بواسطة نورة الشملان - أكاديمية و أديبة | أغسطس 30, 2016 | مقالات
لا أدري ما الشجاعة التي ملكتني حين اتصلت بي الأخت الأستاذة هدى الدغفق وطلبت مني باسم مجلة الفيصل أن أكتب عن زوجي وحبيبي الراحل الدكتور سليمان السليم في ألف كلمة فقط.
هل يمكن اختصار عمر يزيد على الأربعين عامًا بألف كلمة؟ لم أفكر كثيرًا، وأبديت استعدادي لذلك، ومرت الأيام، وكلما أمسكت القلم لأكتب ظهرت صورته أمامي وكأنها تكذب الواقع، وتتناغم مع أمنياتي بأن ما حدث ليس إلا كابوسًا ثقيلًا سينجلي. وليلة البارحة وصلتني رسالتان من الأخت هدى، وأخرى من المجلة للسؤال عن المقال، وتذكر أن المجلة في عجلة من أمرها لنشره، فاستجبت للطلب ولكن من أين أبدأ؟
سأنحي العواطف جانبًا؛ لأن المجلة لم تطلب مني تأبينًا للراحل العزيز، إنما طلبت تقديمه للقراء. هو سليمان بن عبدالعزيز السليم، حصل على الدكتوراه من جامعة جونز هوبكنز في العلاقات الدولية، وقبلها الماجستير من جامعة جنوب كاليفورنيا في التخصص نفسه، تدرج في الوظائف بعد حصوله على الدكتوراه من نائب لمدير التأمينات الاجتماعية، إلى أستاذ في جامعة الملك سعود – كلية التجارة. ويُعد التحاقه بها أحد مفاصل حياته؛ فقد أتاها ورياح الخلافات بين أساتذتها عاتية، وكانوا ينقسمون إلى فريقين متخاصمين: الفريق الأول يضم غازي القصيبي ومحسون جلال، والفريق الثاني يضم محمد الملحم ومحمد الهوشان، وكان سليمان يتمتع بحب الفريقين فاستطاع أن يكون حمامة السلام بينهما.
كان يدير أحيانًا أربع وزارات في آن واحد عندما يسافر بعض الوزراء ويكلفونه بذلك، ولم أسمعه يومًا يتأفف من ذلك أو يشكو كثرة العمل. كان نظيف اليد لم يدخل في جيبه إلا راتبه على الرغم من الإغراءات الكثيرة التي صدها من اليوم الأول له في الوزارة، وهذا حديث يطول شرحه وتكثر أمثلته.
عندما مزق الأمير محمد بن عبدالعزيز خطابه
كان يحظى بتقدير القيادة، وهذا ما جعله يتخطى الكثير من العقبات، منها على سبيل المثال عندما حدثت أزمة الأسمنت عام 1979م قررت وزارة التجارة تقنين التوزيع، وتحديد حصص المقاولين، فأتاه يومًا أحد المقاولين الكبار يطلب حصة أكثر بكثير من المقرر له، ويشفع الطلب بخطاب من الأمير محمد بن عبدالعزيز شقيق الملك خالد الذي يكبره سنًّا، وفي هذا الخطاب أمرٌ بصرف أسمنت لهذا المقاول أكثر بكثير من الحصة المقررة له، فما كان من سليمان إلا أن أخذ الخطاب ووعد المقاول خيرًا، ثم اتجه إلى بيت الأمير محمد وشرح له الموضوع، وأن إعطاء هذا المقاول كمية كبيرة سيكون على حساب حصص المقاولين الصغار، فاستمع إليه الأمير ثم أخذ منه الخطاب ومزقه بعد أن شكره على حسه الوطني وإخلاصه وجرأته في إحقاق الحق، والأمثلة تتكرر.
عند تولي الملك فهد الحكم عينه وزيرًا للمالية، ولم يكن سعيدًا بهذا التعيين؛ لأنه يعتقد أن حمل هذه الوزارة ثقيل جدًّا، لكنه التحق بالعمل، وحقق كثيرًا من الإنجازات، وهو أمر مسجل له. وبعد أشهر عدة قدم استقالته ورفضها الملك فهد، وأتذكر جيدًا المهاتفة الطويلة التي كان فيها الملك فهد يقنعه بالبقاء بحب وإعزاز، لكنه أصر على ذلك؛ بسبب حالته الصحية، وتوسط له الملك سلمان بن عبدالعزيز الذي كان سليمان يكنّ له الاحترام والتقدير، فقبل الملك الاستقالة، وأعلنت في الصحف، وهي المرة الأولى في تاريخ المملكة أن وزيرًا من الشعب يستقيل. وبعد استقالته آثر التفرغ لأسرته وهواياته وقراءاته، فقد كان -رحمه الله- قارئًا نهمًا.
عرضت عليه مناصب عدة، بعضها حكومي وبعضها خاص، فاعتذر عن كل ذلك، ثم كلفه الملك فهد بعضوية اللجنة الاستشارية العليا لمجلس التعاون الخليجي، فوافق على ذلك، واستمر فيها دورتين، ثم طلب عدم التجديد. ألحّ عليه كثير من الأصدقاء أن يرأس مجلس إدارة البنك السعودي الأميركي (سامبا) فوافق لدورة واحدة، ثم اعتذر عن ذلك رغم الإلحاح الشديد من أعضاء مجلس إدارة البنك، وانضم عضوًا في مجلس إدارة مجموعة الزامل، وبقي فيها حتى وفاته.
تعرض لأزمات صحية عديدة، فذهب إلى أميركا، وكان من المقرر أن يخضع لعملية في القلب المفتوح، ولم يخبر أحدًا بذلك، ولما علم الملك فهد أرسل إليه رجلًا من السفارة يخبره أن جميع تكاليف العملية وسكن العائلة سيغطى من الدولة، فشكره شكرًا جزيلًا، لكنه اعتذر عن ذلك، قائلًا: إن شركة التأمين ستدفع تكاليف المستشفى، أما السكن فقد دفع مقدمًا، ولم يستلم من الحكومة ريالًا واحدًا.
أجرى عمليات عدة، منها عملية تبديل صمام في القلب، وترقيع الحجاب الحاجز، ولم أسمعه يومًا يتأفف أو يشتكي، فكلمته التي لازمته دائمًا «الحمد لله». قبل وفاته تعرّض لأزمة قلبية في لندن، وبقي في المستشفى عشرة أيام، ثم انتقل إلى الرفيق الأعلى راضيًا مرضيًّا، تاركًا قلوبًا تنزف دمًا من لوعة الفراق.
غازي القصيبي يؤنبه لعدم اهتمامه بالإعلام
غازي القصيبي
في عام 1974م عين وكيلًا لوزارة التجارة، وبعدها بأقل من عام عين وزيرًا للتجارة، واستمر في الوزارة عشرين عامًا، مرت خلالها البلاد بكثير من الأزمات الاقتصادية، أدارها بكل حرفية، وكان يعمل ليلًا ونهارًا بعيدًا من الإعلام، فقد كان شعاره «العمل يتحدث عن نفسه».
بحكم العلاقة الوطيدة التي تربطه بالدكتور غازي القصيبي الذي عين وزيرًا للصناعة معه، فطالما سمعته يثور عليه لعدم إعلانه منجزاته، وإغلاق باب وزارته أمام الإعلام. وفي إحدى المرات، وكان سليمان في جولة بين الفنادق في الطائف فوجئ بكاميرات الإعلام، ولم يدر من الذي أرسلها؛ إذ إنه لم يطلب من وزارة الإعلام ذلك، فعرف بعد ذلك أن الدكتور غازي علم بتلك الجولة فاتصل بوزارة الإعلام، ولم يكن هذا التصرف من غازي النابع من الحب مرضيًّا لسليمان؛ فقد تعود أن يعمل في الظل، معتقدًا أن ما يقوم به هو الواجب الذي لا يستحق الشكر عليه.
بواسطة نورة الشملان - أكاديمية و أديبة | ديسمبر 24, 2015 | دراسات
النظر إلى جودة الشعر وجماله قضية قلما غفل عن الوقوف عندها ناقد قديم؛ فالمفاضلة بين الشعراء، والمفاضلة بين القصائد حيناً، والأبيات المفردة حيناً آخر، أمر يطالعنا في مدوناتنا النقدية القديمة، ولعل عبارة (أفضل) من أكثر العبارات وروداً؛ فنحن أمام أفضل بيت، أو أفضل قصيدة،أو أفضل شاعر قال في كذا، وغيرها.
ولو أردنا أن نقف عند أكثر القضايا تداولاً في تقويم الشعر لصادفنا المعيار الزمني؛ فالجودة عند كثير من النقاد المحافظين تكمن في القديم، والقديم هو الجاهلي تحديداً، وهذا الانحياز إلى القديم يجعلهم يغضّون الطرف عما فيه من خلل فني يتمحلون لصاحبه المسوغات، بينما يسقط كل شعر محدث مهما كانت جودته، بل إن الناقد يتراجع عن رأيه في النصّ عندما يتبين له أن قائله محدث، والروايات المتداولة عن الأصمعي وابن الأعرابي معروفة عند دارسي الأدب، منها قول ابن الأعرابي عن شعر أبي نواس ومعاصريه: «إنما أشعار هؤلاء -مثل أبي نواس وغيره- مثل الريحان يشمّ يوماً فيذوى فيرمى به، وأشعار القدماء مثل المسك والعنبر كلما حرّكته ازداد طيباً»(1).
ولا يخرج ما قاله غيره من علماء اللغة -أمثال: الأصمعي، وأبي عمرو بن العلاء، وغيرهما- عن ذلك التصور، وإذا كان قد ظهر من النقاد من نفى عن نفسه صفة التعصب إلى القديم فإن أمثلتهم تبيّن العكس، ولنضرب مثلاً واحداً في ذلك ابن رشيق القيرواني، الذي ادعى أنه لا يتعصب إلى القديم، وعندما ضرب مثلاً في القدماء والمحدثين قال: «إنما مثل القدماء والمحدثين كمثل رجلين ابتدأ هذا بناءً فأحكمه وأتقنه، ثم أتى الآخر فنقشه وزيّنه؛ فالكلفة ظاهرة على هذا وإن حسن، والقدرة ظاهرة على ذلك وإن خشن»(2). والنص لا يحتاج إلى شرح؛ فالقديم يمّثل الإحكام والإتقان، والمحدث يمثّل الزخرفة والكلفة؛ أي أن ابن رشيق لم يستطع أن يتحرّر من ربقة المتعصبين إلى القديم، وقد فسّر بعض النقاد هذا التعصب بأنه يعود إلى حاجتهم إلى الشاهد اللغوي، وعدم ثقتهم بما يقوله المحدثون.
معايير الجودة
من المعايير التي اعتمد عليها النقاد في تقويم الشعر: اللفظ، والمعنى؛ فقدامة بن جعفر تبنّى قضية تفضيل اللفظ، وأن الجمال يختصر في الصياغة، وأباح للشاعر أن يتناول أيّ معنى على أن يعرضه في معرض حسن(3).
ولا يبتعد ابن رشيق من هذه الفكرة؛ فهو يرى أن قيمة الشعر تكمن في صياغته وألفاظه؛ لأن المعاني يعرفها الجميع، ويحتج لقوله بما سمعه من الحذاق، فيقول: «سمعت بعض الحذاق يقول: قال العلماء: اللفظ أغلى من المعنى ثمناً، وأعظم قيمةً، وأعزّ مطلباً… ألا ترى لو أن رجلاً أراد في المدح تشبيه رجل لما أخطأ أن يشبهه في الجود بالغيث والبحر، فإن لم يحسن تركيب هذه المعاني في أحسن حلاها من اللفظ الجيد الجامع للرقة، والجزالة، والعذوبة، والطلاوة، والسهولة، والحلاوة، لم يكن للمعنى قدر؟!»(4). وينفي ابن خلدون عن المعنى كلّ قيمة؛ فاللفظ هو الأصل، والمعنى تابع له، ويرى أن جودة الكلام من شعر ونثر تعود إلى اللفظ(5).
لقد أدى هذا الاهتمام بقيمة اللفظ إلى الاهتمام بالمحسنات البديعية، والزخارف اللفظية، وشيوع الصنعة، حتى إن أبا هلال العسكري تناول خمسةً وثلاثين نوعاً منها ليبرهن أن البديع فنّ قديم عرفه العرب، ويستهين بمن ذهب إلى أنه فنّ ابتكره المحدثون. وفضّ النزاع في هذه القضية عبدالقاهر الجرجاني، الذي نادى بنظرية النظم والتحام اللفظ والمعنى، وضرب لذلك الأمثلة؛ فهو يشبه الشعر بخاتم مصنوع من الذهب أو الفضة، فالحكم عليه لا يكون من حيث مادته الأولية، ولا يكون من حيث صياغته فقط، بل يستمد الحكم منهما معاً، وهكذا الشعر فلا يمكن فصل المعنى عن اللفظ(6).
ومما يُنظر إليه في تقويم الشعر، وتحديد جودته، التزام عمود الشعر، وهذا المعيار ظهر متأخراً عند الآمدي في موازنته بين البحتري وأبي تمام؛ إذ جعل البحتري ملتزماً عمود الشعر، وأبا تمام خارجاً عنه. ومن يتأمل توصيف الآمدي لأشعار هذين الشاعرين يدرك أن عمود الشعر عنده يعني العناية باللفظ، وجودة السبك، ووضوح المقصد، وصحة العبارة، والشعر عنده هو لغة العواطف لا العقول. أما الخارج عن عمود الشعر، فهو الذي يعتمد التعقيد، ومستكره الألفاظ، والمعاني البعيدة، والاستعارات الغامضة، والتكلف الذي لا يليق بالشاعر، بل يليق بالعالم أو الفيلسوف. والملتزم عمود الشعر هو من سار على سنّة الأوائل، أما من كان شعره لا يشبه أشعار الأوائل، ولا على طريقتهم، واشتمل على الاستعارات البعيدة، والمعاني المولّدة، فهو خارج عن هذا العمود.
وممن اهتموا بعمود الشعر القاضي الجرجاني في دفاعه عن المتنبي؛ فالمتنبي في نظر من قالوا بعمود الشعر خارج عن العمود؛ لأنه اعتمد الفلسفة والمنطق في شعره. القاضي الجرجاني ينظر إلى عمود الشعر نظرةً أكثر رحابة من معاصره الآمدي؛ فهو لا يشترط السير على مذهب الأوائل، بل يفسح مجالاً للتجديد، ويجعل له عناصر ستة، هي: شرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف، والمقاربة في التشبيه، والغزارة في البديهة، وكثرة الأبيات السائدة والأمثال الشاردة. وهذه كلها متوافرة في شعر المتنبي، الذي بنى الكتاب على الدفاع عنه، وإنصافه من منتقديه. كما نلاحظ أن هذه الشروط تأتي في الشعر القديم كما تأتي في الشعر المحدث، وكما رأينا فإن التعقيد، والغموض، والاعتماد على المنطق والمقايسة، كل ذلك مرفوض عند القاضي كما أنه مرفوض عند الآمدي. وإذا كان الآمدي قد قاس شعر أبي تمام وشعر البحتري على عمود الشعر فإن القاضي لم يفعل ذلك حين تناول شعر المتنبي؛ فلم يجعله ملتزماً العمود أو خارجاً عنه، وإنما وضع شروطاً لم يشرح مغزاها، إلا أنها تأتي في كل شعر جيد، سواء أكان قديماً أم حديثاً.
وأفاض المرزوقي في الحديث عن عمود الشعر في مقدمة شرحه حماسة أبي تمام، متأثراً بمن سبقه، خصوصاً القاضي الجرجاني، فكما أن القاضي جعل شرف المعنى، وصحة اللفظ، وجزالته، واستقامته، والإصابة في الوصف، والمقاربة في التشبيه، من شروط جودة الشعر، كذلك فعل المرزوقي. ولا بد أن نقف عند مصطلح شرف المعنى الذي تكرّر عند الناقدين من دون أن يقوم أحدهما بشرحه كأنه شيء معروف. نلتمس هذا الشرح مما قاله بشر بن المعتمر في صحيفته المشهورة التي دوّنها الجاحظ في البيان والتبيين: «مدار الشرف مع الصواب، وإحراز المنفعة، مع موافقة الحال، ومع ما يجب لكلّ مقام من المقال»(7).
جزالة اللفظ واستقامته
الكلام الجزل هو القويّ الشديد، وهو عكس الركيك الضعيف، ولا يقصد بالجزل التوعّر، أو الوحشية، أو كما قال ابن الأثير: «ولست أعني بالجزل من الألفاظ أن يكون متوعّراً، عليه عنجهية البداوة، أعني بالجزل أن يكون متيناً على عذوبته في الفم، ولذاذته في السمع»(8). فالجزالة لا تتعارض مع السهولة وقرب الأخذ، ومن هنا نجد ابن الأثير يهاجم من اعتقد أن الجزالة والفصاحة تعنيان الغرابة والغموض قائلاً: «وإذا رأوا كلاماً وحشياً غامض الألفاظ يعجبون به، ويصفونه بالفصاحة، وهو بالضد من ذلك؛ لأن الفصاحة هي الظهور والبيان، لا الغموض والخفاء»(9). واستقامة اللفظ تعني التزامه قواعد الإعراب، يقول قدامة: «من عيوب اللفظ أن يكون ملحوناً، وجارياً على غير سبيل الإعراب واللغة»(10). أما الإصابة في الوصف، فهي تقترب من صحة المعنى من حيث إن أيّ تصور خاطئ للشيء الموصوف يؤدي إلى الوقوع في الخطأ، وقد مثّلوا له بقول المتنبي في أحد ممدوحيه:
أغار على السلافة وهي تجري
على شفة الأمير أبي الحسين
لأن الغيرة تكون بين العشاق، وليس بين الشاعر وممدوحه.
أما المقاربة في التشبيه، فهي كمال قال المبرد: «وأحسن الشعر ما قارب فيه القائل إذا شبه، وأحسن منه ما أصاب فيه الحقيقة»(11). وقد أشاد كثير من النقاد القدماء بالتشبيه القريب؛ مثل: ابن الأثير، وأبي هلال العسكري، والرماني، وابن رشيق، وقدامة بن جعفر الذي قال: «فأحسن التشبيه ما وقع بين الشيئين اشتراكهما في الصفات أكثر من انفرادهما فيها؛ حتى يدني بهما إلى حال الاتحاد»(12).
أما التمام أجزاء النظم والتئامها على تخيّر من لذيذ الوزن، فهو ذو شقين: الشق الأول يتعلّق بتعدّد الفنون في القصيدة؛ فالقصيدة القديمة تتعدد فيها الأغراض، ولن نتناول ما قاله النقاد في ذلك، ونكتفي بما ذكره حازم القرطاجَنّي؛ إذ علّل ذلك برغبة الشاعر في طرد الملل، يقول: «إن الحذاق من الشعراء لما وجدوا النفوس تسأم التمادي على حالٍ واحدة، وتؤثر الانتقال من حالٍ إلى حال، ووجدوها تستريح إلى استئناف الأمر، واستجداد الشيء بعد الشيء… اعتمدوا في القصائد أن يقسموا الكلام فيها إلى فصول»(13).
وعلّل ابن قتيبة قبل حازم القرطاجَنّي الابتداء بالغزل، أو الوقوف على الأطلال، برغبة الشاعر في جذب إصغاء السامع، وتهيئته لسماع القصيدة؛ «لأن التشبيب قريب من النفوس، لائط بالقلوب؛ لما جعل الله في النفوس من محبة الغزل، وإلف النساء»(14).
وشبّه الحاتمي القصيدة بجسم الإنسان، فقال: «مثل القصيدة مثل الإنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض؛ فمتى انفصل واحد عن الآخر، وباينه في صحة التركيب، غادر في الجسم عاهةً تتخوّن محاسنه، وتعفي معالمه»(15). وكأن الحاتمي يشير في ذلك إلى حسن التخلص، وهو الانتقال من غرض إلى آخر من دون انفصال عن طريق إيجاد بيت من الشعر يكون رابطاً بين المقدمة والموضوع، ويكثر هذا في شعر أبي تمام والمتنبي، بينما يقلّ كثيراً في الشعر القديم، ومن سار في خط القدماء أمثال البحتري.