التواصل والقطيعة .. التنافس والتباري الخلَّاق
مسيرة المشاركة والتواصل المتكافئ بين المشرق والمغرب العربيين مسيرة قديمة وحديثة معًا، طويلة وممتدة، ومتعددة المجالات، ومتجددة المعالم. قد يتوارى أو يبهت شيء من ملامح هذه المسيرة، في بعض الأزمنة، لكن لا يمكن للذاكرة البعيدة أو القريبة أن تذهب بها الأهواء، أو سطوة النسيان، أو النزوع للتنافس، إلى حدّ نكران تلك المسيرة ولا إلى درجة تجاهلها.
خلال حقب تاريخية طويلة قديمة، كما نعرف جميعًا، وينسى بعضنا أو يتناسى أحيانًا، لم تتوقف الارتحالات بين المغرب والمشرق. كان منها أسفار الرحّالين المغاربة التي ظلت تتوالى طيلة قرون ممتدة. أغلبها كان رحلات للحجّ وللمثاقفة وللتقارب وللتصاهر، ونتاجها الأدبي والمعرفي الثرّ عبر عن تجسيد، باقٍ وملموس الأثر، عن سعي إلى مناهضة تباعد المسافات التي تفرضها الجغرافيا الواحدة المترامية الأطراف. كما قدّم هذا النتاج صورًا دالة على روح ظلت دائمًا تبحث، بكل الطرق الوعرة والممهّدة، عن امتدادها في أرض بعيدة، وترنو إلى هذه الأرض؛ لكونها جزءًا من عالمها الواحد. في هذه الناحية، وضمن هذا النتاج، يمكن أن نستعيد كثرة من كتابات صاغها الرحّالون المغاربة طيلة قرون: أبو الحسن ابن جبير، وأبو عبدالله العبدري، وابن بطوطة، وأبو البقاء البلوي، وأبو الحسن علي القلصادي، وأبو سالم العياشي، والشاوي الغنامي، وأبو عبدالله الحضيكي، والشيخ ماء العينين، والحسن بن محمد الغسال، وأبو عبدالله الكناني، ومحمد بن الحسن الحجوي. وكان من بين هؤلاء الرحالة، أيضًا وطبعًا، عبدالرحمن بن خلدون الذي لا تزال «مقدمته» صامدة في وجه تقلبات الزمن وتراكمات المعرفة وتجدّدها.
هذه الكتابات، أو أغلبيتها، تمثّل وثائق وشهادات صيغت بأكثر من منظور، حول مظاهر الحياة الروحية والاجتماعية والسياسية والثقافية العربية في مراحل عدة من التاريخ، وحول الذات العربية الجمعيّة التي ظلت أطرافها، دائمًا، تطمح إلى الالتئام. وبعض هذه الكتابات، في قراءتها حتى الآن، هي قطع من الأدب العربي الرفيع.
اتصل بهذه الرحلات ممارسات انصهار متعددة الأشكال. لم تتوقف «عمليات» توطّن بعض المغاربة في المشرق، ومشاركتهم أهله. وقد تولى كثير منهم مناصب مهمة في أوطانهم الجديدة، وتحوّل بعضهم إلى «أقطاب»، في العلم والمعرفة وفي الصوفية، وفي غير ذلك.
***
طبعًا، مع أشكال التقارب والانصهار هذه، لم يتلاش الوعي «الطبيعي» بالخصوصية. في دائرة الأدب العربي القديم، كانت هناك تصنيفات لدوائر أصغر من مثل: «الأدب الشامي»، أو «أدب بين الرافدين»، أو «أدب الجزيرة العربية»، أو «الأدب المصري»، وطبعًا كان هناك «الأدب المغربي». ومثل هذا التصنيف لم يكن يعني أكثر من تحديد الدوائر الصغرى ضمن الدائرة الكبرى، من دون قطيعة أو انفصال.
امتداد الوعي بالخصوصية، بهذا المعنى، هو ما سيجعل بعض الكتّاب المغاربة، في العصر الحديث، يضع كتبًا تعمل على «توصيل» الأدب المغاربي لأهل المشرق؛ تقوم بتجميعه وتقديمه لهم، وفي الوقت نفسه تسعى لتلمّس الملامح المائزة لهذا الأدب؛ لتؤكد هويته العربية في مواجهة هوية أخرى، استعمارية، عملت على ابتلاع معالم الهوية المغاربية العربية. ومن أشهر هذه الكتب كتاب محمد بلعباس القباج المعنون بـ«الأدب العربي في المغرب الأقصى»، الصادر في نهايات عشرينيات القرن الماضي، وكتاب عبدالله كنون «النبوغ المغربي في الأدب العربي»، الصادر في ثلاثينيات القرن نفسه. وقد انطلق الكتابان من تسليم أساس: الأدب المغاربي دائرة من دوائر الأدب العربي، لا تنفصل عن مجالها الأكبر ولا تنقطع عنه.
***
بهذا كله، تصعب الإجابة بغير النفي عن أسئلة من مثل: هل انقطع، في وقت من الأوقات، التواصل الأدبي والثقافي بين المشرق والمغرب العربيين؟ هل غاب إنجاز هؤلاء عن هؤلاء؟ هل كان أدب المغرب وثقافته بعيدين عن التجاوبات المشرقية، وهل كان أدب المغرب أقل شأنًا من أدب المشرق أو العكس؟
«لا»، هي الإجابة القاطعة والمؤكدة والنهائية عن مثل هذه الأسئلة، وهي إجابة مدعومة بحركة التاريخ، وبتصورات ثاقبة ومنصفة؛ ومن بين هذه التصورات ما رآه بعض «أهل المشرق» في أدب المغرب وثقافته. كتب مثلًا عن كتاب «النبوغ المغربي»، المشار إليه، كل من شكيب أرسلان وطه حسين؛ وقد أكدا قيمة الأدب المغاربي الكبيرة، وأهمية التواصل بينه وبين الأدب المشرقي. وغير بعيد عن هذا السياق، كلمات كثيرة قالها طه حسين في غير محاضرة له، بتونس والمغرب، خلال خمسينيات القرن الماضي وما بعدها (وبعض هذه المحاضرات متاح بالصوت على شبكة «الإنترنت»)، وهي كلمات تشعر بالجميل وبالدين العظيم لما قدّمه الأدب المغاربي والثقافة المغربية للأدب العربي كله وللثقافة العربية كلها.
فيما بعد القباج وكنون وأرسلان وطه حسين، وقريبًا من سنواتنا التي نحياها، ثمة كثير من معالم المشاركة المتكافئة بين المشرق والمغرب: هناك كثير من المؤتمرات والندوات، وهناك كثير من تكامل الإسهامات، المشرقية والمغربية، في المشهد الثقافي، الأدبي والنقدي العربي، الواحد على رغم تنوعاته الفرعية، بما يستبعد التساؤل حول المسهمين في عناصر هذا المشهد: هل هم من أهل المشرق أم من أهل المغرب.
***
«الخصوصية الفرعية على رغم الانتماء الواحد»، ذلك المظهر المطروح قديمًا، هو نفسه الذي يمكن طرحه الآن. وإذا شئنا التمثيل، من بين النتاج الأدبي والثقافي المتنوع؛ فالرواية المغاربية المعاصرة، مثلًا، يمكن أن نجد فيها ما يميزها على مستوى الموضوعات والتناولات والجماليات، ولكننا في النهاية نتلقاها ونراها كما نتلقى ونرى كل رواية عربية أخرى.
وما يقال عن الرواية المغاربية المعاصرة يمكن أن يقال عن النقد المغاربي. هناك حركة نشطة، وهناك «خصوصية» فرضها التوجه لبعض إسهامات النقد الفرنسي، خصوصًا، وهو نقد أساس ومهم ضمن مناهج أو مدارس «النظريات الأدبية المعاصرة» التي ظلت اجتهاداتها تتشكل خلال عقود القرن العشرين كلها تقريبًا، في غير لغة وفي غير بلد. طبعًا، لم يكن الإسهام الفرنسي هو الإسهام الوحيد بهذه النظريات. ولكن قراءة النقاد المغاربة، بالفرنسية، قادتهم إلى إسهام النقد الفرنسي أوّلًا، ثم قادتهم إلى إسهامات نقدية أخرى، فيما بعد. ويمكن بسهولة ملاحظة اهتمام كثرة منهم، إلى حد الشغف، بمفاهيم نقاد من خارج فرنسا؛ مثل الناقد الروسي ميخائيل باختين، وبعض الأسماء المحسوبة على النقد الأنغلو/ساكسوني.
***
مع مسيرة التواصل والمشاركة المتكافئة، المشرقية المغربية، الممتدة عبر التاريخ، فقد لاحت هنا وهناك، في بعض الأزمنة، أصوات تنحو إلى القول بتأكيد التفاوت في الإنجازات بين المشارقة والمغاربة.
ولعل أغلب هذه الأصوات كان ينطلق من النزوع إلى «التنافس»؛ وجزء منه هو التنافس المحمود الذي يمكن أن يحتدم بين الأشقاء في الأسرة الواحدة، الذي يبدأ ليتلاشى سريعًا، ويقف دائمًا عند حدّ بعينه، لا يجاوزه أو يتخطّاه.
التنافس المحمود يستدعي السؤال عن التنافس غير المحمود: ما الذي يفارق بينهما؟ التنافس غير المحمود تؤسسه نزعة للنفي والاستبعاد، وينطلق التنافس المحمود من حرص على «قوة التباري الخلّاق».
آمل أن ما نسمعه مؤخرًا، من أصوات تسير في هذه الوجهة أو تلك، حول تقييم منجزات إبداع أو نقد أهل المشرق وأهل المغرب، ينتمي إلى النوع الأول من التنافس وليس إلى النوع الأخير؛ ينطلق من الميل للتباري الخلاق وليس من النزوع للنفي والاستبعاد.