الحيل البابلية للخزانة الكاملية
صدر عن مكتبة الإسكندرية تحقيق لمخطوط «الحيل البابلية للخزانة الكاملية» من تأليف الحسن بن محمد الإسكندري القرشي، والكتاب الذي يحقق لأول مرة حققه الدكتور لطف الله قاري المحقق السعودي المرموق في التراث العلمي العربي، الكتاب يتناول ألعاب الخفة والتي تعرف الآن بالألعاب السحرية وخدع السيرك، وهذا الكتاب يكشف عن معرفة مؤلفي هذه الكتب بقوانين العلوم المختلفة من ميكانيكا وفيزياء وكيمياء ونبات وحيوان وبالصناعات المختلفة، لذا فهذه المؤلفات مهمة للباحثين في مجالات التراث الشعبي والأنثروبولوجيا الثقافية، والمعنيين بتاريخ الأساطير.
ألعاب الخفة تسمى قديمًا بأسماء مختلفة، مثل الدكّ والنيرنجات والشعبذة والمشاتين. وحديثًا نسميها بأسماء أخرى، مثل الألعاب السحرية وخدع السيرك وحيل الحواة. ولم تلقَ الكتب التراثية التي أُلِّفَت في هذا الموضوع الضوءَ الكافي، برغم احتوائها على ثروة من المعلومات، التي تعتمد على معرفة مؤلفيها بقوانين العلوم المختلفة من ميكانيكا وفيزياء وكيمياء ونبات وحيوان وبالصناعات المختلفة. فنشرها يهم مؤرخي التقنيات والصناعات، كما يهم الباحثين في التراث الشعبي والأنثروبولوجيا الثقافية (علم الإنسان الثقافي أو الأناسة الثقافية) وما يتصل بها، كالإثنوغرافيا (علم الأناسة الاجتماعية أو وصف أحوال الناس) والإثنولوجيا (علم الأعراق أو علم الثقافات المقارن) والميثولوجيا (تاريخ الأساطير) وغيرها. ويهم كذلك المهتمين بالمصطلحات العلمية، وكل ما يتصل بهذه المجالات.
ويحتوي كتاب «الحِيَل البابلية» على معلومات قيّمة ذكر المحقق منها: أولًا، استخدام خواص النباتات، مثل صمغ الكثيراء وصمغ الأشراس وخاصية نبات البلاذر لتثبيت الكتابة. ثانيًا، استخدام إطفاء الجير لينتج عنه دخان من تحت الأرض يخيف به الناس، وأيضًا استعمال الحرارة الناتجة عن العملية لسلق البيض، واستعمال حرارة التفاعل لإشعال لهب. ثالثًا، استخدام سلاح بحري، وهو النفط الذي يظل مشتعلًا فوق سطح الماء دون أن يطفئه الماء. رابعًا، مقذوف ناري للمنجنيق، له خاصية التدمير التام، بحيث يترك المباني ركامًا بعد تدميرها. خامسًا، المواد المقاومة للنار. سادسًا، الكتابة على داخل البيض دون تقشيره، باستعمال خاصية حمض الكبريت. سابعًا، باب كامل حول الزراعة وتلقيح النباتات ببعضها، أي التراكيب. ثامنًا، باب كامل عن التعمية أو التشفير. تاسعًا، وبعدها الكتابة السِّرّيّة.
عاشرًا، يذكر المؤلف حجرًا بداخله حجر، والحجر الداخلي «النواة» حرّ الحركة يتقلقل داخل الحجر «القوقعة» وتسمع صوت ارتطام الصغير بجدار الأكبر. وهي معلومة صحيحة كما سيأتي. حادي عشر، يذكر الحجر الذي يتحرّك فوق الخلّ. وأيضًا نبيّن أن هذه ظاهرة صحيحة. ثاني عشر، خاصية تحرك قشر بيض النعام في الخل. ثالث عشر، العدد الكبير من أسماء النباتات والحيوانات التي كانت معروفة للمؤلف، وبالتالي متداولة في الثقافة الشعبية. وهذه يجدها القارئ في الكشافات في آخر الكتاب، مع بيان أسمائها العلمية في الحواشي. فكشّاف أسماء النباتات يوضح أنها بلغت مئة وأربعين نباتًا. رابع عشر، الكتاب يشتمل على النصوص الوحيدة التراثية التي نعرفها حول استعمال المؤثرات الضوئية. وذلك باستعمال صندوق ينبعث منه في الظلام ضوء شبيه بالهلال والكواكب وغيرها، ليوهم المتفرجين بحصول معجزات (الفقرات 5 إلى 8).
خامس عشر، تركيب مواد تشتعل ذاتيًّا. سادس عشر، استخدام العملية الكيميائية المعروفة بالاستقطار أو التصعيد (أو التقطير في عصرنا). وقد شُرِحَ معناها في حواشي النص. وممن ميّزوا الفرق بين السحر وألعاب الخفة القاضي الباقلاني (ت 403هـ/ 1013م) الذي قال إن السحر هو إيهام الآخرين بحدوث شيء لم يحدث في الواقع.
سحرة فرعون
وذكر مثالًا على ذلك الآيات القرآنية الكريمة التي تتحدث عن أن سحرة فرعون جعلوا الناس يخيّل إليهم أن عصيهم حيّات تسعى. ثم قال: «فأما ما يعمله المشعبذون فإنه ضرب من الحيلة والخفة، لأنهم يخبّئون حيّة ويخرجون أخرى من جوفها، ويدكّون (أي يخفون) ذلك، فيجنون الخرقة (أي يحصلون على عمل خارق) بخفة ودُربة (أي مران) ويطلقون الحية. وكذلك ربما خاتلوا فأخفوا العقور الميت والمذبوح وأطلقوا الحي، وأوهموا أن الميت هو الذي صار حيًّا- في أمثال ذلك مما يعملونه، ووجوه الحيل فيه معروفة. فما ذكرنا أولًا (أي سحرة فرعون) ضرب من السحر، وهذا ضرب من النارنجات والشعبذ».
وبسبب اختلاف مفهوم وتعريف ألعاب الخفة بين الفقهاء اختلفوا في تحريمها وإباحتها. فروى الونشريسي فتويين متناقضتين: «وسئل (ابن أبي زيد القيرواني، أبو محمد، ت 386هـ/ 996م) عن هؤلاء الذين يجلسون في الطرقات، ولهم ملاعب: يظهرون للناس أنهم يقطعون رأس الإنسان، ثم يدْعونه فيجيبهم حينًا، ويجعلون من التراب دراهم ودنانير، ويقطعون السلسلة، فهل تراهم بهذا الفعل سحرة؟ فأجاب: إن لم يكن فيها كفر فلا شيء عليه. وهذا إنما هو خفة يد ملاعب. قيل: وكان الشيخ أبو عبدالله بن عرفة رحمه الله (ت 803هـ/ 1400م) يقول في الحركات العجائب إنها من عمل السحر». وممن أباحها السقطي، لكن بشرط أن تتم ممارستها في الشوارع السالكة وعند تجمعات النار.
وممن حرّمها ابن عبدالرؤوف قائلًا: «وكذلك يُمنع أهل التخييل الذي يظهر أنه يفعل شيئًا من غير فعله، ويخيّل به، مثل النواريج وقلب العين وما أشبه ذلك. وهو من باب السحر».
ذكرت المصادر التراثية أسماء كتب في هذا المجال، مما وصل إلينا بعضه وما لم يصل إلينا. ومنها الكتب التي نقلنا أسماءها عن كتاب «الفهرست» في الأسطر السابقة. ومن المؤلفات التي وصلت إلينا: أولًا، كتاب النارنجيات، الباهر في عجائب الحيل، لأبي عامر أحمد بن عبد الملك الأندلسي المعروف بابن شُهَيد (ت 426هـ). وهو الشاعر والأديب المشهور، صاحب رسالة «التوابع والزوابع». ورسالة النارنجيات هذه جزء من كتابه «كشف الدك وإيضاح الشك». وقد نشرت محققة. ثانيًا، عيون الحقائق وإيضاح الطرائق، لأبي القاسم السيماوي العراقي (ت 580هـ)، منه نسخ كثيرة حول العالم. وقد طبعت نسخة مختصرة منه بمصر سنة 1321هـ في 48 صفحة، وهي طبعة حجرية. ثالثًا، إرخاء الستور والكلل في كشف المدكّات والحيل، تأليف محمد بن محمد أبي حلة الرهاروزي أو ابن الدهان.
كلمات غامضة
ولا نعلم شيئًا عن حياة المؤلف، إلا أن المخطوطة الوحيدة التي وصلت إلينا مؤرخة سنة 591هـ/ 1195م. والكتاب من ضمن المصادر التي اعتمد عليها الجوبري. وقد قال العلامة فؤاد سيد -رحمه الله- إن الكتاب يدور حول الحروف والأوفاق، وإنه حول تفسير كلمات غامضة يستعملها مدعو الزهد والعلم. لكن اعتماد الجوبري عليه يدل على اشتماله شيئًا من ألعاب الخفة. وقد وضع فؤاد سيد كتاب ابن شهيد أيضًا ضمن كتب الحروف والأوفاق. لكن عندما نُشر وجدنا أنه في مجال ألعاب الخفة. رابعًا، المختار في كشف الأسرار للجوبري. والمؤلف كان على قيد الحياة سنة 613هـ/ 1216م. ويستفاد من مقدمة مؤلفه أسماء كتب أخرى اعتمد عليها، ولم تصل إلينا، فيما عدا كتاب «إرخاء الستور» وكتاب ابن شُهَيد السابق ذكره. خامسًا، «زهر البساتين في علم المشاتين»، تأليف محمد بن أبي بكر الزرخوني، المتوفى نحو 808هـ/ 1406م. حققه كاتب هذه الأسطر. سادسًا، عيون الحقائق والغرائب في اللُّعوب والكيمياء، لمجهول، منه نسخة مخطوطة في تركيا. سابعًا، في الدك والنيرنجيات والملاعيب والسيمياء والبخورات، لمجهول أيضًا، ومنه كذلك نسخة في تركيا.
في التراث العلمي كتب مهمة لا نعرف تراجم مفصّلة عن مؤلفيها. ومن أشهرها كتاب «الفهرست» لمحمد بن إسحاق النديم الذي نستخلص ترجمته من كتابه، وكل من ذكروه بترجمة موجزة استنتجوا تلك الترجمة من كتاب «الفهرست» نفسه. وتنطبق الحالة نفسها على مؤلف كتابنا هذا. فالوحيد الذي ترجم له هو إسماعيل باشا البغدادي الباباني، اعتمادًا على محتويات الكتاب الذي بين أيدينا. فقال عنه: «الإسكندري: الشيخ حسن بن محمد الإسكندري القرشي العدوي (العبدري في مخطوطتنا) المتوفى في حدود سنة 640 (أربعين وستمائة). صنّفَ من الكتب الحيل البابلية للخزانة الكاملية أعني الملك الكامل الأيوبي. موضح أستار الكلل وفاضح أسرار الحيل. ألفه حين قدومه إلى بغداد للناصر لدين الله أحمد العباسي». فمؤلف كتابنا هذا يذكر كتابه الآخر «موضح أستار الكلل وفاضح أسرار الحيل» في الفقرتين 2 و8 من النصّ المحقق هنا. وأيضًا يذكر كتابًا ثالثًا لم يذكره البغدادي، فيقول في الفقرة 197: «وهذا الباب قد استوعَبتُه في كتابي الذي سميتُه بـ«الملحمة في حل الترجمة». فيه ما يُغنِي عن أكثر كتب الأوائل في هذا الفن، وما وضعوه من هذا العِلْم. بل أذكره في هذا الباب ما يليق به، ويكمل الوضع بسببه». وحسب سياق تلك الفقرة فإن ذلك الكتاب في مجال التعمية والتشفير.
مما سبق يتضح أن المؤلف كان بارعًا في مجاله، ومتصلًا بأكبر الحكام في زمانه، كالخليفة العباسي الناصر، والملك الكامل الأيوبي، وأنه ألَّف ثلاثة كتب على الأقل.