في مواجهة التضليل الإعلامي
لعل كثيرًا منا سمع هذا النوع من العبارات في الماضي القريب: نحن في زمن الانكشاف المعلوماتي، لا شيء يمكن إخفاؤه في عصر الصورة، تمرير الكذب بات صعبًا مع ثورة الاتصالات وتكاثر وسائل الإعلام، لا يمكن حجب المعلومة في عصرنا. راجت هذه العبارات وغيرها، مع الدهشة التي رافقت التقدم التقني، وزيادة عدد الفضائيات، وتوسع شبكة الإنترنت، وسهولة الاتصال بالعالم، ومنطلق هذه العبارات كلها، يتلخص في إيمان من يرددها بنهاية عصر الأكاذيب والضحك على الذقون، وتقليدية الإعلام الرسمي، بفعل الاتصالات المتطورة، وعدسات الكاميرات المصوبة للمشهد، من الفضائيات والمواطنين على السواء، حيث يصعب خداع الناس برواية إعلامية في هذه الحالة.
من يتابع الإعلام في السنوات الأخيرة، بشقيه التقليدي والجديد «شبكات التواصل الاجتماعي»، يجد أن العبارات المذكورة كانت حالمة، وبعيدة تمامًا عن الواقع؛ فالتطور التقني زاد من إمكانية التضليل والخداع، ولم يقلصها، ولم تعد الشكوى في الأغلب من حجب المعلومات أو إخفائها، بل من سيلها العارم وتضاربها؛ إذ يعاني المتلقي التدفق الكثيف والمتواصل للمعلومات، ويصبح ضروريًّا أن يقوم بفرزها، إذا كان يريد بالفعل الوصول إلى الحقائق، وهو ما يستدعي بذل مجهود كبير في التحقق والتدقيق، وتقديم الشك والتساؤل حول كل معلومة.
لم يكن تطور أدوات الاتصال والتوثيق سوى فرصة للتلاعب، فكاميرات الفيديو التي أصبحت في كل الهواتف النقالة، والصورة الناتجة عنها، التي بشَّرت بما سُمِّيَ «صحافة المواطن»، حيث الإنسان العادي يمكنه أن يصنع الخبر ويحرك الرأي العام بمقطعٍ مصور، تبين أنها تساعد في التضليل، عبر الاقتطاع وعدم نقل المشهد كاملًا أحيانًا، أو عبر المونتاج الذي يوجه مقطع الفيديو نحو إدانة هذا أو تبرئة ذاك بالفبركة واصطناع أمرٍ غير موجود على أرض الواقع. عززت أدوات الاتصال المتطورة في العموم فرص التضليل أيضًا، فشبكات التواصل الاجتماعي مثلًا هي وسطٌ ينضح بأنواع الإشاعات والأكاذيب سريعة الانتشار، وهي إشاعات تشمل مجالاتٍ مختلفة، لكنها تؤكد ذات الفكرة، من أن ثورة الاتصالات يمكن أن تُوَظَّف في التضليل والخداع.
الإعلام المنحاز
ليس هناك وسيلة إعلام محايدة؛ إذ إن لكل وسيلة إعلام توجهًا ورأيًا، ينبثق من توجه مالكيها ومن يديرونها، وهذا يشمل الإعلام العربي والغربي على السواء. ربما بسبب سوء الإعلام العربي، بالذات في أزمنة ماضية، وغياب المصداقية فيما يبثه، تنتشر أسطورة على نطاق واسع، مضمونها أن الإعلام الغربي متفوق على صعيد المصداقية والموضوعية، أو أنه مستقل تمامًا، لكن أبسط فحص لهذه الأسطورة، يخلص إلى عدم دقتها؛ إذ إن الإعلام الغربي في أغلبه، يتحرك في إطار مصالح المتنفذين من أصحاب رؤوس الأموال، الذين يملكون توجهًا ونفوذًا سياسيين، أو يرتبطون بصناع السياسات، وهذا الإعلام لا ينفصل عن المؤسسة الحاكمة في البلدان الغربية بخطوطه العامة؛ إذ يعبر هذا الإعلام عن قيم المؤسسة الحاكمة ورؤيتها العامة، وإن كان أكثر حرية في نقدها، كما أن الصحفيين الغربيين، مثل غيرهم، عرضة للتأثيرات المالية والسياسية، التي تجعلهم يكتبون مقالات، أو يصيغون تقارير مع هذا أو ضد ذاك، ويقومون بحملاتٍ إعلامية ضخمة تخدم أجنداتٍ محددة.
لا يوجد إعلام محايد، والانحياز مفهوم، لكن الموضوعية مطلوبة، ونعني هنا محاولة مقاربة الحقائق بغض النظر عن الانحيازات. الموضوعية الكاملة لا يمكن تحقيقها، لكن السعي لأعلى درجة من الموضوعية ركيزة مهمة لأي وسيلة إعلام، غير أن الإعلام العربي، خلال السنوات الأخيرة، ودّع الحد الأدنى من الموضوعية. ومع اشتعال الأزمات في المنطقة العربية، صارت أغلبية وسائل الإعلام أدوات للتعبئة والتحشيد، لصالح خيارات سياسية محددة، ولم تعد تهتم بنقل الخبر بشكل اعتيادي؛ بل بالتعليق على الخبر في أثناء تقديمه، والتلاعب بالخبر نفسه، لخدمة التوجه الذي تتبناه.
انتقلنا من تراجع الموضوعية إلى انعدامها تقريبًا، في وسائل الإعلام التقليدية، وسطوة الدعائية على نقل الخبر، أما الإعلام الجديد، الذي رُوِّجَ له بوصفه الحالة المتجاوزة لحسابات ومصالح الإعلام التقليدي، فقد أصبح مكانًا ملائمًا لنشر الشائعات وفبركة الأخبار والصور، وصار خزانًا إستراتيجيًّا لوسائل الإعلام التقليدية، على مستوى الأخبار والمقاطع المصورة المفبركة، وهو بالطبع لا ينفصل عن التأثيرات المالية والإعلامية خارجه، وقد وضعت وسائل الإعلام التقليدية أقدامها فيه؛ لتبث أخبارها لرواده، ونجومها يتصدرون قائمة الأكثر متابعة في شبكات الإعلام الجديد المختلفة.
الانحياز وسط الأزمات الكبرى يدفع إلى استخدام الكذب والتضليل، والاستعانة بالخطاب الشعبوي، واستنفار عواطف الناس؛ لجذبهم نحو الخيار السياسي الذي تتبناه الوسيلة الإعلامية.
أساليب التضليل
دغدغة العواطف الإنسانية أمر أساسيّ لخدمة توجه وسائل الإعلام، ويمكن ملاحظة صياغة الأخبار في إطار هذه الدغدغة، مع رفدها بصور أو مقاطع، معدلة أو مفبركة، ليكتمل استنفار المشاعر. لم يعد الانحياز يعبر عن نفسه بتغيير ترتيب الأخبار، ولفت الجمهور لخبر بعينه وإهمال آخر، وتاليًا صياغة أولويات الناس واهتماماتهم بناءً على الخبر المتصدر؛ بل أصبح التعبير عن الانحياز متمثلًا بالذهاب بعيدًا في التلاعب بالخبر.
في هذا الإطار، تُصنَع خدعة أساسية، تتمثل في وجود «مطبخ» لصناعة الأخبار، يصنع فيه الخبر ليتواءم مضمونًا وصياغةً مع أجندة محددة، ويخرج الخبر ليتوزع على مجموعة من وسائل الإعلام المختلفة، من صحف وقنوات فضائية ومواقع إلكترونية، وتقوم بترويجه أيضًا مجموعات من الموظفين في هذه القنوات والصحف، في مواقع التواصل الاجتماعي، فينتشر بسرعة فائقة، ويصبح المتلقي أمام تدفق هائل للخبر نفسه، من مجموعة كبيرة من وسائل الإعلام، من دون أن ينتبه لأن كل وسائل الإعلام هذه تستقي الخبر من جهة واحدة طبخت الخبر وأعدَّته، أي أنها ليست مصادر متعددة للخبر، بل مصدر واحد بقنوات متعددة، تسهم كلها في إغراق الناس بالأخبار والمعلومات، التي تخدم توجهًا محددًا لهذه الجهة.
الضخ المتواصل والإغراق بالأخبار، حول مسألة معينة، يضمن تكرار الدعاية على الجمهور، وتحشيده وتعبئته، بالضغط على أعصابه وعواطفه بشكل متتابع ومستمر، وحتى لو شكك المتلقي في خبرٍ أو اثنين، فإنه لن يتمكن من مقاومة السيل الجارف من الأخبار والمعلومات كل يوم. أكثر من ذلك، لا يدقق المتلقي في مصدر الخبر نفسه، والمقصود هنا المصدر الأولي للخبر، وليس ناقل الخبر من القنوات والمواقع؛ إذ إنه لو دقق لوجد أخبارًا كثيرة من مناطق الصراع والحروب، تُحيل إلى «ناشطين» أو «مراقبين» أو «شهود عيان»، بوصفهم المصدر الأولي للخبر، وهم اليوم المصدر الأساس لأخبار عدد من وسائل الإعلام، التي تلجأ لهم دائمًا وليس بشكل استثنائي، وهؤلاء الناشطون مجهولون، إضافة إلى أنهم في الأغلب جزء من الصراع القائم، وليسوا محايدين، وأحيانًا تخترعهم بعض وسائل الإعلام؛ لأنها تريد بث خبر ما، فتنسبه إليهم.
الصور أيضًا تخضع للفبركة، وقد تنقلها وسائل الإعلام من دون تثبت، أو يشارك بعضها في فبركتها، والمسألة سهلة، فباستخدام أدوات تقنية من برامج وتطبيقات، يمكن صناعة صورة تختلف تمامًا عن الواقع، كما يمكن لوسائل الإعلام أخذ صورة تتعلق بحدث معين جرى في بلدٍ ما، وتقديمها كصورة لما يجري في بلدٍ آخر وزمنٍ آخر، وهذا التضليل البصري يهدف غالبًا لكسب عواطف الناس، ويحوي كمية من الوحشية وربما الدموية التي تُذهب عقل المتابع لشدة قسوتها على النفس. بعض وسائل الإعلام تستثمر هذه الصور لزراعة الكراهية والأحقاد، وإشعال الفتن في المجتمعات، عبر تفسير الصورة ضمن صراع بين المكونات الاجتماعية في المنطقة، على أسس قبلية أو مذهبية، ورفد الصور التي تُبَث بتحليلاتٍ لموتورين طائفيين، يُقدَّمون كخبراء ومحللين إستراتيجيين، بما يسهم في شد العصب الطائفي.
تتنوع أساليب التضليل، لكن الخلاصة واحدة: لا بد من التشكك في سيل الأخبار الجارف، والتدقيق للوصول إلى الحقائق، قبل الانفعال واتحاذ مواقف بفعل عمليات التضليل المتنوعة.
مواجهة التضليل
من الضروري أن يفرّق المتلقي بين الخبر والرأي؛ فوسائل الإعلام قد تنشر رأيًا أو انطباعًا لأحد العاملين فيها، وقد يمزج هذا الشخص بين صياغة خبرية، ورأيه الشخصي، ما يستدعي الانتباه والحذر. مع قراءة الخبر المنشور في أي وسيلة إعلامية، لا بد من وضع أمور كثيرة في الحسبان؛ أهمها: خلفية هذه الوسيلة الإعلامية، والخيارات التي تتبناها، ومن يقف وراءها، وما مصلحتها من نشر أخبار تُدِين أو تُنَاصِر هذا الطرف أو ذاك. هذا النهج في التدقيق يشمل حتى وسائل الإعلام الغربية، التي تحدثنا عن عدم حياديتها وانحيازاتها.
بعد التدقيق في الوسيلة الإعلامية، لا بد من التدقيق في الخبر المنشور نفسه، ومعرفة مصدره الأول، أي معرفة المصدر الذي اعتمدت عليه الوسيلة الإعلامية في نقل الخبر؛ إذ إن مصادر مثل «شهود عيان» أو «ناشطين» تُضَعِّف كثيرًا من مصداقية الخبر، ومثل هذه الأخبار يمكن فبركتها ببساطة؛ إذ يمكننا أن نخترع خبرًا ما، ثم ننسبه لناشطين أو شهود عيان، ولا شيء يؤكد الأمر. التأكد من وجود مصادر متعددة، متناقضة المصالح، يعطي للخبر مصداقية أكبر، والتدقيق أيضًا لا بد أن يشمل الصور والمقاطع المصوّرة، فليست كل صورة تأكيدًا لخبر ما، ولا حتى كل مقطع مصوَّر، ففبركة مثل هذه المقاطع والصور بات سهلًا كما نعلم، وهذا يستدعي الحذر من التعاطي معها، وعلى الأقل عدم نشرها بكثافة في وسائط التواصل الاجتماعي، من دون التأكد من صحتها.
إذا كان التدقيق في أخبار وسائل الإعلام التقليدية والمشهورة ضرورة في هذه المرحلة، فإن التدقيق في أخبار شبكات التواصل الاجتماعي، التي تنتشر بشكل سريع بيننا، هو أولى وأوجب، وبخاصة أن الكذب فيها كثير. أخطر ما يحصل هو استخدام أخبارٍ وصورٍ مفبركة؛ لتهييج الناس في اتجاهات سلبية، وإذا كان المرء لا يستطيع التدقيق في كل خبر، فعليه ألا يصدّق كل خبر؛ كي لا يقع ضحية التضليل، ويُمَرِّرَه عبر أجهزته للآخرين.
اختراع حرب للتغطية على فضيحة الرئيس
في فلم «Wag the dog»، من بطولة روبرت دي نيرو وداستن هوفمان، يستعين مستشارو الرئيس الأميركي، بأحد منتجي هوليوود، للتغطية على فضيحة أخلاقية للرئيس، قبل الانتخابات الرئاسية بأسبوعين. يقوم المنتج السينمائي، مع مدير العلاقات العامة في حملة الرئيس، بإنتاج حرب افتراضية أميركية في ألبانيا، لا تحصل إلا على شاشات التلفزة الأميركية؛ لشد العصب الوطني، وإبعاد الأنظار عن الفضيحة. للحرب هذه روايتها المصورة، التي تستند إلى خطر يشكله متمردون ألبان، ومشهد سينمائي يصور فتاة ألبانية هاربة من قصف المتمردين، كما أن هذه الحرب تنتج قصصها الخاصة، مثل قصة جندي أميركي مفقود في ألبانيا، تستثير عواطف الناس، وتصبح حديث الرأي العام. الفلم يعرض كيفية فبركة حربٍ لم تحدث عن طريق الإعلام، وتوجيه اهتمام الناس، والتلاعب بعاطفتهم الوطنية وحسهم الإنساني، من خلال الصورة وسطوتها.
الفلم عُرِض عام ١٩٩٧م، وبعد ما يقارب عشرين عامًا، نجد أن أدوات الإعلام والاتصال أصبحت قادرة بسهولة على صناعة وقائع غير موجودة، واستثارة عواطف الناس واستنفارهم، والتحكم بتوجهات الرأي العام، ومع التطور التقني المذهل، لم تعد الحاجة كبيرة للاستعانة بخبيرٍ سينمائي، فكل شخص يمكنه فبركة أو تغيير مقطعٍ مصور، وهو يجلس أمام حاسوبه في بيته.