محجوب كَبَلَّو: ذاكرة الاستثناء الشعري في السودان
ارتبطت قصيدة النثر في السودان، كما في غيره من الدول الناطقة بالعربية، بذاكرة تقليدية اشتغلت على إزاحتها وطردها، باستمرار، عن مزاج جماهيري عام في تذوق الشعر نتيجة لما عززته موسيقا الأوزان الخليلية، تاريخيًّا، كعلاقة شرطية لتذوق الشعر العربي العام، من ناحية، ولمكانة الشعر، أو للأدلوجة التي ربطت الشعر العربي تحديدًا، كخيار أممي ماز العرب من غيرهم من الأمم، من ناحية ثانية، ناهيك عن العلاقة التي جعلت من الشعر الجاهلي أحد المراجع الكلاسيكية لفهم التفسير اللغوي للقرآن الكريم.
أمام هذا الاستعصاء الذي ظلت ترهنه الذاكرة الشعبية للشعر العربي الكلاسيكي، عانت قصيدة النثر في الفضاء العام اختبارًا قاسيًا حيال اختراقها لذاكرة عامة عن الشعر كالتي أسلفنا الوصف فيها!
وحيال اغتراب كهذا لتلك القصيدة، عاصر رواد قصيدة النثر السودانيون -وهم قلة قليلة على كل حال- حرجًا مستمرًّا حال دون أي محاولة لإعادة تعريفهم كشعراء في مدونة الشعر العام، في ظل واقع ثقافي بدا هو الآخر أكثر مساهمةً في الإعاقة التي طالما عبرت باستمرار عن عجزها عن تحديات فك الارتباط بين ما هو ثقافي مندرج في إشكالات مانعة من تأسيس نظم إدراك لنظرية نقدية تشتغل على تسويق قصيدة النثر في الفضاء التعليمي والإعلامي، وبين الإبداع المتجاوز والمستفز الذي تقترحه قصيدة النثر كاختيار شعري حديث على الذائقة العامة لذاكرة الشعر العربي الكلاسيكي في السودان.
بين هذين الامتناعين ظل الشاعر السوداني محجوب كَبَلَّو -منذ أن أصدر مع أصدقائه بيان قصيدة النثر السودانية عبر نشر نصوص «جماعة الغجر» في عام 1971م في مجلة «الشباب» الخرطومية، آنذاك- رائدًا منفردًا يشتغل بعناية على نسج مزاجه الشعري في قصيدة النثر، من خلال نقيض شكل تحديًا مستفزًّا في كسر النسق العروضي، بكتابة صفَّت نظامها النثري عبر مجاز لم يدرجها يومًا فيما هو عادي، لكل باحث عن الاختلاف في الدهشة التي تقف عليها قصيدته، سواء من ناحية إحالاتها وموضوعاتها على هوية البناء المعكوس والمفارق للذائقة العامة من داخل نظام الاصطناع الشعري الفريد لقصيدة النثر، أو من ناحية التمادي الجسور في ترك ملحوظات بيانية أخَّاذة ولافتة على هوامش قصيدته.
شعرية من معجم خاص
أشغال المجاز الذي ينحتها كبلو للكلمات في علاقاتها الشعرية تعكس لمعةً عارية عن روح الشاعر فيما هي تخوض مغامرات جسورة من أجل خلق شعري مقطَّر وصافٍ يضع المتلقي أمام حالة متوترة لسلطتي اللغة والغواية؛ حالة تجسد الفتنة التي تجول بها نفس الشاعر في أنحاء نصه الباذخ كمعمار لتلك المجازات بوصفها محاولة دائمة للإمساك بلحظات شعرية محضة داخل اللغة والخيال، وانفعال مركَّز يراهن على بلورة المعنى بأشد الاحتمالات التي تضغطها الحواس في اللغة ليستبين معها المتلقي عالمًا مغايرًا فيما يصنعه محجوب كَبَلَّو بلحظته الشعرية الفاتنة.
في معجمه الشعري، يشتق كَبَلَّو عالمًا مفتونًا بحياة سودانية جدل فيها وعي لحظة الحداثة الشعرية داخل مجال تقليدي لملامح بلدية أحبها كبَلَّو كخيارات ومذاقات مازت تجريبه الشعري وأسست، بغير وعي ربما، لظاهرة هوية سودانية طالما انبثقت عفوًا لتضمر، فيما تضمر، اختيارات اللغة والذاكرة والتجربة في تلك الحياة العريضة التي تتجلى مفرداتها في نصوصه لتعيد بها تركيب مزاج انفرد به كبلَّو شاعرًا في الموضوعات كافة التي تنطرح بقوة ذلك الشعر لتكون موضوعًا له لا شعرًا للموضوع!
وحيال شعرية كهذه تملك، من ناحية، قوتها المحولة للكلمات والأشياء إلى كائنات شعرية ساخنة، كما تملك في الوقت ذاته، فرادة في تركيب مخصص لفاعلية خيالية جسورة، كان محجوب كبلو أكثر الشعراء أناةً -على الرغم من ريادته المبكرة لقصيدة النثر- في كتابة استغرقت منه نصف قرن من كتابة الشعر منذ تاريخ قصيدته الأولى: «نوستالجيا الاستقلال» التي نُشرت ضمن نصوص بيان جماعة الغجر في عام 1971م.
هكذا ظل محجوب كبلَّو يختبر كتابة شعرية من معجم خاص، يتركب مجازه عبر هوية لا يكاد ينفصل المعنى فيها عن دقة الكلمات الخادمة لدلالاتها في قصدية معبرة عن كثافة جاذبة للمفردات، وبطريقة قد لا ينتبه القارئ إلى مجازها المتصل بمعجم الشاعر الخاص عن مطلق دلالات الألفاظ في معجم اللغة العام. «البَرَازِيلْيَا والهواءُ يُزَيّفَانِ خَطَوَاتِكِ،/ فَأُحَدِّقُ في مَمَرِّ اللَّيْلَة،/ وإذْ لا يَتَدَحْرَجُ مِنْكِ تَسَلُّلُكِ/ يَحْتَرِقُ بِي فِرْدَوْسٌ صغير». «قصيدة ألواح الرعي».
ثمة ما يسقط هنا من دلالة المعنى العام لكلمات اللغة ليدخل في أشغال مجاز شعري شفاف لتجربة عاطفية يلحظ المتأمل فيها عبر هذه القطعة؛ ترددًا لهواجس حميمة لا يسقط إيحاؤها على المتلقي من مصدر الذات الشاعرة، بل ينعكس من حركة الأشياء الخفيفة فيما ينسج التعبير فيها سبكًا لمفردات مشهد ممزوج بخفة الهواء في اللحظة التي ينتظرها قلب ملهوف لموعد غرامي متأرجح!
إن سردية المعنى في هذا المقطع تشف عن «شقاوة» مواعيد «الحارات» التي ترسمها مجازفات الشاعر؛ فالاهتزاز والإيحاء والتوجس وإرادة الخفاء في ساعات الليل المتأخرة يصفها خيال مشبوب بعاطفة الموعد. فالحركة هنا هي حركة النفس الجائلة في باطن الشاعر والمُصَوِّرَة -عبر خياله- أحوال الموعد الغرامي ومآلات الخيبة المحتملة التي يعلقها الشاعر شرطيًّا باحتراق فردوسه الصغير حال تلك الخيبة!
لغة لا تكذب
اشتغل كبلَّو في قصيدة «ألواح الرعي» على هوية للعشق عكست إيحاءً غرائبيًّا مفتونًا؛ فالموعد الليلي، وطقس الخروج وهالة الأناقة «الشيطانية» هي حالات افتتن بها كبلَّو ليختبر عبرها ضغطًا متوهجًا في الكلمات، ناسجًا بخياله الغريب أسطورته المتماهية مع مزاج سوريالي للعشق: «كانَ سَيِّدُ المَاءِ في كاملِ أناقَتِه:/ السّتْرَةُ السَّمَاوِيَّةُ،/ المِنْدِيلُ الأحْمَرُ،/ عَصَا الطُّحْلُبِ، وقُبّعَةُ النُّعَاس». «قصيدة ألواح الرعي».
لقد ظل محجوب كبلو «مشغولًا بابتداع لغةٍ يستحيل الكذب بواسطتها» في إشارة إلى شفافية الشعر كما يقول في قصيدته «بورتريه خريفي» حيث قارب تأويلًا سورياليًّا للسياسة في شعره على نحو عبر عن الانهمام بالسياسة بوصفها مادة للشعر، يشبه ما فكر فيه الشاعر الفرنسي رامبو حين كان الأخير يشتغل على تمثيلات مرمزة للسياسة في شعره. فمقطع (الخرطوم– يناير 1956م) من قصيدته الطويلة «نوستالجيا الاستقلال» التي كتبها كبلو في عام 1971م يقارب تأويلًا للسياسة بما يكاد يتجرد عن كل ما تحيل إليه مفرداتها، إنها مقاربة تضمر انهمامها بوعي سوريالي للتاريخ يحوم حول الرموز، ويقترح بالإشارات البعيدة ليقع القارئ على الدلالات والإحالات السرية المدهشة المتكشفة في طوايا نصه الفاتن.
«لندنٌ من الشُّوكُولاتَة/ تَسِيلُ على رَبَطَاتِ العُنُقِ المُزَرْكَشَة. / أبْيَضُ، تَبْغِيٌّ، فضِّيّ»:
ألْوَانُ مَشْهَدِ السُّودَانِيِّينَ يَوْمَ القِيَامَة، وثَمَّةَ رائحَةٌ رَسْمِيَّةٌ؛ رَوَثٌ وفَنِيْكْ، تُرَفْرِفُ من أكْفَالِ خُيُولٍ لامِعَةٍ تَحْتَ ضوءِ الشمسِ؛ طاهِيَةِ العَدَم، وهي تُنْضِجُ شَعْبًا من ذُرَةٍ، على أَرْضٍ تَفْتِنُ السُّحُبَ الهَرِمَةَ لِتَتَنَاسَل: آذَانَ فِئْرانٍ خَضْرَاء؛ صِيْصَانًا خُضْرًا، دَجَاجًا أَخْضَرَ: حَصْدٌ بِمَنَاجِلِ مَكْسِيم الوَلِيد -كُمْبْرَادُورِيَّة كَرَرِي «الآن مَحَلِّيَّة كَرَرِي»ـ 1898- بَعْدَ مِيلادِ المَسِيح».
ففيما يعنون كبلو نصًّا -الخرطوم، يناير 1956م- بتاريخ واقعة استقلال السودان عن بريطانيا، يرسم مشهدًا آخر عائدًا بالزمن لأكثر من نصف قرن إلى الوراء: معركة (كرري عام 1898م) التي حصدت فيها مدافع المكسيم الإنجليزية الجديدة، آنذاك 12 ألفًا من السودانيين خلال ساعاتٍ ثلاث. فيوم قيامة السودانيين في «كرري» الذي كان يومًا داميًا لدخول «كُمْبرادورية» الدولة السودانية في الأزمنة الحديثة، سيبدو معه تاريخ المقطع (1956م) الذي رسم به الشاعر إيحاءً مضللًا، كمدخل إحالةٍ عميقة لمعنى مضمر ما وراء قناع الاستقلال في 1956م؛ معنى ينفتح على مشهد قديم لكنه ذو ارتباط عضوي بمشهد الانتظام المدني الأنيق في احتفالية استقلال 1956م، فبين لحظتين لا يُشبه شعبُ الكمبرادورية الحديثة شعبَ الذرة الحصيد الذي نضج بمدافع المكسيم تحت أشعة الشمس (طاهية العدم) في ذلك اليوم قبل 58 عامًا!
إن قوة التأويل السوريالي لمحصدة «كرري» كانت أكثر تعبيرًا عن معناها بذلك الوصف الذي اختاره الشاعر للربط بين تاريخين لا تشبه البداية فيهما النهاية، حيث الأمثولة هنا لا تكف عن اختبار دلالة متوترة بين تاريخين يشحذان ذهن القارئ بمفارقات يلتقطها الشاعر من الحدثين ليختبر الواقعة التاريخية محولًا إياها إلى واقعة شعرية غنية بحمولات العنف والذاكرة!
مختبرًا هوية الشعر الخالصة ومجربًا أقاصيه التي يقع المعنى فيها على اللفظ بحدود متناهية الدقة، لا يكف كبلو عن اكتشاف ذاته شعريًّا، فالقصيدة عنده كشف روحي يترجم عبره مجازًا مثيرًا للمخيلة إذ يضفر عوالم الوجود والميتافيزيقيا منديلًا يلوح بتعويذة العشق الأبدي. «بِغَفْلةِ البَشَرِيِّ وهو يَعْبرُ نَفَقَ الوَقْتِ/ ولا يلْحَظُ أنَّه كَوْكَبْ/ عَبَرْتُ زَمَنَ مُصَادَفَتِكِ الحَرِيرِيْ،/ نَظْرَتُكِ التي تُخَبِّئُ الآبَادْ/ على ضَوْئِها: وعَيْتُ تَرْجَمَةَ القديرِ الرِّيفِيَّةِ لِلْعَاَلمْ». قصيدة «نفق الوقت».
روح مقطرة
يقترح كبلو الشعر على الكلمات هويةً عارية عن الزوائد، فتقطير الشعر اختبارًا لتجربته في الحياة؛ عكس تمامًا ما تنطوي عليه من تكثيف لـ«جوهرانية» نادرة في قصائده، حيث الوقت صفرٌ حيال اختبار صفاء ذلك الجوهر الشعري لنصوصه مع الزمن. فإلى جانب الاشتغال على المجاز الحر بحياكة ماهرة، تلتقط نصوص محجوب كبلَّو لمعًا فلسفية مضفورةً في نسيجها، أحيانًا تأتي تفسيرًا داخليًّا ضمن اشتغال الشعر على الشعر، وأحيانًا تأتي كوصف تعبيري دال. وفي كل الأحوال يضمر التجريب في نصوص كبلو فرادةً في الصور الشعرية النادرة، فهي صور لا تعكس ندرتها غرائبيةً مذهلةً فحسب، بل ترسم انطباعًا قويًّا بحركة مغايرة لخيال يفاجئ وعي المتلقي بخلخلته الكامنة في فرادة سلطة التأثير: «شَيْخُ السُّحُبِ/ يَلْتَفِتُ ناثِرًا لُعَابَهُ في الهَوَاءِ/ فَتَحُزُّ عُنُقَهُ النُّونُ العَرَبِيَّة؛/ حَاجِبُ بَقَرَةِ الوُجُودِ النَّائِمُ من أوانٍ بَعِيدٍ/ والمُسْتَيْقِظُ الآنَ بَيْنَنَا».
إن لعاب السحب لا يفسر دلالة المطر، بل يحيل –كما يوحي ختام القصيدة- إلى فكرة مؤسطرة للوجود المستقر بين قرني ثور (وفي رواية على ظهر حوت) منذ الأزل، لكنه، في الوقت ذاته، وجود متحرك بالأسطورة الشخصية للشاعر. ذلك أن الاهتزاز الكوني الذي يرسمه الشاعر لحركة الوجود، اهتزاز مثقل برموز ودلالات دينية (هي بحسب دلالة أثر معين) معبرة عن «أهل فارس» في ترميز إلى إرادة إنسانية مطلقة لتحريك الوجود!
يستغرق محجوب كبلو في إعادة رسم الهدوء بسلاسة لا تجرح الهواء على نسق «فيرميري» (نسبةً إلى الرسام الهولندي يوهان فيرمير) في قصيدته الجميلة «أعباء خفير النائمة» حين يقول: «بِحِذَاءَيْنِ مِن هُلام. /أُعِيدُ إلى بَهْوِ أَحْلامِكِ/ طَوَاوِيسَهُ الهَارِبَةَ»، هذه الجرأة على تمثل القدرة القابضة على الشعر بما ينفخ الحياة في كلماته؛ لهي مما يقع عليه محجوب كبلو ولو بعد حين متحيزًا له إلى أقاصٍ مطلقة، ومنتظرًا وجوده النادر في نظامه الشعري، عبر تدبير معالجات نقية للمجاز في أطوار تجريب الكتابة؛ فأثر الكتابة الشعرية عند كبلو حفرٌ يبقي منه روحًا مقطرة في الكلمات. إنها تجربة انتظار الوجود المغاير في كتابة ليست للمحو أو النسيان!
يحتفل كبلو في نصوصه بمعجم شعري خاص هو جزء من رهانه الذي يتماس مع فردية حرة للمجاز في شعرنة الحياة، وهي فردية تنهل من اشتغالها الجسور على نثر عالم متشظٍّ في الأزمنة الحديثة؛ إذ لا تعكس التفاصيل في تلك الفردية اقتراحًا للشعر كمجاز للتعبير فحسب، بل كفعل ذاتي للكينونة ومصدرًا للمعرفة يجعل الشاعر رائيًا على تخومٍ تختبر الفضاء الرحب لـ«دستوبيا» الأزمنة الحديثة، جاعلًا من تفاصيل المدينة الآثمة أفقًا لمعانٍ متجاوزة، ومكتشفًا طاقة اللغة في مفردات لا يكف كبلو عن تركيبها، فيما هو يمارس عزلًا استثنائيًّا لنظامها العام في اللغة، وكاشفًا عن معنى لاستثناء شعري مدرك لـ«العناصر التي تقع في مهبِّ حساسية العصر ومتغيراته، والنابعة من مرونة الجنس الأدبي وحيويته وتطوره التاريخي وحواره الغني مع سياقه الحضاري ولحظته الثقافية الراهنة والمستقبلة» بحسب الناقد السوداني هاشم ميرغني.
فعالم محجوب كبلو يتوسل الشعر بالشعر لا بالكلمات، ففي شعره كما يقول هاشم ميرغني: «لن تعودَ الكلمة تتحدَّثُ عن الشيءِ، إنما هِيَ عَيْنُ الشيءِ». تتغيا اشتغالات كبلو الشعرية مجازفات تنتهك اللغة احتفاءً بفضح أسرار الجسد وتمعن فوائض سيلانه الرطبة، كاشفًا عن هويته في سياقات نقيضة وصادمة لتراتبية الذائقة العامة، لكن جموحه البرِّي ذاك يجعل من نسغ التجربة مزيجًا متوحشًا لمجازات وعرة في تقطير الشعر: «… عَبَقُ أرْضٍ مِنْ نَبِيذِ الذُّرَةْ/ وسَمَاءٌ مُرَصَّعَةٌ بِأزْهَارِ البِرْسِيمْ» قصيدة «فَرَسان في مضمار الفردوس».
ثمة قاموس لمزاج سوداني يحيل إليه كبلَّو، معيدًا تعريفًا خاصًّا لمعاني الألفاظ في سياق نصه الشعري من داخل المتن التداولي للعامية السودانية، وهذه الخاصية يشتغل عليها كبلَّو ليوحي، من طرف خفي، إلى ما أشرنا إليه في مقدمة هذه القراءة؛ من: «إتقان وعي لحظة الحداثة الشعرية داخل مجال تقليدي لملامح بلدية أحبها كبلو كخيارات ومذاقات مازت تجريبه الشعري».
إن نقض الدلالات المحيلة للمعاني المحايدة ينحرف إلى مجاز ذي معجم شعري خاص ينفذ إلى مشارف وتخوم جديدة للمعنى، فمجازات كبلو هي غريزة الشعر التي تفتح أبواب الدهشة على خيال القارئ من أكثر المداخل غرابةً وسورياليةً؛ إذ فيما تتحول الكلماتُ شعرًا صافيًا، تبدّل تلك المجازات لحظة وجود الشاعر في ذروة العشق إلى ماهية ناسخة لذكوريته، محيلةً إياها فريسةً خائفة من أثر الحب!
«صَوْتُكِ الذي يَتَنَاهى نَاعِمًا كالْحَرِيرْ،/ يَبْدُو لِي زَئِيرًا أحَاطَ بِغَزَالةِ الصَّبرْ».