المواقف المتشددة من الموسيقا فجرت حالًا من التناقض
في أغسطس عام 2000م استيقظت الساحة الغنائية والموسيقية في الوطن العربي على فقد هرم فني مخضرم هو الفنان طلال مداح، وذلك أثناء تأديته وصلة غنائية على مسرح المفتاحة في أبها جنوب السعودية. محبو الفنان وضعوا سرادقات العزاء وتهافتوا عليها من أجل المواساة، فطلال كان أبًا روحيًّا لهم ومعلمًا لأجيال متلاحقة في هذا المجال. وأطلق المعزون دعوة إلى تحويل اسم المسرح الذي شهد وفاته إلى «مسرح الفنان طلال مداح» تخليدًا لذكراه، فيما تضاءلت طموحات الآخرين بالدعوة إلى تسمية أحد الشوارع الرئيسية باسمه. وبعد مرور 16 عامًا من رحيله، لم يتحقق شيء من هاتين الأمنيتين.
في الضفة الأخرى من المجتمع، تحولت وفاة مغنٍّ وهو يحضن عوده على مسرح، إلى فرصة مناسبة لإصدار عشرات المحاضرات والخطب الوعظية، التي جعلت من تلك الوفاة «سوء خاتمة»؛ إذ تنظر تلك المجموعات إلى الفن والغناء على أنهما ضمن الممارسات المحرمة، ومن يمارسهما مرتكب لأثم يعاقب عليه. وشهدت تلك الحقبة تجديد الدعوة إلى تحريم الغناء، عبر إعادة نشر فتاوى التحريم من عدد من الشرعيين، بل والذهاب إلى أبعد من ذلك وهو السعي إلى إيقاف إقامة المهرجانات الغنائية في السعودية.
ويرى مراقبون أن المثال في الأعلى يختصر المشهد الفني بمجمله في السعودية. فهناك فئة متعطشة للفنون وتسعى إلى استعادة أمجاد حقبة ما قبل نهاية السبعينيات الميلادية من القرن الماضي، ولكن دائمًا ما يجدون أنفسهم يلاحقون سرابًا ووعدًا لا تجد من يوفيه. وهناك مجموعات متشددة أُعطيت المجال على مصراعيه فوجدت نفسها حارسة للتشريع.
عندما تكون تهمتك «موسيقا»
في أحد أزقة مخطط ثمانية، وهو أحد الأحياء القديمة في مدينة الدمام على ساحل الخليج العربي، يتحدث عبدالرحمن عن والده «حمد أبو راس» الذي رحل عن الحياة قبل تسع سنوات، ولم يكن ذائع الصيت أو شخصًا لافتًا للأنظار، ولكن ما تعرض له في نهاية عام 1997م جعله محط أنظار سكان الحي الذي سرعان ما هجره إلى مقر سكني آخر؛ إذ وقعت حادثة مؤلمة عندما كان الابن يبلغ من العمر سبع سنوات.
فبعد صلاة العشاء ذات يوم وجدت الأسرة الأب ملقى على باب بيتهم وهو مضمخ بدمائه بعد أن تعرض لضرب مبرح من أشخاص يجهل هويتهم، والذين حرصوا على أن يؤكدوا له أن الداعي لـ«تأديبه» بهذه الطريقة رأي أدلى به في عدد من المجالس، كان مختصر رأيه أن الأغاني حلال شرعًا وليست محرمة، وأن من يحرم الغناء جاهل وليس لديه أي علم أو فقه. يروي الابن عن أبيه أنه قال له بعد مضي سنوات: إنه تجادل مع أحدهم واحتدّ النقاش في أحد المجالس حول حرمة الغناء، وكانوا يرمقونه بنظرات كانت تنبئ بوجود نية لإيقاع الأذى به، ولكن لم يتوقع أن يصل بهم الأمر إلى أن يعتدوا عليه.
من وحي هذه القصة ننتقل إلى ميدان مفتين أباحوا الغناء في سنوات قريبة، وكيف أنهم أيضًا قوبلوا بهجوم حادّ وصل إلى مرحلة التشهير بهم والتنفير من مجالستهم، إضافة إلى التهديد بالتعرض لهم جسديًّا. أشهرهم على المستوى المحلي كان الشيخ عادل الكلباني، الذي كان إمامًا للمسجد الحرام؛ إذ ذكر في حوار صحافي معه أنه لا يوجد دليل في القرآن أو السنة النبوية يقضي بتحريم الغناء، معلنًا أن الغناء حلال جملة وتفصيلًا وبأي صوت كان حتى بالمعازف. ويأتي من بعده من ناحية تبني هذا الرأي وإحداث دوي بين أوساط الشرعيين قبل غيرهم، الرئيس السابق لفرع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنطقة مكة المكرمة الشيخ أحمد بن قاسم الغامدي، الذي ذكر أنها مسألة خلافية، وأن القائلين بالتحريم اعتمدوا على حديث ورد في صحيح البخاري، وجاء تحت عنوان «من يشرب الخمر ويسميها بغير اسمها»، وأن الرواية الواردة بذلك الحديث لم يؤيدها أحد من الثقات. كما أن راوي الحديث انفرد به، وجميع روايات الحديث المذكور مطعون بها، بحسب تصريح إعلامي له.
ويكاد يكون هذان الشيخان من أشهر الشخصيات ذات المنهج السلفي في شق العصا في هذه المسألة التي ظلت ردحًا من الزمن تابوهًا ممنوعًا نبش تفاصيله، حتى لا يتعرض هذا الشخص للإقصاء، وهذا ما جرى مع الكلباني والغامدي؛ إذ تعرضا لهجوم تم استثمار كافة المنصات المتاحة فيه، من فتاوى ومنابر المساجد وشبكات التواصل الاجتماعي، وتم القدح في شخصهما وأعراضهما، وأيضًا الدعوة إلى محاكمتهما وزجهما في السجون.
الباحث الاجتماعي التونسي مصطفى بو غدير يرى المشهد سوداويًّا؛ إذ يرى بو غدير أن «تكثيف الأطروحات التي تحرم الغناء والموسيقا، وكافة الفنون الجميلة، وأيضًا وضع إطار قانوني لهذا التحريم من خلال منح صلاحيات لجهة ما لمنع الناس، لا شك أن لذلك آثارًا سلبية ليست فقط من ناحية الممارسات الفردية، ولكن أيضًا من جهة خلق مناخ خانق تنعدم فيه الجماليات، بينما دور الآداب والفنون هو تهذيب النفوس وجعلها رطبة؛ وهي سلاح ضمن أسلحة المجتمعات لتخفيف من النزعة نحو العنف ومشاهد الدماء».
وعن النقاش الديني حول حرمة الغناء والموسيقا من عدمها، يذكر أن «هذا مؤشر على رغبة في دفع المجتمع إلى الانشغال بمساحة فردية، بدلًا من الانشغال بمشاريع تنموية كبرى، وهذا الواجب على المواطن العربي وبخاصة في ظل التحديات الحالية، فيما يترك موضوع الغناء والحجاب، وغيرهما، لاختيار الشخص المُكلف ما يناسبه».
استهلاك مرتفع رغم «القيود»
أمام الصورة في الأعلى، نجد صورة مختلفة ومليئة بالتناقضات؛ إذ إن الأرقام تشير إلى أن السعوديين من أكثر الشعوب العربية استهلاكًا للفنون، وهذا ما يتجلى في أرقام المبيعات والمشاهدات العالية للأغاني والمقطوعات الموسيقية. كما يلحظ المتابع ضخامة المشاركة من السعوديين في مسابقات الهواة في البرامج الكبرى، والتي للمفارقة تعود ملكيتها إلى رجال أعمال سعوديين.
يفسر الباحث محمد القحطاني هذه المسألة بأنها «التناقض في مطاردة الممنوع بأدوات المانع نفسه»، مشيرًا إلى أن «المهتمين بمجال الغناء والموسيقا يواجهون تحريمًا محليًّا عبر مؤسسات وظيفتها الحد من هذا التوجه، وحصره في تصور سيئ سيؤثر في النشء في تربيتهم ونظرتهم للحياة، وهذا ما يجعلهم منعزلين عن مجتمعهم في الغرف المغلقة»، مضيفًا «وهذا يوجد حالة انفصام بين وضع نظاميّ يتيح الصلاحية لمنع وتحريم الغناء، وفي المقابل يجد المشاهد نفسه أمام واقع تزدهر فيه الأغاني السعودية وتنتشر الموسيقا بين أيدي الجمهور».
ويذكر القحطاني أن مشكلة المنع في السعودية «ستبقى عصية على الأذهان، فيما الأصل في مثل هذه الحالات أن يكون هناك فضاء مفتوح يعبر به الكل عما يؤمن به، وعلى المتلقي أن يحدد ما يريده ويجد نفسه فيه، بدلًا من الإجبار على تحويل الفنون السمعية إلى جريمة»، داعيًا في الوقت نفسه إلى «عدم إتاحة المجال أمام أي طرف كي يفرض وجهة نظره عبر تشريعات نظامية على شريحة واسعة أخرى». وذكر أن تداول الموسيقا يتم كما لو أنها «بضاعة ممنوعة تعادل في بعض الحالات المخدرات؛ وذلك في حالة التوعية منها ومن أخطارها عبر المنشورات والتسجيلات والخطب والمحاضرات. وهذا بُعد قاصر ومجافٍ للحقيقة؛ إذ كيف تكون الفنون السمعية بهذا السوء وهي تستخدم محليًّا في النشيد الوطني وفي الفعاليات والمناسبات الوطنية، وتقدم أمام كبار الشخصيات والمسؤولين».
موسيقيون يواجهون من القبو
لفروع جمعيات الثقافة والفنون المنتشرة على مستوى المملكة قصص وحكايات مع الموسيقا، ففي الوقت الذي يفترض بها أن تكون جهة رسمية مرخصة لممارسة هذا النشاط، عبر تقديم الحفلات والدورات، نجد أن دورها انحصر حتى اختفى من فروع ولم يعد له وجود، فيما لا تزال فروع أخرى صامدة رغم الرياح العاتية التي تواجهها.
في قاعة الملحن الراحل صالح الشهري في فرع الجمعية في مدينة الدمام، صادفت زيارتنا وجود مجموعة من الهواة المهتمين بالعزف على العود وهم يتلقون درسًا من أحد الأساتذة من أجل إتقان أحد المقامات. ووسط اندماج العازفين اصطحب مشرف لجنة الموسيقا سلمان جهام شابًّا للاستماع إلى صوته، وقدم له في نهاية تلك الجلسة نصائح وطلب منه الانضمام إلى الفرقة، تمهيدًا لتقديمه في حفل الموهوبين الذي تقيمه اللجنة كل سنة.
أوضح جهام في بداية حديثنا ضرورة التفريق بين الحركة الغنائية والحركة الموسيقية في المجتمع السعودي؛ إذ رفض أن تكون هناك حركة موسيقية «نظرًا لغياب المؤلفين في مجال الموسيقا وبشكل خاص في مجال غير مرتبط بالغناء، وعلى النقيض هناك حراك غنائي نظرًا للاهتمام المفرط بتلحين القصائد الشعرية وغنائها». وذكر جهام أن «فروع الجمعية مرت عليها حالات ركود تمهيدًا للموت، وكان ذلك بدءًا من عام 1988م، الذي شهد صدور قرار بإيقاف أقسام الموسيقا في فروع الجمعية، بينما كان الطموح يتجه في حينه إلى تشكيل فرقة موسيقية وإعلان طفرة بهذا المجال». ويشير إلى أن هذا القرار جعل تلك الأقسام تمارس الموسيقا من القبو، «وهذا الأمر جعل من النشاط الموسيقي بلا فائدة تذكر؛ إذ كانت كافة الأقسام في فروع الجمعية تقدم حفلات ومناسبات جماهيرية، فيما باتت بقايا قسم الموسيقا تقتات على هامش فعاليات اللجان الأخرى كرديف في تقديم وصلاتها».
وبحسب جهام ظل الوضع على ما هو عليه حتى عام 2010م «إذ تسنى لنا الخروج من القبو، أو المشاركة بجوار فعاليات اللجان الأخرى، إلى تقديم أنفسنا على مسرح الجمعية في أول أمسية تم تقديمها وكانت في الذكرى العاشرة لرحيل الفنان طلال مداح، وتم في حينها تقديم وصلات غنائية وتسجيلية للراحل، وسط حضور جماهيري غفير أذهل الجميع»، مضيفًا «ولن أنسى في تلك الأمسية حضور رجل كبير من مسافة بعيدة مشيًا على الأقدام، وكيف هطلت دموعه وهو يستمع لأغاني طلال القديمة، وقد كانت هذه الصورة هي الأبرز عن الحفل في صفحات الجرائد في حينها». ومنذ ذلك التاريخ ولجنة الموسيقا تقدم الدورات والأمسيات الغنائية، على الرغم من هجمات المحتسبين المتفرقة التي تسعى إلى إفساد بعض تلك الفعاليات، إلا أن مساعيهم تقابل بالهزيمة في غالب تلك الغزوات.