نظرة على السينما السعودية: ولادات ما قبل الولادة المفاجئة
لسنة واحدة خلت فقط، لم يكن هذا الأمر يبدو واضحًا، أو حتى ممكنًا. ففي دورة العام الفائت، 2017م من مهرجان كان السينمائي الدولي الذي يعدّ في الحسابات كافة، أضخم مهرجان من نوعه في العالم وبالتالي يعدّ المناسبة الأبرز لاستعراض المبدعين والشركات والأمم كل ما لديها من جديد في عالم الفن السابع. والذي نعني أنه لم يكن واضحًا ولم يكن يبدو ممكنًا إنما هو بروز السعودية في دورة هذا العام التي أقيمت أواسط شهر مايو من العام الحالي، بوصفها الحدث الأبرز والأجد في عالم هذا الفن. ففي وقت كان السينمائيون العرب وكثر من سينمائيي العالم ينعون بأسى مهرجان دبي السينمائي الذي ألغى دورته لهذا العام بشكل مفاجئ بعد حين من اختفاء مهرجان أبوظبي وتبخر المهرجانات القطرية في الهواء، وكانت تلك التظاهرات قد ساهمت في إحياء سينمات عربية خلال السنوات الماضية، أتت المفاجأة الطيبة، إذًا، من حيث لم يكن أحد يتوقع: من السعودية على شكل مشاريع واتفاقات ومجلس وطني ووعود بإعفاءات ضريبية.
ولكن أكثر من هذا وذاك: من طريق سينمائيين شبان سعوديين انتشروا بين اللقاءات والأجنحة وصالات العروض، وراحت صحافة المهرجان تنشر أخبارهم، ولقاءات معهم وبخاصة منهم هيفاء المنصور التي في غمرة انهماك الجميع بالحديث عن تلك المفاجآت السعودية غير المتوقعة، تذكروا أنها قد شغلت أهل السينما قبل سنوات بتقديمها في البندقية وتورنتو أول فلم روائي سعودي طويل من إخراج امرأة وهو «وجدة»، لكنهم تذكروا أكثر من هذا كيف أن دورة مهرجان كان نفسه لعام 2006م شهدت حضور أول فلم روائي سعودي طويل على الإطلاق وهو «ظلال الصمت» الذي عرضه مخرجه ومنتجه عبدالله المحيسن على هامش المهرجان ليلفت النظر حقًّا يومها ويسجّل وعدًا بظهور سينما سعودية كبيرة وناضجة في سنوات لاحقة. وهو ما تأخر حتى الآن. ولكن ألا يقول المثل أن تأتي الأمور متأخرة خير من ألا تأتي أبدًا؟
والحال أنه من البديهي أن أي حديث عن عبدالله المحيسن وهيفاء المنصور، في تاريخهما السينمائي على الأقل، لا يمكنه أن ينطلق إلا من تحديد مكانتهما في التاريخ «الغريب» للسينما في بلدهما، ونقول: إنه «غريب» لسبب واضح، هو أن هذا التاريخ يبدو لنا متعرجًا، وغير مؤكد أكثر من أي تاريخ آخر لأي فن آخر في أي بلد عربي، وإن كان في إمكاننا، من ناحية منطقية بحتة، أن نصل إلى تحديد بداية ما لهذا التاريخ، ترتبط باسم عبدالله المحيسن نفسه، جاعلة منه دون منافس، الرائد المؤسس لما يمكننا تسميته «السينما السعودية»، وإن كان في وسعنا أيضًا أن نعود سنوات إلى وراء بدايات المحيسن كي نجد حضورًا ما لسينما في السعودية، عروضًا بل حتى إنتاجًا كما سوف نرى بعد قليل. لكننا قبل هذا نجدنا قادرين على سلوك موضوعنا بشكل فيه بعض المواربة، بل حتى بعض المشاكسة على واحد من أكبر مؤرخي السينما الفرنسيين، الناقد جورج سادول، الذي رأى أواسط سنوات الستينيات أن من الممكن له أن يتحدث «بشكل قاطع» في أقل من صفحة من كتاب له كُلّف يومها بوصفه بتوصية وتمويل من منظمة اليونسكو، عن نظرة إلى ما أسماه السينما في السعودية.
كان عنوان الكتاب، كما نعرف «السينما في البلدان العربية» (صدرت ترجمته العربية عام 1966م، عما كان يسمى في ذلك الحين «مركز التنسيق العربي للسينما والتلفزيون»، بعد أن صدر أولًا بالفرنسية). المهم اكتفى سادول يومها من حديثه عن السينما في السعودية بقوله: «يمنع قانون البلاد عرض الأفلام أمام الجمهور؛ لأن ذلك يتعارض مع التعاليم الإسلامية، وهكذا لا يوجد في هذه البلاد صالة عامة، إنما توجد في هذا البلد الذي يبلغ عدد سكانه سبعة ملايين نسمة، صالات خاصة بالعمال العرب في المؤسسات، وفي مقدمتها شركات البترول. إضافة إلى ذلك يملك الأغنياء صالات عرض في قصورهم. وتعد السعودية سوقًا مهمة لإنتاج الجمهورية العربية المتحدة (وكان ذلك هو الاسم الذي تحمله مصر في ذلك الحين)، فقد اشترت منها عام 1959م، 23 نسخة من أفلام قياس 35 ملم، و155 نسخة من أفلام قياس 16 ملم، أي أكثر من نصف الكمية التي باعتها الجمهورية العربية المتحدة هذه السنة من الأفلام ذات الحجم الصغير (342 منها 333 للبلاد العربية). ويلاحظ أن شراء الأفلام العربية في السعودية لم يكن منظمًا في المدة (1959- 1963م)؛ إذ كانوا يعتمدون على نسخ من الحجم الصغير (132 في عام 1963م، مقابل لا شيء من قياس 35 ملم). وهذا يدل على أن هذه البرامج قد أعدت للعرض في صالات خصوصية يملكها العرب؛ لأنه من النادر جدًّا أن يطلب الأوربيون والأميركيون المقيمون في هذا البلد أفلامًا من هذا النوع».
من الواضح أن هذا الكلام سوف يبدو شديد الاختزال إن نحن أوردنا ملاحظتين قد يكون من شأن أي منهما أن تنسفه: فمن ناحية أولى نعرف أن كثرًا من السعوديين، ومن مختلف الأوساط الاجتماعية كما من مختلف مناطق البلاد، ولا سيما في مدن السواحل الشرقية كما في مدن السواحل الغربية، يتحدثون عن مشاهدتهم وهم صغار، وبالتالي في سنوات الخمسينيات والستينيات قبل انتشار الفيديو ثم التلفزيون العارض أفلامًا سينمائية، لأعداد كبيرة من الأفلام المصرية، ومن أمهات الإنتاجات حافظين مشاهد وشخصيات منها عن ظهر قلب؛ ومن ناحية ثانية لا يتعين أن يقتصر الحديث هنا على الأفلام المصرية أو حتى العربية، بالنظر إلى أننا نعرف أن عروضًا كبيرة العدد وواسعة الانتشار طاولت أفلامًا غربية وهندية وما إلى ذلك، وهو ما يعني أن انتشار السينما في السعودية في ذلك الحين، كان أوسع كثيرًا مما يوحي به كلام سادول.
وإلى هذا، وأيضًا فيما يتعلق بالحديث عن «تاريخ السينما في هذا البلد»، يجب ألا نتجاهل واقعًا؛ أن ثمة، دون أدنى ريب، أعدادًا كبيرة من الشرائط التي يمكن أن يكون قد صوّرها أجانب، وحتى سعوديون، قبل ذلك بكاميرات وأدوات توليف صغيرة لمشاهد عائلية أو تجوالات في المناطق المختلفة. وذلك انطلاقًا من فكرة لا بد دائمًا من أخذها في الحسبان، وهي أن ما من بلد في العالم – ولم يمكن للسعودية أن تكون قد أفلتت من هذا؟! – لم يعرف ذلك النوع من إنتاج الهواة، الذي خلّف في مناطق عديدة أشرطة باتت اليوم بالغة الأهمية في تاريخ العروض السينمائية، وربما كذلك في بحوث سوسيولوجية السينما.
ترى أفلا يخطر في بالنا أن نتساءل دائمًا حين نشاهد – غالبًا على شاشات التلفزة – مشاهد مصورة لمناطق سعودية مختلفة، ومنها مثلًا مشاهد للحج الشريف وطقوسه في مكة المكرمة، بل حتى مشاهد رأيناها مرات عديدة، للقاء الشهير بين المغفور له مؤسس المملكة، والرئيس الأميركي ترومان (وربما هو روزفلت) على ظهر الباخرة الأميركية، أفلا يخطر في بالنا أن نتساءل: من أين جاءت هذه المشاهد؟ ولئن كانت السلطات قد سمحت لأجانب بالتقاطها، ألا يمكن أن يكون السماح قد شمل مواطنين سعوديين أيضًا، أو أجانب مقيمين هنا، وهو ما يجعل تلك المشاهد، بشكل أو بآخر، جزءًا من تاريخ السينما في المملكة؟ لا شك أن هذا موضوع ينبغي دائمًا العودة إليه، بل حتى حثّ باحثين ودارسين على الاشتغال عليه. لو فعلوا سوف تكون ثمة إعادة نظر حقيقية في هذا التاريخ. كما حدث في العديد من البلدان، حيث إنه تحت وقع بحوث ودراسات من هذا النوع، حدث كثيرًا أن دُفع تاريخ الأفلام الأولى إلى الوراء!
قرار ثوري
وهنا نكتفي من هذا الموضوع بهذه الإشارات لنقفز في الزمن قفزة توصلنا إلى بدايات الألفية الجديدة، أي إلى نحو عقدين من القرار الثوري/ السينمائي، الذي ها هو عند كتابة هذه السطور، يعيد السينما من موقع قوة، ورعاية رسمية، إلى الحياة الاجتماعية في السعودية. ففي واحدة من أوائل سنوات القرن الجديد، أتيح لكاتب هذه السطور، في أثناء جولة صحافية في الرياض وما جاورها، أتيح له أن يرصد ظاهرة لم يكن يتوقعها: في العديد من مقاهٍ منتشرة على مبعدة من العاصمة، وتبدو مترابطة بعضها ببعض، كانت ثمة شاشات تلفزيونية عملاقة معلقة في صالات المقاهي، وتبث جميعها في وقت واحد، نفس الأفلام أمام مئات من الرواد والمتفرجين. يومها نشرت تحقيقًا في مجلة «الوسط» الأسبوعية التي كانت تصدر عن «دار الحياة»، أتساءل فيه بشكل واضح عما اذا لم يكن ما شاهدته بأم عيني، يشكل عروضًا سينمائية حقيقية تضاهي تلك التي تقدم، عادة، في الصالات؟
مرة أخرى أكتفي هنا بهذا، لأعود إلى سياق موضوعي الرئيسي: تاريخ السينما السعودية نفسه، ولا أتحدث هنا عن العروض السينمائية في السعودية، ولا طبعًا عن شرائط الهواة، أو المشاهد العائلية، أو الأفلام الإخبارية التسجيلية، بل أتحدث، طبعًا، عن العمل السينمائي بالمعنى الاحترافي للكلمة، حتى إن كان في مقدور المتابعين، أن يتحدثوا عن أفلام سينمائية حُققت في المملكة، تسجيلية قبل «اغتيال مدينة» (1976-1977م) وروائية قبل «ظلال الصمت» (2006م) والاثنان لعبدالله المحيسن طبعًا، ولنذكر مرة أخرى هنا أن الفلمين لم يصورا في السعودية، إنما هما من تحقيق مخرج سعودي لا يمكن إلا عدّه رائدًا لكونه أول سينمائي سعودي بالمعنى الاحترافي للكلمة. وهنا لإعادة الحق إلى أصحابه، سيكون من الإنصاف أن نذكر، نقلًا عن العديد من المصادر أن أول إنتاج سعودي، بالمعنى التاريخي للكلمة تمثل عام 1950م في فلم «الذباب»، ثم كان على هذا البلد أن ينتظر ستة عشر عامًا قبل أن يعرف إنتاجًا سينمائيًّا روائيًّا ثانيًا هو فلم «تأنيب ضمير» للمخرج سعد الفريح من بطولة حسن دردير، أما الفلم الروائي الطويل الثالث فقد حقق في عام 1980م، بعنوان «موعد مع المجهول» وكان فلمًا بالغ الطول (أكثر من ساعتين ونصف) من بطولة الفنان سعد خضر، الذي يمكن عدّه «أول ممثل سينمائي سعودي» بالمعنى الاحترافي للكلمة حيث ظهر في عدد من الأفلام المصرية واللبنانية في سنوات الثمانينيات والتسعينيات. إذا يمكن الحديث عما لا يقل عن ثلاثة أفلام روائية حققت في السعودية قبل أن يحقق عبدالله المحيسن روائيّه الطويل الأول… خارجها.
حسنًا قد يقول لنا الواقع: إن من حق القارئ أن يتساءل: أين هي الريادة إذًا؟
الجواب بسيط: الريادة ترتبط هنا بالنوعية، وبمكانة الفلم نفسه في التاريخ السينمائي للبلد. فكما أشرنا سابقًا، في تاريخ فن كالفن السينمائي، لا يمكن أن يكون هناك بداية حقيقية، بالمعنى التقني للكلمة. ومن هنا يتعين على الذين يريدون خوض تاريخ فن ما – السينما هنا – أن يتوقفوا عند عدة أبعاد هي، وليس الأقدمية التاريخية وحدها، وهو ما يجعل عملًا معينًا، رائدًا في مجاله: المكانة التاريخية – نوعية العمل وموضوعه – قدرته على أن يعيش تاريخه في استقلال عن الظروف التي وُجد فيها، تقبل المتلقين له، ثم قدرته على أن يكون له، تاريخ متواصل تفاعل معه. وهنا، مع احترامنا الكلي للتجارب التي سبقت «اغتيال مدينة» ثم «ظلال الصمت»، لعبدالله المحيسن، لا بد من التأكيد على أن مفهوم الريادة ينطبق على هذين الفلمين. لكنه ينطبق أيضًا على مجال ثالث ألمحنا إليه قبل قليل ولا بد أن نذكر به دائمًا: في «اغتيال مدينة» كما في «ظلال الصمت»، لم يكتفِ عبدالله المحيسن بأن يكون مخرجًا سعوديًّا، يقدم موضوعات سعودية مستقاة من الحياة المحلية، أو من الأدب السعودي الروائي والقصصي المزدهر – وفي زاوية ما من تفكيرنا ربما نقول ليته فعل، أو حتى ليته يفعل الآن! بل انطلق من نظرته السعودية/ العربية/ الإسلامية، لكي يلقي نظرة عميقة، على معضلات عربية/ إسلامية تشكل بعض همومه وهموم بلده: ومن هنا نجده، كذلك، رائدًا، في إظهار نظرة شاملة تنطلق من بلد يحسّ هو الآخر بمسؤولياته تجاه ما يحدث من حوله. وفي هذا، بدا عبدالله المحيسن شبيهًا، إلى حد ما، بأولئك السينمائيين اللبنانيين الذين ما إن امتلكوا ناحية قدرتهم المهنية – خلال سبعينيات القرن العشرين، مثلًا – حتى راحوا يحققون أفلامًا عن فلسطين (برهان علوية وجان شمعون) أو مصر (برهان علوية وجوسلين صعب) إنه الهم العربي العام وقد راحت السينما تغوص فيه.
من هنا يسجل لعبدالله المحيسن هذه الالتفاتة إلى خارج حدود بلاده، وليس فقط في فلميه الأولين، بل في معظم ما حققه حتى الآن، هو الذي لن ننسى أن أول شريط حققه كان تسجيليًّا عن تطوير مدينة الرياض (1975م). منذ تلك البدايات إذًا، حتى اليوم، تبدلت الأمور كثيرًا. وربما يمكن القول: إن خطوات عبدالله المحيسن، وسابقيه ومتابعيه الأولى، قد أثمرت أخيرًا حيث إن نصف القرن ونيّفًا الذي صاره العمر الحقيقي للسينما السعودية، يبدو اليوم غنيًّا نسبيًّا، ويختلف في الأحوال كافة، عما كان كتبه جورج سادول في نصّه المشار إليه أول هذا الكلام. صحيح أن عدد الأفلام الطويلة التي أنتجت حتى الآن، بالمعنى الاحترافي للكلمة منذ «ظلال الصمت»، ليس كبيرًا مقارنة بما ينتج في بلدان عربية أخرى، مثل مصر والمغرب ولبنان وفلسطين وغيرها، لكننا نجد أنفسنا إنْ نحن دققنا في الأمر، أمام أعمال لافتة دائمًا يشكل كل منها مغامرة فنية حقيقية، بل أحيانًا مغامرة إنسانية. زد على ذلك أن بعض هذه الأفلام شكل ظواهر حقيقية لفتت نظر العديد من المهرجانات في أنحاء متفرقة من العالم. وذلك بالتحديد بدءًا من «ظلال الصمت» إذا ما آثرنا هنا الاكتفاء بالحديث عن الأفلام الروائية الطويلة، وبدءًا بالتحديد أيضًا من «اغتيال مدينة» إذا ما ارتأينا توسيع دائرة حديثنا ليشمل كل الأنواع السينمائية.
فبدءًا من عام 2006م، الذي ظهر فيه «ظلال الصمت»، ظهر أيضًا فلم عدّ نفسه سعوديًّا بدوره، مع أنه من إخراج سينمائي فلسطيني آتٍ من كندا، ومن إنتاج تلفزيوني، هو «كيف حالك». ولقد شهد العام نفسه تحقيق ما لا يقل عن خمسة أفلام قصيرة، وهو العدد نفسه الذي أنتج في العام التالي 2007م، الذي شهد بدايات واحد من المخرجين والمنشطين الأكثر حضورًا، بفلمين قصيرين من إخراجه، وهو ممدوح سالم. ولسوف يعود سالم إلى نشاطه الإخراجي خلال الأعوام التالية، لكنه سوف ينشط كذلك في مجال تنشيط المهرجانات وحَفْز المخرجين الشبان على تحقيق أعمال أولى. ولئن غاب الفلم الروائي السعودي الطويل عن إنتاجات عام 2007م، فإنه لن يلبث أن يعود في عام 2008م بفلمين طويلين هما: «صباح الليل» و«مهمة وسط المدينة»، إلى جانب سبعة أفلام قصيرة. وفي عام 2009م، أُنتِج في المملكة فلمان طويلان هما: «مناحي» و«الشر الخفي» مقابل عشرة أفلام قصيرة شهدت ظهور أسماء جديدة، وبروز شرائط متطورة اللغة السينمائية إلى حد مثير للإعجاب، وهو ما يمكن أن يقال نفسه عن إنتاج عام 2010م الذي لم يشهد مرة أخرى ظهور أفلام طويلة لكنه سجّل إضافة أحد عشر فلمًا قصيرًا إلى سجل السينما السعودية القصيرة وهو الأمر الذي تكرر في العام التالي 2011م، ثم في عام 2012م، الذي سجل ظهور فلم روائي سعودي هو الأول لمخرجه امرأة: «وجدة» لهيفاء المنصور، الذي أتى بعد خمس سنوات من ظاهرة «ظلال الصمت» لعبدالله المحيسن، ليتحول على الصعيد العالمي، ولا سيما في أبرز المهرجانات العالمية إلى ظاهرة بدوره.
سينما ناضجة
والحال أن السينما السعودية، باتت تبدو في ذلك العام بالتحديد، وفي الأعوام التالية له، سينما ناضجة تكاد تتسم بمسوح الاحتراف، إن لم يكن كليًّا بالنسبة إلى إنتاجاتها، التي ستبقى قليلة العدد، في مجال السينما الروائية الطويلة، فعلى الأقل في مجال كثافة وتنوع إنتاجها من الأفلام القصيرة، التي بات يبدو واضحًا أنها تشكل مدخلًا أساسيًّا لنهضة مقبلة في مجال الفلم الطويل. ومن هنا كان وسع كاتب هذه السطور أن يرسم جردة للتطور الجديد والتراكمي الحاصل في السينما السعودية في تلك السنوات المفصلية التي تواكبت مع ما سمي «الربيع العربي».
وتقول تلك الجردة: إن السعودية التي تبدو، نظريًّا على الأقل، من أقل البلدان الخليجية سينمائيًّا، من ناحية، لكونها خالية من الصالات السينمائية، ومن ناحية أخرى، بسبب خلوّها من أية بنى إنتاجية، مع أن ثمة تواريخ تفيد بأن مدنًا مثل جدة ومناطق شرقية أو غربية فيها، قد عرفت شيئًا من النشاط في هذا المجال، بين الحين والآخر، فإن ما يمكن ملاحظته فيها، هو أن ثمة من القوى البشرية والطاقات الإبداعية ما لا يتناسب وما يُحكى عن غياب السينما عنها. فالحال أن ثمة، منذ سنوات عديدة، حراك هواة – يتحولون أحيانًا إلى ما يشبه الاحتراف – يعكس اهتمامًا شبابيًّا بيّنًا بالفن السابع؛ كما يعكس واقع أن البيوت السعودية تكاد تكون أكثر البيوت العربية احتواء على مكتبات سينمائية. ناهيك عن معارض الكتب، التي لا تفتأ تسجل ارتفاعًا ملحوظًا في عدد النسخ المَبِيعة من أي كتاب سينمائي يصدر في العربية.
ولئن خلت السعودية من مهرجانات سينمائية ضخمة أو احتفالات بالنجوم، فإن المحطات التلفزيونية المحسوبة على السعودية أو الممولة برأس مال له علاقة بها، لا تتوقف عن دعم سينمات عربية هنا وهناك. أما الجديد في هذا السياق، فهو ما يتوقّع منذ الآن لمشروع رؤية 2030 الاقتصادي، الذي أطلقه ولي العهد السعودي، بالجانب المعلن فيه، والمتعلق بالاهتمام بالتوظيف في مجال الثقافة والترفيه، أن يؤدي إلى توليد أنماط من عروض سينمائية، سيكون من شأنها بالتأكيد أن تؤدي إلى نتاجات متلاحقة في هذا المجال. ويزيد من إمكان هذا، أن ثمة الآن، بفضل الشاشات التلفزيونية والمسلسلات والبرامج المتنوعة ودخول فكرة الفن السعودي وغير السعودي إلى كل بيت وعائلة، طاقات فنية سعودية بارزة، لا شك أن يومًا ما سيأتي، ستُوسّع اهتماماتها لتشمل السينما، ولو في مجال التلاحم المتزايد بين فن الشاشة الكبيرة وفن شقيقتها الصغيرة.
غير أن بعض المبدعين السعوديين لم ينتظروا هذا الواقع الجديد، أو المتجدد، كي يتحركوا مبدعين أعدادًا لا بأس بها من شرائط صغيرة، لكن كذلك أعدادًا، ولو محدودة، من أفلام طويلة. فالسينمائي عبدالله المحيسن، الذي يبقى الرائد الحقيقي للصناعة السينمائية السعودية كان، منذ سنوات الثمانينيات، بل قبلها قليلًا، قد انطلق محققًا العديد من الأفلام التسجيلية الطويلة والمتوسطة عن شؤون راهنة (مثلًا عن حرب لبنان في «اغتيال مدينة» وعن حرب الخليج في «الصدمة»…)، لكنه ما لبث أن خاض مغامرته الكبرى مع انطلاقة القرن الجديد كما أشرنا، محققًا أول فلم روائي سعودي طويل، «ظلال الصمت» الذي دنا به بتأمل فني معتبر وغاضب، من الواقع العربي. صحيح أن ذلك الفلم الطموح لم يبدُ سعوديًّا إلا بمخرجه وتمويله وبعض المشاركين فيه، لكنه كان الخطوة التي لم يكن منها بدّ للقول: إن ثمة سينما سعودية، ولو مواربة، ماثلة هنا وبدأت انطلاقاتها. لقد فتح المحيسن الطريق بقوة واقتدار، لكن بشيء من الحذر أيضًا.
أما هيفاء المنصور، فكانت أقل «حذرًا»؛ إذ هي دنت مباشرة في فلمها الروائي الطويل الأول «وجدة» الذي حققته بعد سلسلة مميزة من أفلام قصيرة ومتوسطة، عالجت فيها قضايا اجتماعية سعودية قد تبدو شائكة، دنت من المجتمع السعودي في عمل شق طريقه، ليس إلى العالمية المهرجانية والجوائز فقط، بل كذلك إلى دور العرض التجارية في العديد من العواصم الغربية، محققًا نجاحًا مدويًا، تمثل بخاصة في أن عالم السينما، لم يتعامل مع «وجدة» بتعاطف نسوي أو بغرائبية استشراقية من النوع المعهود، بل تعامل معه كعمل سينمائي متكامل وطموح، يفتح الباب، هذه المرة، أمام انبثاق سينما اجتماعية سعودية، تكاد تُسمي الأشياء بأسمائها، من دون أن يجابه الفلم بمناوأة كان كُثُر يتوقعونها. والحقيقة أنه إذا كانت أفلام عبدالله المحيسن قد أشارت إلى الطريق، فإن فلم هيفاء المنصور سلكها بالفعل، مطلقًا دعوة للآخرين، مبرهنًا في طريقه أن السلطات الرسمية ليست العقبة في وجه قيام سينما سعودية حقيقية.
وهذه الطريق التي نتحدث عنها، سلكها بعد سنوات قليلة فلم سعودي جديد، أثبت بدوره حضورًا عالميًّا، إلى درجة سمحت لأصحابه بأن يعدوا أنفسهم بجائزة عالمية وأكثر، بل توجهوا بأنظارهم لوقت ناحية «أوسكار أفضل فلم أجنبي». لكن المهم ليس هنا، المهم أن الفلم، وهو «بركة يقابل بركة»، من إخراج محمود الصبّاغ، وجد ليؤشر بدور فعلي أن ثمة سينما سعودية ماثلة تشق طريقها، ولسوف تفعل أكثر وأكثر. ولئن كان أول الأفلام، وهو «ظل الصمت» قد ذهب إلى خارج السعودية ليستلهم موضوعه، وفلم «وجدة»، قد جعل البطولة لطفلة، وهو ما سهل عليه الأمور، فإن ما يلفت في «بركة يقابل بركة»، أنه قدم دراما اجتماعية، من خلال قصة حب تدور تحديدًا في مدينة جدة، حيث صُوِّر الفلم بممثلين سعوديين وأموال سعودية.
صحيح أننا توقفنا هنا عند هذه الأفلام القليلة التي برزت على الصعيد المحلي والعالمي، غير أن الحديث عنها لا ينبغي أن ينسينا أعدادًا لا بأس بها من شرائط سعودية أخرى، كانت أقل حظًّا، حُقِّقت خلال العقود الأخيرة، من دون أن تتمكن من أن تكوّن ما يمكن وصفه بالتراث السينمائي الحقيقي في هذا البلد؛ إذ تفيدنا إحصائيات تقريبية أن السعودية أنتجت منذ عام 1975م حتى الآونة الأخيرة، قرابة ثلاث مئة فلم قصير وطويل. وأن نحو دزينة، من بينها، هي أفلام طويلة بشكل أو بآخر، لكن معظمها لا يعدو، في الحقيقة، كونه محاولات هواة.
إنجازات نوعية
أما الإنجازات الكمية (والنوعية إلى حد ما) الحقيقية، فتتمثل في الأفلام القصيرة، روائية كانت أم تسجيلية، التي يمكن القول: إن من بين أيادي مبدعيها، ستنطلق السينما السعودية الحقيقية، بالمعنى التراكمي للكلمة. فبتوقيع ممدوح سالم، أو بدر الحمود أو نواف المهنّا أو عبدالله آل عياف أو عبدالمحسن المطيري أو فيصل العتيبي، وعدد من رفاقهم، بات الفن السينمائي السعودي يمتلك ما يشبه التراكم، الذي يعرض في مناسبات جامعية أو ندوات ظرفية، من الممكن القول: إنها تهيئ كلها المناخ لنهضة سينمائية مقبلة.
ولئن كانت تلك الجردة قد تناولت السينما السعودية فإنها تواصلت لتشمل السينما الخليجية قائلة: لكن هذه النهضة، وقد آن الأوان لقول هذا أخيرًا، لن تكون ممكنة، من دون أن يكون للتلفزة الدور الحيوي فيها. وإذ نقول هذا فيما يتعلق هنا بالسعودية، حيث على عكس السينما، يبدو التلفزيون والعمل فيه مقبولًا ومثمرًا، بل بات كذلك مرغوبًا، حتى من فتيات الأُسر الأكثر انفتاحًا على الزمن الحديث، يمكن أن نقوله فيما يتعلق بباقي البلدان الخليجية. والدرس في هذا المجال عالميّ، وليس خليجيًّا فقط. فاليوم في العالم كله، لم يعد ذلك التناحر القديم قائمًا بين الشاشتين الكبيرة والصغيرة، بل في مناطق كثيرة وعريقة سينمائيًّا في العالم كله (فرنسا، وبريطانيا، وألمانيا، وإلى حد ما، حتى فيما يتعلق بالسينما المستقلة في الولايات المتحدة)، بات التلفزيون يلعب دورًا كبيرًا، ليس في عرض النتاجات السينمائية فقط، بل في تمويلها كذلك. ومن الناحية السوسيولوجية، تفيد الدراسات أن المسلسلات والدراما التلفزيونية حلّت في حياة الطبقات الوسطى في المجتمعات محل ما كانت عليه السينما وصالاتها في القرن العشرين.
من الناحية التقنية، لم تعد التلفزة تُعدّ فنًّا منافسًا للفن السينمائي، بل هي وسيلة إيصال لشتى الفنون والمعارف والمعلومات، بما فيها السينما. قد يصح القول: إن التلفزة تنافس الصالات، وليس السينما نفسها كفن إبداعي؛ بل إن التلفزة نفسها تبدو، وستبدو دائمًا، في حاجة إلى الأفلام السينمائية لتعرضها وتجتذب جماهير عريضة إلى ساعات عرضها، كما ستكون دائمًا في حاجة إلى المبدعين السينمائيين لإنتاج أعمال لها. المشكلة تكمن الآن: بشروط مَن سيتم هذا التعاون؟
في انتظار العثور على إجابات مرضية، يبقى أن الخليج بدأ منذ سنوات، وأحيانًا منذ عقود، خطواته السينمائية الأولى، وليس ثمة ما يشير إلى أن المسار سيتوقف، ولا سيما اليوم إذ نشهد هذه الانطلاقة السعودية التي سيقال دائمًا وعلى الرغم من كل ما استعرضناه أعلاه: إنها «لم تكن في الحسبان».