الشعر العُماني المعاصر
كان على الشاعر العُماني المعاصر أولًا أنْ يلتفت إلى موروثه الشعري الخصب، الضارب عميقًا في التاريخ، منذ أنْ كتب مالك بن فهم الأزدي مراثيه الأولى، مودعًا أرض السراة إلى عُمان، والثانية راثيًا نفسه بعد أنْ اخترق سهم سليمة أحب أبنائه إليه قائلًا:
جزاه الله من ولد جزاءً |
سليمة إنه سامًا جزاني |
أعـلمه الرماية كل يوم |
فلما اشتد ساعده رماني |
فأهوى سهمه كالبرق حتى |
أصاب به الفؤاد وما عداني |
ألا شلت يمينك حين ترمي |
وطارت منك حاملة البنان |
كان عليه الالتفات إلى التجربة الروحية التي حظيت بمعظم الموروث الشعري العُماني؛ فالشعر في عُمان أساسًا ابن روحي للذاكرة الدينية، ومن كتب الشعر العُماني معظمهم من الفقهاء ورجال الدين، الذين تشربوا بلاغة اللغة العربية منذ نعومة أظفارهم؛ لذلك حظيت ثيمات الزهد والسلوك والندم والمدائح النبوية والحب الإلهي، بمعظم نتاجهم الإبداعي؛ بل ذهب الفقهاء أيضًا إلى صوغ دروسهم في الفقه نظمًا، أخذ من الشعر قوانين تدفقه المعروفة في العروض والقافية، بل أخذ من بلاغة الشعر العربي الجمال الذي أسبغه على تدفق معانيه وسلاستها.
الشاعر هنا ابن لخصوبة التنوع الجغرافي الذي وهبه الله لعمان، هذا التنوع الذي تشكلت عليه خصوصيات ثقافة تختلف في عطائها عن المجاورة الأخرى، وإن كانت تقف على أرض روحية واحدة. أعطت تجربة تأسيس المجتمع الزراعي العماني أساطيرها الخاصة المعتمدة على تأسيس مؤسسة اقتصادية عرفت بمؤسسة الفلج التي هي شكل من أشكال الاقتصاد الآسيوي المختلف في تطوره وتكوينه عن أشكال التطور الاقتصادي الأوروبي. لذلك جاء الشعر هنا محافظًا على خصوصيات وملامح التجربة الدينية، والتي انبثقت نتاجًا لمؤسسة الفلج الاقتصادية، المؤسسة الدينية التي أضحت مؤسسة ثقافية اجتماعية سياسية في آن واحد، هيمنت هذه المؤسسة على المخيال الإبداعي، تقل لدى المجتمعين البحري والصحراوي، إلى درجة خلق أساطير عن خلق العالم مختلفة كليًّا عما هو في القرآن الكريم، كما هو في هذه الأسطورة لدى البطاحرة، وهي قبيلة بحرية تعيش في جنوب عُمان: «هنا في البداية لم يخلق البطاحريون، ولم يوجد أحد منهم، جرى خلق رجل وامرأة، واتفقا فيما بعد بينهما على الزواج، لم يكن بينهما ملبس، اللهم سوى شعر البحر الذي ينجرف إلى الشاطئ، ثم لفَّاه حولهما، ولم يكن لديهما ما يأكلانه سوى المحار، ثم تناسل البطاحريون وتكاثروا وزاد عددهم، ولم يكن هناك غيرهم في البلاد، لقد وجدوا في الصحراء وفي البراري وعلى طول الساحل.. ولم يكن غيرهم منْ يعيش معهم.. لم يكن هناك سواهم».
الشاعر العُماني المعاصر ابنٌ لتراثه الوطني، ظلَّ ولا يزال وثيق الصلة بالحركات الوطنية التي عصفت ولا تزال بترابه، يصل به ذلك إلى أن يكون صوتًا سياسيًّا ناطقًا باسمها، كما هو في حال عدد من كبار شعرائنا، مثل الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي، الذي لا تكتمل دراسة ثورة الإمام عزان بن قيس البوسعيدي إلا بدراسة شعره، والشاعر سالم بن ناصر ابن عديم الرواحي، الذي كان الصوت الشعري الأكبر لثورة الإمام سالم بن راشد الخروصي.
كذلك الحال مع من جاء بعدهم، منذ خمسينيات القرن الماضي؛ إذ حفلت التجربة الشعرية العمانية بأصوات شعرية متعددة، عملت على تجديد الشعر العماني؛ إذ تخلصت المفردة من ثقلها الكلاسيكي البلاغي كما هو لدى عبدالله الطائي، وذهب الشاعر الكبير عبدالله الخليلي إلى كتابة المسرح الشعري، وقدم سليمان بن سعيد الكندي أول محاولة لاستخدام بحور شعرية مختلفة في القصيدة الواحدة، وحفلت موضوعات شعرهم -ولأول مرة- بالتفاعل مع ثورات التحرر العربي في الجزائر ومصر وفلسطين…
العطاء التاريخي للأسلاف
نقرأ التجربة الشعرية الراهنة، انطلاقًا من منجزها التاريخي، والصوت الشعري العماني الراهن، وإن كان أكثر اقترابًا من منجز الحداثة الشعرية العربية في عقودها الأخيرة، إلا أنه من جهة موضوعات شعره، يتميز بتدفق عطاء أسلافه التاريخي، وأي قراءة نقدية جادة له، عليها الالتفات إلى المنجز التاريخي حتى يتبين لها خصوصية وخصوبة الصوت الرثائي والصوفي، واتساع مساحة ثيمات الموت والرحيل والفراق والهجر في تجارب شعرائها.
تتسع أرضية الشعر لتشمل تجارب شعرية شابة، تكتب بأشكال شعرية مختلفة: الشعر العمودي، وشعر التفعيلة، وقصيدة النثر. هذا التنوع شكل مصدر خصوبة، تعدد الأشكال الشعرية يضفي على التجربة ثراءً، تسبب في تعايشها وعدم إلغاء بعضها الآخر؛ بل تحول بعضها من شكل لآخر، وبخاصة في توجه عدد من شعراء التفعيلة إلى قصيدة النثر، التي تشهد اليومَ انتشارًا واسعًا استقطب معظم المواهب الشعرية الجديدة…
أدى تحرر شعراء الأجيال الجديدة، واكتسابهم ثقافات فكرية وسياسية متنوعة إلى انطلاق الكتابة لديهم بوعي مختلف عن أسلافهم؛ إذ نقرأ لديهم روح الضياع والتمرد والتمزق الوجودي، وتطرح تجاربهم أسئلة متواصلةً حول معنى الوجود ومصير الإنسان به، حس الاغتراب هذا وإن كان متجذرًا فيما مضى، إلا أنه كان يجدُ ملاذه في الشعور الديني الذي وضع سقفًا لمعاناة الاغتراب وأسئلة الوجود الكبرى لدى الشعراء العمانيين فيما مضى، تجد الآن انطلاقتها الكبرى لدى شعراء التجربة الجديدة في توجهاتهم المختلفة، نحو البحث عن سر الخلق والكون ومجراته المختلفة.
المنفى الداخلي للشاعر
روح الاغتراب هذه تطال الواقع الاجتماعي والسياسي أيضًا، فشعراء التجربة الجديدة كثيرًا ما يلجؤون إلى طفولتهم، وإلى ذكريات قراهم البعيدة الريفية الهادئة، قبل أن تصل إليها جرارات الأسمنت، وتحول علاقتها الاجتماعية البريئة إلى علاقات تعتمد على المصالح الشخصية المتبادلة، وينتشر بها الولاء المزيف للسلطات الاجتماعية والدينية والسياسية المختلفة.
خلقت هذه التحولات الاجتماعية ظاهرة يمكن تسميتها بالمنفى الداخلي للشاعر، الذي وجد نفسه منفيًّا في وطنه. إلا أنَّ ذلك لم يحل دون التزام عدد منهم بروح النضال السياسي، ونظير مواقفهم السياسية دخل عدد منهم السجون مثل الشاعر محمود حمد، واحتجز عدد آخر في أروقة أجهزة الأمن مددًا مختلفة، مثل الشعراء: صالح العامري، وعبدالله حبيب، وإبراهيم سعيد، وناصر البدري، وخميس قلم، وحمد الخروصي رحمه الله.
احتفاء الشاعر العُماني بالحياة ذهب به إلى الاحتفاء بما هو محيط حوله، والنظر إلى الأشياء بحميمية بالغة، ذاهبًا إلى تفصيلاتها الدقيقة، ساردًا ذكرياته معها في ألفة، ندر التطرق إليها من قبل، كالحجارة والأشجار والأفلاج والأطلال، وكل ما ترسب في ذاكرة الشاعر منذ طفولته، معتمدًا في ذلك على القبض على المحسوس وتجريده، وصولًا به إلى عالم خفي غير مرئي هو عالم الشعر، الذي يدرك الشعراء العمانيون صعوبة الوصول إليه، مع صعوبة التخلي عن محاولة بلوغ ذراه البعيدة. لذلك فإن الشعر لأبناء التجربة الشعرية الجديدة في عمان، طريق نضال صعب وشاق، والإنجاز يكمن في عدم التخلي عن مواصلة محبته وعشق كتابته.