفي عام 1931م أعلن اسم المملكة العربية السعودية على كامل التراب الوطني، وبدأت رحلة العمل لبناء دولة حديثة من مؤسسات مدنية وقطاعات رسمية وأهلية، وهنا ضعفت الحياة الفنية لاعتبارات عدة؛ اقتصادية وسياسية واجتماعية، حتى أعلن تأسيس الإذاعة السعودية عام 1948م في جبل هندي بمكة المكرمة، وهنا بدأت الحياة الفنية تستعيد شيئًا من وهجها بعد أن تم تقديم بعض الأناشيد وإعداد نصوصها وألحانها في صور فنية بسيطة، ومع انتقال الإذاعة إلى جدة بدأت ملامح العمل الإعلامي تنضج وتتضح شيئًا فشيئًا؛ إذ أنتجت الإذاعة مسرح الإذاعة الغنائي وهو اللبنة الأولى في ولادة الموسيقا السعودية الحديثة.
أما في الرياض فلم يكن هناك حضور للموسيقا وإن كانت الفنون الشعبية التي تقدم في المناسبات الرسمية والخاصة هي الأوفر حظًّا بالاهتمام والذيوع والانتشار، وإن لم يخلُ الأمر من قدوم بعض الفنانين من الخليج العربي في زيارات متقطعة حتى تم تأسيس إذاعة الرياض عام 1964م، فبدأت الحياة الفنية تنمو في الرياض وتزدهر.
النهضة الفنية السعودية
انطلقت النهضة الفنية السعودية بكامل أطيافها في مطلع الستينيات الميلادية بصورة رسمية. وتعد أبرز المحطات التي مرت بها الحياة الفنية السعودية هي تأسيس فرقة موسيقا الجيش السعودي التي التحق منسوبوها بالإذاعة والتلفزيون فيما بعد، واستكملت الفرقة لتصبح أوركسترا بعد التعاقد مع عدد من الموسيقيين العرب من سوريا ولبنان ومصر آنذاك، لتنطلق هذه الفرقة إلى العمل بمسرح الإذاعة وإعداد وتأليف الفواصل الموسيقية، وتترات البرامج، وتنفيذ الأغاني السعودية مع الفنانين في أستوديو ومسرح الإذاعة، ثم أعقب ذلك انطلاق عربة النشاط الغنائي والموسيقي إلى سائر أرجاء المملكة، وبرزت الفرق الموسيقية، والفنانون، وازدهر الأمر بحضور ومشاركة العديد من الفنانين العرب مع نظرائهم السعوديين في تقديم أعمال مشتركة بعد انطلاق البث التلفزيوني.
ومن أبرز التحديات التي واجهت انطلاق النشاط الموسيقي والغنائي شحّ الموارد الاقتصادية لتوفير متطلبات القيام بالأنشطة المجدولة، والنظرة الاجتماعية السلبية تجاه النشاط الموسيقي والغنائي، وعدم توافر المعاهد الموسيقية التي يلتحق بها الهواة وذوو الميول.
وقد أولت الحكومة السعودية اهتمامًا مبكرًا بهذا الملمح الحضاري منذ بداية التأسيس، وسنّت النظم والتشريعات له ليواكب حاجة البلاد والشعب إلى إنتاج المحتوى المطلوب؛ لتشكيل ثقافة ووعي وذوق أبناء الشعب، بيد أن ثقافة المجتمع كانت منقسمة، وإن لم تكن بارزة النزعة السلبية آنذاك في بدايات النشاط الغنائي والموسيقي في ظل تقديم وإنتاج مسرح التلفزيون والإذاعة والبرامج المشابهة له، وتنظيم المحافل الفنية في الأندية وفي مصيف البلاد الأول الطائف الذي كان يعد مهد النشاط الفني السعودي. وفي وقت من الأوقات كانت الطائف أشبه بهوليوود السعودية؛ إذ كانت تتبارى أحياء وحارات الطائف في إقامة الحفلات الغنائية حتى نهاية السبعينيات عندما قام جهيمان العتيبي بحركته المعروفة في بيت الله الحرام، وبعد القضاء على حركته التمردية وإعدامه انطفأت شعلة الحياة الفنية لدينا المتمثلة في الغناء والمسرح والسينما.
حركة فنية مشلولة
شلت الحركة الفنية السعودية بالكامل وبخاصة الموسيقا، بعد أن كانت توجد في جدة أربع فرق موسيقية، ومثلها في الرياض، وواحدة في الأحساء، وأخرى في الدمام. وأذكر أن فرقة الإذاعة والتلفزيون بالرياض تم إيقافها ونقل بعض موظفيها إلى جدة، وبعضهم تم تحويله إلى وظائف إدارية، وبعضهم تم الاستغناء عن خدماته. ومن المؤسف اليوم أنه لا توجد فرقة موسيقية في البلاد تقوم بممارسة عملها مثل أي قطاع آخر في الحياة يؤدي رسالته؛ ما دفع فنانينا إلى أن هاجروا بأعمالهم لتنفيذها في الخارج.
ومن المخرجات لهذا الأمر المغيب عن حياتنا بفعل فاعل أن النهضة والتنمية طالتا جوانب الحياة في البلاد، وبلغتا مرحلة متقدمة جدًّا من الازدهار إلا قطاع الفنون؛ الأمر الذي أفضى لأن يلتحق الشباب بالتنظيمات الإرهابية التي احتضنتهم، ووظفتهم لتنفيذ أجنداتها بكل أسف.
وعلى الرغم مما تم الإشارة إليه فإن الأمير الراحل فيصل بن فهد –رحمه الله- كان يعمل على بناء نهضة فنية، تعكس مقدرات البلاد والثروات الضخمة التي تختزنها من فلكلور وموروث شعبي وموهوبين قادرين على إنتاج الموسيقا الحديثة، وهذا الطموح هو ما نجم عنه رؤية المملكة العربية السعودية 2030م في إطلاق الأكاديمية الملكية للفنون وإعادة العمل بالفرقة الموسيقية بالإذاعة والتلفزيون بالرياض مؤخرًا.