مقدمة في لغة النقوش اللحيانيَّة وتاريخها
لمحة تاريخية
تقع مدينة العلا عاصمة مملكة لحيان في وادي القرى جنوب شرق حرة عويرض، وفي وادٍ ضيق بين سلسلة من الجبال في الشرق والغرب، على بعد 22 كيلو مترًا جنوب مدائن صالح، على الطريق التجاري الذي يربط المحيط الهندي عبر غرب الجزيرة العربية بالبحر الأبيض المتوسط مارًّا بمكة ويثرب وخيبر ومدائن صالح، وهذا الطريق كان له الفضل في ازدهار مدينة العلا خلال عصور ما قبل الإسلام (أبو الحسن، 1997م: 32).
وقد سكن هذه المنطقة مجموعة قبائل عربية استطاعت أن تؤسس دولًا امتد تاريخها من القرن السادس قبل الميلاد، إلى الثاني الميلادي، كان أولها كما يرى الدكتور عبدالرحمن الأنصاري، قبيلة دادان، ثم قبيلة لحيان، ثم المعينيين الذين انتهى حكمهم على يد الأنباط (الأنصاري، 1975م: 79).
بينما يرى آخرون أن شعب لحيان من الشعوب العربية الجنوبية الأصل، كون بليني ذكرهم في جملة شعوب العربية الجنوبية؛ مما يؤيد وجهة نظر من يرى أن اللحيانيين هم من أصل عربي جنوبي، ورود اسم لحيان في النقوش العربية الجنوبية المعروفة بالمسند مثل: (أب يدع ذلحين) أي: (أبيدع اللحياني) (علي، 1978م: 244).
وقد أظهرت الأعمال الأثرية في جنوب الجزيرة العربية وشمالها أن مملكة لحيان قد عاشت كشعب في شمال الجزيرة العربية، وامتد سلطانها حتى شمل معظم أجزائها الشمالية، وكانت عاصمتها فيما يبدو منطقة الخريبة، التي هي جزء من مدينة العلا حاليًا، ثم توسعت حتى شملت مدينة العلا بحجمها الحالي جنوبًا، وامتدت حتى قبيل مدائن صالح (الحجر شمالًا)، ومما يساعدنا على هذا التحديد انتشار الكتابات اللحيانية في المنطقة؛ مثل: جبل الخريبة، وجبل عكمة، ووادي ساق، وتلعة الحمادي، وأبي عود وغيرها. (اللحياني مساعد، 2004م: 27).
كما أظهرت الحفريات الأثرية في قرية ذات كهل (الفاو حاليًا) وجودًا واضحًا وفعالًا للحيان، حيث عُثر على نصب تذكاري قُدِّمت للمعبود ذي غيبة، ووجود مقابر عائلية لحيانية، وكذلك كثير من النصوص التي تحمل أسماء وقبائل لحيانية (أبو الحسن، 1997م: 7).
ورغم ما ذهب إليه الدارسون عن أصل اللحيانيين وحقبة حكمهم من حيث إن ظهورهم كان في عهد بطليموس الثاني بتشجيع من البطالمة ليتمكنوا من الضغط على الأنباط الذين يعملون على عرقلة التجارة (علي، 1978م: 245-246)، أو ما ذهب إليه كاسكل من أن الوجود اللحياني لم يأتِ إلا بعد الوجود المعيني في الشمال حيث انتزع اللحيانيون الحكم منهم عام (150) قبل الميلاد بعد أن ضعف حكم المعينين في الجنوب (اللحياني مساعد، 2004م: 33)؛ فإننا نرى من خلال ما جاء في النقوش المسندية أن الوجود اللحياني في العلا كان مبكرًا، رافق ظهور ممالك جنوب الجزيرة العربية، بدليل أنه كشف مؤخرًا عن نقش سبئي في جوف اليمن يؤرخ ببداية القرن السادس قبل الميلاد، جاء فيه ذكر كثير من الأماكن في الجزيرة العربية؛ منها: دادان ولحيان (Demirjian 1):
حيث يذكر صاحب ذلك النقش القائد (صبحهمو بن عم شفق بن رشوان النشقاني) المهام الحربية والدبلوماسية التي كلفه بها سيده الملك (يدع إيل بين بن يثع أمر) ملك سبأ؛ من بينها أن صبحهمو (ركل ومصر عد ددن وغزة) بمعنى (ذهب في حملة إلى دادان وغزة)، وفي السطر الثامن عشر والتاسع عشر من النقش نفسه يرد ذكر (أرض ذكرم ولحيان) (Robindemaigret 2009,83).
وبحق فإن هذا النقش يعد وثيقة مهمة على قِدَم الممالك العربية في شمال الجزيرة العربية التي كان يربطها بممالك جنوب الجزيرة العربية علاقات اقتصادية وسياسية متينة، وفق ما أشار إليه النقش أعلاه، ونقوش مسندية أخرى.
الدراسات السابقة
يعد الرحالة الإنجليزي تشارلز داوتي الذي زار المنطقة عام 1876م أول من قام باستنساخ النقوش اللحيانية مع مجموعة أخرى من النقوش الآرامية والثمودية والنبطية والإسلامية في كتابه: (وثائق نقشية من شمال الجزيرة العربية) الذي صدر عام 1884م، ثم أعقبه في عام 1884م الرحالة والمستشرق الألماني يوليوس أويتنغ الذي زار المنطقة برفقة الرحالة الفرنسي تشارلز هوبر وقاما باستنساخ مجموعة من النقوش اللحيانية (السعيد، 2001م: 333-334).
وعلى ضوء دراسة هوبر وأويتنغ نشر موللر كتابه عام 1889م الذي خصص قسمًا منه لدراسة 75 نقشًا لحيانيًّا (أبو الحسن، 2002م: 17). هذا ويعود لهاينر شموللر الفضل في فك رموز الكتابة اللحيانية اعتمادًا على النقوش التي كان قد أحضرها يوليوس أويتنغ عام 1884م، مع أن البداية لمحاولة فك رموز الخط اللحياني كانت من قبل يوسف هاليفي الذي قام بقراءة أربعة نصوص لحيانية كان قد جلبها معه تشارلز داوتي عام 1876م (السعيد، 2001م: 334). وفي عام 1909م زار منطقة العلا كل من جوسين وسافينياك، واستطاعا خلال هذه الزيارة جمع ما يقارب 380 نقشًا لحيانيًّا و660 نقشًا ثموديًّا ومجموعة من الكتابات المعينية والنبطية والإغريقية، وقاما بدراسة هذه النقوش وتحليلها، ويعد عملهم من أهم الدراسات التاريخية والأثرية بالعلا ومدائن صالح.
يلي ذلك الدراسة التي قام بها جيرمي عام 1937م عن النقوش التي جمعت من العلا؛ إذ ميز أشكالًا من الحروف لها ميزات خاصة من باقي الأحرف، ثم دراسة العالم وينت (Winnett) عام 1937م عن النقوش اللحيانية والثمودية، وتعد دراسته من الدراسات المهمة؛ إذ استطاع أن يفرق بين حرفي الميم والجيم، وحرفي الضاد والطاء في اللحيانية المتأخرة، إضافة إلى تناوله تطور الكتابة الثمودية والدادانية (أبو الحسن، 1997م: 25-26).
كذلك دراسة كاسكل (Kaskel) عام 1953م عن مملكة لحيان واللحيانيين التي تناول فيها موضوع النقوش اللحيانية والدادانية، ووضع قائمة بالأبجدية اللحيانية، والتسلسل الزمني لدادان ولحيان ومعين، ودرس 112 نقشًا من النقوش التي درسها جوسين وسافينياك، ويعود إليه الفضل في أنه أول من حاول دراسة الكتابات العربية القديمة بحروف عربية، ويعد ما قام به كاسكل أفضل ما قُدِّم عن مملكة لحيان، إضافة إلى الدراسة التي قام بها روث شتيل (Stiehl) عام 1971م عن مجموعة من النقوش اللحيانية في عكمة التي تشتمل على دراسة أربعين نقشًا.
ومن الدراسات العربية عن النقوش اللحيانية الدراسة التي أعدها الدكتور عبدالرحمن الأنصاري عام 1966م، عن أسماء الأعلام اللحيانية في رسالته للدكتوراه، تناول فيها التحليل لنقوش من منطقة العلا وآثارها، ومقارنة هذه الأسماء مع أخرى سامية من فلسطين وسوريا وغيرهما (أبو الحسن، 1997م: 27).
ومن أهم الدراسات عن النقوش اللحيانية ما قام بها أبو الحسن في رسالة الماجستير عام 1996م ونشرت عام 1997م؛ إذ شملت دراسة مئة وستة وخمسين نقشًا لحيانيًّا من جبل عكمة إلى جانب إعادة دراسة أربعين نقشًا لحيانيًّا كان قد قام بدراستها روث شتيل (أبو الحسن، 1997م: 39-500).
كذلك رسالته للدكتوراه عن نقوش لحيانية من منطقة العلا التي شملت دراسة 151 نقشًا لحيانيًّا جديدًا من منطقة العلا (أبو الحسن، 2002م: 27- 395).
بعض خصائص النقوش اللحيانية ومضمونها
وجدت الكتابات اللحيانية في منطقة العلا في شمال غرب المملكة العربية السعودية، حيث أقيمت حضارة مملكة لحيان التي كانت سائدة في تلك المنطقة في المدة من بداية القرن السادس قبل الميلاد إلى نهاية القرن الثاني قبل الميلاد. وقد اشتق القلم اللحياني من القلم المسند، مثله مثل القلم الثمودي والصفوي؛ ذلك لأن القلم المسند متقدم في الوجود على هذه الأقلام، بدليل العثور على كتابات معينية في العلا أقدم عهدًا من الكتابات اللحيانية والثمودية (علي، 1978م: 230-231).
وما يميز الكتابات اللحيانية أن مدونيها لم يتقيدوا بهندسة أشكال الحروف كما هو متبع في المسند الجنوبي؛ مما نتج عنه تعدد أشكال الحروف، ومعظم الكتابات اللحيانية تبدأ من اليمين إلى اليسار ما عدا بعض النقوش القليلة جدًّا، فإنها تبدأ من اليسار وتتجه إلى اليمين، وفي هذه الحالة توجه الحروف باتجاه معاكس لما هو معروف.
والحروف اللحيانية تعدادها سبعة وعشرون حرفًا، وللحرف الواحد أكثر من شكل إلا أنها متقاربة، كما أن الكتابة اللحيانية لا تستعمل حروف اللين إلا نادرًا، وتعنى بذلك بعض النقوش التي تعود إلى الحقبة اللحيانية المتأخرة التي عُثر عليها في موقع أم درج، حيث بدأت تظهر حروف اللين في بعض الأسماء مثل: (ذ غ ب ت) أصبحت تُكتَب: (ذ غ ي ب ت). كما أن الفاصل بين الكلمات له أكثر من شكل في الكتابات اللحيانية؛ ففي بعض النقوش يكتب على شكل خط عمودي، وفي نقوش أخرى يكتب على شكل خطين أفقيين متقابلين، وأحيانًا يكون عبارة عن نقطتين متقابلتين أو نقطة واحدة، وهناك نقوش تخلو من الفواصل بين الكلمات، كما أن بعض الخطوط اللحيانية جاءت دقيقة في كتابتها يظهر عليها العناية والدقة (أبو الحسن، 2002م: 303).
ومعظم النقوش اللحيانية التي عُثر عليها في منطقة العلا تتحدث عن أمور شخصية في الغالب إلا أنها أمدَّتنا بمعلومات ذات فائدة كبيرة عن تاريخ لحيان، فعلى سبيل المثال جاءت النقوش اللحيانية لتلقي مزيدًا من الضوء على النواحي الدينية عند اللحيانيين، فهناك نقوش تتحدث عن تقديم قرابين، وأخرى عن تقديم زكاة، وأخرى تتحدث عن الحج للمعبود ذي غيبة أو المعبود خرج، ومن النقوش اللحيانية ما تتحدث عن أنواع النذور والقرابين التي كان يقدمها اللحيانيون لمعبوداتهم، إضافة إلى أسماء الآلهة والشخصيات التي وردت في النقوش، وجميع النقوش السابقة على الرغم من أنها دينية فإنها إثبات ملكية (أبو الحسن، 1997م: 406)، وما يميز النقوش اللحيانية من باقي النقوش الشمالية أن بعضها مؤرخ بسنوات حكم ملوك لحيان، حيث يذكر النقش أن الحدث وقع في سنة كذا من حكم الملك فلان (سنة خمس برأيهنأوس بن تلمي)؛ مما ساعد على معرفة التسلسل الزمني لمملكة لحيان، وأن الحكم في لحيان كان وراثيًّا، وفي معرفة تطور الكتابة من خلال أشكال الحروف (أبو الحسن، 2002م: 304).
وتتشابه النقوش اللحيانية من ناحية المضمون وبخاصة النقوش الدينية؛ إذ تبدأ جميعها بأسماء أعلام بسيطة أو مركبة، ويلي الأسماء بعض الأفعال التي تدل على العمل الذي قام به صاحب النقش؛ مثل: (أطلل، أطلت، نذر، نذرت) كتقديم زكاة، أو قربان، أو نذر، أو حجّ، أو غير ذلك من الأعمال، ثم يأتي اسم المعبود الذي قدم له العمل، وفي أكثرها يكون المعبود ذا غيبة يليه المعبود خرج، ثم عبارات طلب الرضا والسعادة من المعبود لصاحب النقش وذريته، وفي بعضها يطلب صاحب النقش من المعبود إلحاق الضرر بمن يتلف أو يدمر النقش.
الفعل في النقوش اللحيانية.. ماضيًا
يأتي الفعل في النقوش اللحيانية بصيغة الماضي؛ مثل: نذر، أطلل، فعل، ثلم، ويندر استخدام الفعل المضارع حيث ورد في نقش (أبو الحسن 38) بصيغة ييسر، أي يسهل. ويرجع السبب في مجيء معظمها بصيغة الماضي أنها كتبت بعد القيام بالعمل الذي تتحدث عنه النقوش. كما استخدم اللحيانيون حرف الهاء ضميرًا متصلًا للمفرد المذكر والمؤنث الغائب ملحقًا بالفعل؛ مثل: (فرضيهم، أثابه)، كذلك استُخدم حرفا الهاء والميم ضميرًا متصلًا بالفعل في حالة الجمع؛ مثل: (أثابهم). أما حروف الجر، فهي حرف الباء، وهي تسبق الأماكن: (ببدر)، وحرف الجر عن: (عن فرضه)، وعل: (عل ذكن لهم)، وعلى: (على ما كان له)، كذلك حرف اللام: (لذغيبة)، وحرف الجر من: (من دثأ) (أبو الحسن، 1997م: 410).
وللتنوين حضور في النقوش اللحيانية يتمثل في إضافة حرف النون في آخر الكلمة، كما جاء في نقش (أبو الحسن 35) «أطلل/ طللن» بمعنى: «أطلل طللًا». كذلك صيغة المضاف والمضاف إليه؛ مثل: (نخله) فنخل مضاف، والهاء مضاف إليه. (المرجع السابق، 413). أما أداة التعريف في النقوش اللحيانية فهي حرف الهاء في بداية الكلمة؛ مثل: (هـ ن ق) بمعنى: النوق، و(ه ط ل ل) بمعنى: (الطلل).
وجميع النقوش اللحيانية التي عُثر عليها في منطقة العلا كانت مكتوبة إما على واجهات صخرية في سفوح الجبال وقممها، أو على ألواح حجرية نُحتت لهذا الغرض، أو على مذابح ومجامر منحوتة من الحجر، ولم يوجد أي كتابة على المعادن، وتتفاوت أحجام النقوش اللحيانية بين الطويل والقصير، فهناك نقوش يتجاوز عدد سطورها 12 سطرًا، كل سطر يحتوي على 24 حرفًا، ومنها ما هو عبارة عن كلمة أو كلمتين تمثل اسم شخص. وظهرت في النقوش اللحيانية شواهد تدل على معرفة اللحيانيين بنظام العدد والترقيم، وذلك إما بكتابتها حسب نطقها أو حسب الأرقام، فالرقم واحد يعبر عنه بخط عمودي، ويتكرر حتى الرقم تسعة، أما العشرة فتكون عبارة عن دائرة أو معين، والرقم عشرون عبارة عن دائرتين، والأربعون شكل العشرين مرتين (أبو الحسن، 2002م: 306).
كما جاء في النقوش اللحيانية وبخاصة المتأخرة منها ما يدل على قربها من اللغة العربية الفصحى، ومن هذه الجمل: (..أن/ي ك ن/ ل هـ/ و ل د/ ف ر ض هـ/ وأ خ ر ت هـ) بمعنى: إن يكن له ولد فرضيه وأخرته (الرضا عنه). (أبو الحسن، المرجع السابق).