بواسطة محمد علي شمس الدين - شاعر و ناقد لبناني | مايو 1, 2019 | الملف
أنا السابق الهادي إلى ما أقوله إذا القول قبل القائلينَ مقولُ
أبو الطيب المتنبي
في قصيدة «لأبي الطيب المتنبي» (915م 965م) يمدح فيها سيف الدول الحمداني، ومطلعها: «ليالي بعد الظاعنين شكول طوال وليل العاشقين طويل» ينتقل إلى مدح نفسه فيقول البيت التالي: «أنا السابق الهادي إلى ما أقوله إذا القولُ قبل القائلينَ مقولُ» ولقد اتفق شراح المتنبي على القول: إنه بيت يدافع به الشاعر عن أصالة قوله وإنه غير مأخوذ من أحد قبله، كما اتهم في بلاط سيف الدولة. لكنني أريد أن أشير في هذا البيت إلى مسألة لم يشر إليها أي من الشراح، وهي انطواؤه على فكرة فلسفية أبعد من ظاهر الدفاع عن أصالة شعر. وهي فكرة أن قوله قديم في تماهٍ مع القائلين بقِدَم قول القرآن. وأن مآربه أبعد من ظواهرها.
إن قرينة كل من مفردي «السابق» و«الهادي» في البيت، وهما متعلقتان بالقدم والهداية، يشيران إلى طموح أبعد من الشعر لدى أبي الطيب. وهو بكل حال قد ادعى النبوة في سن الصبا. وعلى الرغم من أن المستشرق كراتشوفسكي يشك في واقعة ادعائه للنبوة، فإن، «أندريه ميكيل» في مقاله «المتنبي شاعر عربي» يأخذ برأي أستاذه بلاشير الذي اتخذ موقفًا وسطًا معتبرًا ادعاءه للنبوة «مجالًا لطموحاتٍ شخصية استفادت من الحركة القرمطية لكنها لا تنتمي إليها». (المقال في كتاب وقائع مهرجان المتنبي في بغداد 1977م صادر عن وزارة الثقافة والإعلام العراقية 1979م).
***
لا يمكن المرور بمجمل ما يرشح من أشعار أبي الطيب المتنبي من فلسفة كتبها في القرن الرابع للهجرة العاشر للميلاد بكل أُبَّهَتِها وعنفوانها، من دون العروج على فيلسوف القوة الألماني فردريك نيتشه الذي تعدّ فلسفته التي بثها في كتبه في القرن التاسع عشر، مع فلسفة كل من كارل ماركس في رأس المال وسيغموند فرويد في الكشف عن اللاوعي والتحليل النفسي مطلع العصور الحديثة في الغرب. ويكاد يكون هناك تطابق شبه تام بين فقرات عديدة من كتاب نيتشه الأشهر «هكذا تكلم زرادشت» الذي تكلم فيه بلغة شعرية عن فلسفته في الإنسان المتفوق والهدم، والقوة، وبين أشعار أبي الطيب. وقد نكون في حاجة إلى شيء من الاستقصاء التاريخي والمعرفي، لمعرفة ما إذا كان نيتشه قد وصلت إليه مضامين شعر أبي الطيب، إلا أن ذلك لا يمنع من ملاحظة تشابه قوي وجوهري في بعض جمل لنيتشه وأبيات للمتنبي.
يصف نيتشه كيف هبط عليه زرادشت في طبيعة خلابة عجيبة، فقد كان في شروط العافية الكبرى كما يسمّيها، وهي عافية تُرَبَّى باستمرار؛ لأنها تُستهلَك باستمرار. ويصف عنف الإلهام الذي انتابه، فيقول: إن الأشياء تسعى إليه لتمنح نفسها وتتحول إلى رموز. وقد كان يشعر بعظمة ما يكتب، ثم يتكلم عن ضغينة العظمة- تعامل الناس معه وكرههم له- وزرادشت من هو؟ إنه يصف نفسه بأنه النفس التي تملك السلم الأطول والتي بإمكانها النزول إلى أعمق الأعماق. النفس السابقة لنفسها باستمرار، النفس التي تستطيع أن تركض داخل ذاتها (نتذكر قول المتنبي أنا السابق الهادي إلى ما أقوله…) الإنسان إرادة وهدم. كما المطرقة تدفعه دائمًا باتجاه الحجر. إن لي صورة في الحجر. إن علي أن أنهي التمثال. إن نداء كونوا قُساة هو نداء ديونيزيس (ينظر هكذا تكلم زرادشت/ كتاب للجميع ولغير أحد ترجمة علي المصباحي، منشورات دار الجمل ألمانيا).
المعري 937 – 1057م
صاحب «غير مجد في ملتي واعتقادي» شاعر عقل شكاك وملغز. ولد بعد موت المتنبي بثماني سنوات، في المسرح الذي جال فيه أبو الطيب «في معرة النعمان» بجوار حلب، واهتم به فجمع مختارات من شعره سمَّاها «مُعجِز أحمد» هو شاعر عدمية سوداء، يفضل قطع النسل، ووضع نقطة على آخر سطر الخليقة. وهو سُفُسطائيّ على العموم، يمارس «جدلية الشيء في صميم الشيء» بعبارة الشيخ عبدالله العلايلي فيه في كتابه «المعري ذلك المجهول» (1944م)، الذي كشف فيه الستار عن فلسفة المعري الرامزة، المستندة إلى الحرف والعدد متأثرًا بفلسفة إخوان الصفا، الذين كان ينتمي إليهم. إن معرفته فلسفية حروفية كقوله «تواصل حبل النسل ما بين آدم وبيني ولم يوصل بلامي باءُ».
ما معناه؟
يرى العلايلي أن حرف اللام (بعرف المعري) حرف ترابي وحرف الباء حرف هوائي وبالتالي لم يوصل بوجوده الترابي الفاني نسمة هوائية لاستمرار الحياة. أي عنده انقطع النسل. أبو العلاء المعري عقل فلسفي شكاك توسل الشعر وغموضه لمآرب فلسفية. وإن رهين المحبسين وصاحب اللزوميات شك في كل شيء… وكان ينتابه ألم في عقله، شك في الدِّين «أفيقوا أفيقوا يا غواة، فإنما ديانتكم مكر من القدماء»، «فلا تحسب مقال الرسل حقًّا ولكن قول زور سطروه».
وكان الناس في يمن رغيد فجاؤوا بالمحال فكدروه».
وقد انتقد الحج والوحي وآمن بالعقل… ورأى أن هذه المسألة قديمة:
«في كل جيل أباطيل يدان بها فهل تفرد يومًا بالهدى جيل».
هذا هو الشعر الفلسفي الشكاك لأعمى المعرة الذي قاله في القرن الرابع للهجرة العاشر للميلاد، قبل شوبنهاور ونيتشه ومالارميه في الغرب.
الحقيقة الفلسفية، الحقيقة الشعرية، الحقيقة العلمية… إلخ
في القرآن حديث عن «الغيب» جاء في ابن منظور «الغيب كل ما غاب عنك…» أبو إسحاق في قوله: «يؤمنون بالغيب» أي يؤمنون بما غاب عنهم مما أخبرهم به
النبي صلى الله عليه وسلم، وقال أبو الأعرابي: يؤمنون بالله» انتهى .
واضح أن أدنى الغيب هو المستور عن الرؤية، وأقصاه المخبَّأ في ضمير الزمان، وأقصى الأقصى هو الله. إنها الحقيقية الدينية.
تبقى الحقيقة الشعرية والحقيقة الفلسفية والحقيقة العلمية وبخاصة في اللحظة الراهنة حيث تسود اللاحتمية والاحتمالية والمنطق الضبابي والتوهيم والخلل في النظام والتشظي.
هي تجليات لمستور واحد هو مستور ميتافيزيقي (الغيب) وربما جزء منها ما سماه هايدغر «العودة إلى المسافات المقفرة عبر التاريخ». هذا من ناحية إيقاع خط الغيب الناحية الثانية تتعلق بالطريقة، أي الأسلوب في السعي إلى المستور. هل الطريقة تغير الحقيقة؟ نعم ولا. الطريقة هي الحقيقة. الناحية الثالثة تتعلق بالمصطلح. فنحن في هذا الموضوع، أي العلاقة بين الفلسفة والشعر والدين والعلم، وبخاصة العلاقة بين الشعر والفلسفة، نكاد عربيًّا نحرث في أرض بكر، فهذه المجابهات بين الفلسفة والشعر لم تعرفها العربية بخلاف ما هو الحال في اليونان القديمة وأوربا في العصور الحديثة… ولذلك أسباب فإذا كانت الفلسفة على كثرة مذاهبها وتعدد اهتماماتها من البحث عن الله والمجرد والشيء في ذاته تعود إلى متابعات بنيوية وألسنية في اللغة وإلى فلسفات علمية وكوسمولوجية وصولًا إلى فلسفة التشظي والخلل والكاوس فيما يسمى فيزياء المستحيل، تعدّ الشعر من ضمن أملاكها المعرفية، أو من محميات الفلسفة، فإن ثمة تجارب شعرية كثيرة بلغات متنوعة، رأت الفلسفة جزءًا من كشوفها الحدسية الكبيرة… جزءًا سابقًا على جميع حقول الفلسفة من منطق وطبيعة وميتافيزيقا وأخلاق وعلم نفس. من خلال بروق الشعر وشذرات القصائد. الشعر حيوية فطرية حدسية قبل عقلية بل سابق على اللغة في اتجاه الغيب والمجهول…
«إن الشعر قد ولد من السحر البدائي» ( مالينوفسكي في دراسة لقبائل الماوري البدائية – جورج طومسون البدائية والشعر. ترجمة د. مسشال سليمان دار العلم بيروت 1974م ص 18).
القرآن: الشاعر والنبي
من البداية كان ثمة دقة في التسمية والمصطلح والتفريق بين (شاعر ونبي) و(شعر وقرآن) و(بيت وآية)… إلخ. وردت كلمة الشعر ومشتقاتها في القرآن في 40 موضعًا. ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ﴾ (ياسين 69) ﴿بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ﴾ (الأنبياء 5). ﴿وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ﴾ (الصافات 36). وهناك سورة الأنبياء وهناك سورة الشعراء (مكية في 227 آية): ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ {221} تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ {222} يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ {223} وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ {224} أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ {225} وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ {226} إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾ إشكالية الشعر والشاعر في القرآن هي إشكالية مصدر الكلام.
في حال النبي المتكلم في النبي هو الله ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى {4} عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ (الآية)، في الشعر
المتكلم الشياطين.
تاريخيًّا كان حسان بن ثابت الأنصاري شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد أسلم شعراء جاهليون من بينهم كعب بن زهير الذي قصد الرسول صلى الله عليه وسلم وامتدحه بلامية مشهورة فعفا عنه، ومن بينهم لبيد العامري وهو من الفحول في الجاهلية وأحد أصحاب المعلقات عمّر 157 سنة، أسلم في السنة السابعة للهجرة ومات في السنة 40. وقد جبّ الإسلام شاعريته. قيل: لم يقل سوى بيت واحد في الإسلام واختلف فيه أهو: «الحمد لله إذ لم يأتني أجلي حتى كساني من الإسلام سربالًا» وقيل: هو «ما عاتب المرء الكريم كنفسه والمرء يصلحه الجليس الصالح» وقيل: طلب منه عمر بن الخطاب أن ينشده شعرًا فأسمعه سورة البقرة فزاد عطاءه 500 درهم وكان ألفين. «ابن قتيبة – الشعر والشعراء» لم يطل الزمن حتى استعاد الشعر العربي موقعه بقوة (مثلّث النقائض الأموي الأخطل، وجرير والفرزدق) وكانوا على صلة بالبلاط الأموي. استعيدت العصبيات الجاهلية واجتيح المحرَّم الديني في ظل السلطة. كما ورد في خمريات الأخطل، وكان شاعر البلاط كما أن الشعر الحضري ازدهر على يد عمر بن أبي ربيعة القرشي المخزومي فتى الحجاز، وهو وجه مبكر لما سيكون عليه الشعر فيما بعد في العصر العباسي من وصف لكل محظور، ومن تجاوز لأي حرج ديني.
إشكالية الفيلسوف في القرآن
الفلسفة أو الحكمة يونانية، والفلاسفة المسلمون شُرّاح أقصى همهم التوفيق بين الحكمة والشريعة. بين العقل والنقل (يعتمد ابن رشد في «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال» على منهج التأويل في هذا التوفيق). «والتأويل هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية من غير أن يُخِلَّ ذلك بعادة لسان العرب في التجوُّز». ويرى ابن رشد أن النظر العقلي (الحكمة) جزء من التكليف الشرعي. النظرية الشعرّية عند الفلاسفة العرب والمسلمين منسوخة عن فلاسفة اليونان، وبخاصة عند أفلاطون ومعلمه سقراط.
أفلاطون في ظل سقراط شبح هوميروس
أفلاطون المختبئ في ظل معلمه سقراط في الجمهوريّة هو فيلسوف مُغرِض ومريض ويعاني مزاجًا فاسدًا في نظرته للشاعر والرسام. فإذا كان حاكم الجمهورية في نظره هو الفيلسوف (محب الحكمة) الحائز على اليقين (معرفة الحقيقة) عن طريق العقل، فإن معرفة كل من الرسام والشاعر تنتسب إلى التصوّر. مرتبة أقلّ وضوحًا من المعرفة وأقل خفاءً من الجهل. في المحاورة بين سقراط المرموز إليه بـ(س) وغلوكن المرموز إليه بـ(غ) في الجمهورية، يشير غلوكن إلى فئة الديونيزيسيين أو الباخوسيين (نسبة لإله الخمر والفرح باخوس) الذين لا يشهدون محاورة فلسفية بل هم سامعون مواظبون على الحفلات الديونيزيسيّة. إنهم فلاسفة زائفون.
يصل الحوار بين سقراط والصدى الببغائي المسمّى غلوكن إلى أن الفنّ مضحك وأداة للتسلية المضللة. يورد غلوكن الحكاية التالية: «إنك تذكرني بأحجية التضاد التي تتلى على موائد الطعام للتسلية. تقول الأحجية: قيل إن رجلًا ليس برجل رمى وما رمى طائرًا وليس بطائر جاثمًا وليس جاثمًا على غصن وليس بغصن بحجر وليس بحجر…» وهكذا للدلالة على الموجود والمعدوم في وقت واحد.
س: نحن أبرياء في وضعنا الشاعر مع الرسام فإنه يشبهه في إيراده التفاهات إذا قيست بمقياس الحقيقة… فنحن أبرياء إذا حظرنا دخوله الدولة الراغبة في أن تتمتّع بنظام حسن؛ لأنه يثير قسم النفس الحقير ويقيه ويشدّده. تبعًا لسقراط: هناك الله، الفرّاش (المنجد) الرسام. الله موجد، الفراش مقلّد (ونافع) الرسامُ مقلد المقلد (وغير نافع).. على هذا المنوال تجري محاورات أفلاطون في الجمهورية.
لقد أهمل فلاسفة اليونان أثينا القدماء أصل الحياة والرغبات والغرائز ونظروا فقط للعقل… فأسقطوا من حسابهم نصف الإنسان وأسقطوا معه الشعر. وكان لا بد من أن يمضي وقت ما، لكي ينقذ هايدغر ونيتشه في الغرب الشعر من براثن الفلسفة اليونانية.. من خلال الانتباه إلى دور اللغة في قول الوجود، وأنّ الفنّ خلق فني وليس تقليدًا أو محاكاة.لكن الذي أعاد الشعر إلى حمى القرآن هم الصوفية في الإسلام وفي طليعتهم الرحالة الأندلسي الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي الذي ولد في مرسية 1165م وتوفي في دمشق 1240م، ودفن في سفح قاسيون… في مجمل كتبه ورسائله وبخاصة الفتوحات المكية وترجمان الأشواق؛ إذ ألحق الشعر بالسماع وعدّه ابن الخيال الذي يوجد الشاعر به ما لم يكن موجودًا، وبذلك يكون على صورة الخالق.
اللحظة المتحوّلة للشعر: بروق وشواظ الحداثة
ماذا عن علامات التحوّل الشعري في العربيّة؟ وكيف سار الشعر من الانتظام إلى الأسطرة، فالخلل، فالفوضى الشعرية، إلى هباء الإشارة الإلكترونية؟ وما الفلسفات التي اعترته مع عصور الحداثة وما بعدها؟
من جديد، تكاد تكون الحراثة الفلسفية في الشعر العربي الحديث والمعاصر حراثة في أرض بور. لا ننفي أن شعرنا من أواسط القرن التاسع عشر خضع لتأثيرات غربيّة اشتدت وطأتها في أواسط القرن العشرين مع شعراء الحداثة الأولى ومن جاء بعدهم حتى اليوم. لذلك فأي قول نقدي فيه سيكون ملزمًا بحضور الشعر الغربي وبالنظرات الفلسفية التي تجلّت في مدارس كالوجودية والبنيويّة والتفكيكية وفي موجات كالدادائية والسريالية والضبابية… إلخ.
مسألة «موت الشعر» في الغرب انطلقت مع هيغل برِدَّةٍ أفلاطونية في كتابه علم الجمال (1832م).. وتوالت قداديس جنائزيّة لكل الفنون.. جاء ذلك بعد حيويّة فلسفيّة تجاه الشعر من كاسيوس لونجينوسم 273م ومذهبه في «الجليل والممتع» وانتباهه لإثارة الحماسة الداخلية في الشعر إلى روسّو متوفّى عام 1778م ونظريته في «المتوحش النبيل» إلى الرومانتيكيّة الفلسفيّة والشعريّة في ألمانيا في مزجهم بين العقل والخيال والحدس في عمل كلي يلامس الإشراق. استضاءة بما قام به كانط (1804م) في عده الشعر مواءمة بين الضرورة والحريّة، وشيلنغ (1854م) في اعتقاده أن الشعر يكمّل الفلسفة ويتخطاها لا ننسى بودلير في سويداء باريس spleeing de Paris وأزهار الشر les fleurs du mal أو المرض… «كانط» ركّز على المتعة الجمالية وشيلر (1805م) عدّها مجانيّة كاللعب ومالارميه (1898م) قرّب الكلمات من المطلق، ودفع به الشطط إلى التعالي على الخلق الإلهي. كل ذلك سبق اللحظة الأخيرة المشوّهة والمتعتعة للشعر والفن (ينظر: كتاب خليل حاوي فلسفة الشعر والحضارة، تحرير وترجمة وتقديم ريتا عوض، دار النهار للنشر 2002م). إنها ثمار ما بعد الحداثة في التفكيك والتعفّن في اللوحة والقصيدة والمسرح والموسيقا، كأنّ الحضارة بعد أن تبلغ الذروة تنكفئ إلى نفاياتها. فإذا كان شعر، فلماذا لا يكون لا شعر؟ وإذا كان فنّ، فلماذا لا يكون لا فن؟
في التشكيل والرسم رسم الشاعر والرسام بول بيلهود صورة سوداء سماها «زنوج يتقاتلون في غرفة الليل». وهي مربّع أسود. ألفونس أليه طوَّر فكرة بيلو الفكاهية في عام 1883م، فوضع رسمة سمّاها «تجمّع لنساء في الثلج» وهي «مربع أبيض» وفي العام الذي بعده وضع المربّع الأحمر.
المستقبلي الروسي كان كازيمير ماليفتش عرض في عام 1915م في بتروغراد رسمة «مربع أبيض على لوح أبيض» مع بيان يقطع من خلاله مع الحركات الجمالية. سمّى نفسه «رئيس الفراغ» وصرّح بأنه يريد قتل فنّ الصورة. توالت بعد ذلك مفاهيم تطبيقية وتنظريّة على التخلّص من الفنّ». وتواطأ على ذلك شعراء ورسامون وفلاسفة (ليبنز يقول: لماذا يوجد شيء ولا يوجد لا شيء) ومسرحيون ومخرجون سينمائيون وموسيقيون. هذه هي اللحظة الراهنة للشعر والفنّ في العالم. (ينظر: برنارد ماركاديه هذه النهاية التي لا تتوقف عن الانتهاء، مجلة الآخر صيف 2011م)، فماذا عن علامات التحوّل الشعري في العربية؟
من جديد علينا أن نؤسس. ثمة في الشعر العربي الحديث والمعاصر بروق فلسفية لا بد من كشف الستار عنها، ثمة أعماق بعضها يتصل بالغيب الديني، وبعضها بالأساطير والأقنعة، وبعضها بالأحلام والرؤيا وباللامعقول… إلخ وهي حقول شديدة الخصوبة ومليئة بوعود للحصادين.
يقول صلاح عبدالصبور في قصيدة مذكرات رجل مجهول من ديوان تأملات في زمن جريح: «إن كنت حكيمًا نبئني كيف أُجَنّ كي ألمس نبض الكون المجنون». هل يمكن أن تنطوي هذه الشذرة الشعرية لعبدالصبور على ما يُسمَّى فيما بعد الفلسفة القديمة بالتشظّي والشواش الكوني؟ (ينظر كتاب د. سامي أدهم «ما بعد الفلسفة، الكاوس، التشظّي الشيطان الأعظم»).. الفوضى والنظام والكاوس كما يصوره دافيد ريول في كتابه: «DAVID ruelle، hazard et chaos. Points، Odile، Jacob 1991»
الأمر الخطير فيما بعد آينشتاين، هو الانتباه للمصادفات في المنطق الضبابي، للاحتمالات.. تلك التي رفضها آينشتاين؛ لأنه «لا يريد أن يجعل الله يلعب النرد في خلق العالم». كما يقول: (مثال الموجات البحرية الناعمة التي يمكن أن تتحول إلى عواصف، ومثال جناح الفراشة المتحول في آخر القطب إلى عاصفة)… إنّ جملة عبدالصبور الشعريّة جملة موحية على ضوء ما ذكرنا وهو القائل في القصيدة نفسها: «الحمد لنعمته من أعطانا هذا الليل/ والظلمة فوق مناكبنا ستر وغطاء» «الحمد لنعمته من أعطانا ألّا نختار رسم الأقدار».
في قصيدة صغيرة بعنوان «بكائية» من ديوان «الذي يأتي ولا يأتي» لعبدالوهاب البياتي، يستبطن فيها البياتي حب الشاعر الفارسي عمر الخيام لعائشة التي ماتت ودفنت في سرداب من سراديب نيسابور. يعود الشاعر ليسأل عنها لظنه أنها قد تكون عادت للحياة، وحين يؤرّق حارس العالم السفلي بأسئلته، يقول له الحارس:
«عائشة ليست هنا/ ليس هنا أحد/ فزورقُ الأبد/ مضى غدًا/ مضى ولم يعد».
المسألة تمسّ الغيب والموت والحياة. لكنّ العبقريّة الشعرية للبياتي هي في افتراضات السفر في الزمن من خلال الصيغة اللغوية.
ومن خلال «زورق الأبد/ مضى غدًا» استعمال صيغة الماضي للمستقبل في الحركة. في النسبية ثمة 3 افتراضات للسفر بين نقطتين:
الأولى: سافِر الآن تصل غدًا.
الثانية : سافِر الآن تصل الآن.
الثالثة: سافِر الآن تصل البارحة.
والعنصر المحدد لهذه الأسفار والأزمنة هو عنصر السرعة. سرعة الصوت وسرعة الضوء. وهو ما يجعل مثلًا غد المسافر (أ) بارحةَ المسافر (ب). رحلة البياتي الشعريّة جزء من رحلة السنوات الضوئيّة.
وهو برق من بروق الشعر التي سبق بها الشعراءُ العلمَ والفلسفةَ.
بواسطة محمد علي شمس الدين - شاعر و ناقد لبناني | أغسطس 30, 2016 | الملف
محمد علي شمس الدين
البحث في الشعر العربي اليوم، كالشعر نفسه إشكالية مفتوحة على مصراعيها، بل هي إشكالية الإشكاليات جميعًا؛ لأنها التعبير الراهن، باللغة الشعرية، عن تأجّج الصراع على الهوية. في عالم وحلي مفترس، وفي رياح التوجس والتوحش.. إن الحرية والذات والموت والمقاومة، شأنها شأن الخبز والنفط والماء والتراب… شأنها شأن الحب والخديعة والخوف والضجر… هي مسائل لا تستطيع القصيدة العربية الراهنة، مهما كانت خاصة وخفية، هامشية أو هاربة… لا تستطيع الإفلات من شباكها. فأنى لذبابة الشعر الذهبية الطائرة هذه أن تفلت من عنكبوت الحصار؟
المشهد الشعري الراهن
من العصر الجاهلي كانت جماعات العرب ترى القصيدة جرحًا من جروحها في الغيب الصحراوي الطويل، وسابقت القصائد بعد ذلك الجيوش الغازية في الفتوح، واختلطت بالشعوب، وتغربت وشهدت نهوض العواصم وسقوطها، ثم جلست على عتبات العصور لتنوح مناحات الشعراء الطويلة. فمن خصائص العرب، على ما رأى ابن خلدون، تحطيم الهدايا وتخريب العمار، هكذا تنفتح الستارة على المشهد العربي الراهن. والراهن يمتد لسنوات طويلة تعد بالعشرات. فالشعر الذي كان صدح في حناجر متعددة في أواسط القرن السابق، على عادته التاريخية، ما لبث أن تمزق وتشرد في بلاد كثيرة وبعيدة، واندس في لغات أخرى. يلوح لي أحيانًا مشهد الشعراء العرب المتسكعين على أرصفة عواصمهم أو عواصم العالم، أشبه ما يكون بأحصنة تموت على أرصفة بعيدة. تعرف مرام مصري (شاعرة سورية من اللاذقية تقيم الآن في فرنسا) نفسها بأنها شاعرة فرنسية من أصل سوري. ويعرف سعدي يوسف نفسه بأنه شاعر بريطاني من أصل عراقي. وشاعر فلسطيني بأنه شاعر هولندي من أصل فلسطيني.. وهلم جرًّا. حسنًا، المسألة ليست أخلاقية على ما يظن. هي أشد وأصعب من ذلك. إن من الشعرية أحيانًا إعلان اليأس حتى من الشعر نفسه، ذلك الذي سماه الماغوط «الجيفة الخالدة» وأعلن كرهه له في لحظة احتدام المشهد الدموي على بوابة لبنان. لكن الانحلال التام لهوية الشاعر مسألة فيها نظر.
بعض الهويات العربية الآن تقتل أصحابها لتنجب من جثثهم أشخاصًا آخرين ذوي ملامح خلاسية أو مختلطة، وأحيانًا مشوهة وعجائبية، ومع ذلك فالشعر مسؤول عن كل شيء، والمسؤولية هنا ليست أخلاقية ولا سياسية، إنها أخطر من ذلك. إنها مسؤولية وجودية؛ لأنه في الشعر واحتداماته تتجلى علامات الصراع على الوجود. فالشاعر ليس حارسًا على باب الأخلاق لكنه بالتأكيد حارس على باب الهوية. ومن ألف عام خلت قال الأصمعي: «الشعر نكد بابه الشر، فإن دخل في الخير ضعف»؛ يقصد الصراع.
اللحظة الراهنة
الإمساك باللحظة الشعرية الراهنة عمل متقص وصعب، يقتضي إرهاف الحواس جميعًا لإيقاع الحياة الدائرة فينا وحولنا من خلال اللغة والاستعارة الشعرية؛ من النملة الدابة على التراب إلى المحراب… ومن انتظام الشوارع والمدن إلى الخراب… فلكل شيء لغة، واللغة هنا تتجاوز مفهوم التقليد والقاموس لتندرج في سيميولوجيا الإشارة العلامة (signe) وبمقدار ما هي اللحظة الشعرية لحظة إشارية برقية وحسية.. إلا أنها أيضًا إشارة في الروح، بارقة ميتافيزيقية، وما يقوله بريغوجين «نال جائزة نوبل في الكيمياء عام 1977م) المتوفى 2003م في كتابه «بين الزمن والأبدية» يصح عن الشعر صحته على العلم: «إن الكون ينتج عن حالة عدم استقرار خلاق يمكن له أن يتكرر إلى ما لا نهاية. وهنا نرى الأبدية».
مع التطور تغدو علاقة القصيدة باللغة أكثر تفوقًا وخصبًا. هذا التطور الذي يصل اليوم إلى اللحظة العنكبوتية للعالم؛ الإشارة والبارقة والرقم وما إلى ذلك، ما يجعل الشعر من أكثر الفنون قلقًا. وما نشهده اليوم هو التحول في مفهوم اللغة وانتقالها من البلاغة الكلاسيكية إلى برق الإشارة، ومن مفهوم الوزن إلى متاهة الإيقاع؛ إذ يختلط النسق بالفوضى، والشعر بالنثر، والشاعر بالمتلقي. حتى إن باحثًا هو الدكتور نبيل علي اقترح تغيير اسم المتلقي الحديث إلى «المتلكي»، ونشأت مع التطور الإلكتروني قصائد الفيسبوك، والقصائد الفورية، ونص الموبايل، والنص الجماعي، والنص الرقمي التفاعلي أو الهايبر تكست… هي تجارب كثيرة على كل حال. تحاول اليوم أن تغير من مفهوم ارتباط القصيدة باللغة والوزن والإيقاع وهو ارتباط تاريخي وثني أو ديني إلى حدود كبيرة. وتسعى لاعتبار الشعر هباء الإشارة الإلكترونية. إنها تحاول…
من خمسينيات القرن الفائت إلى اليوم
نازك الملائكة
في خمسينيات القرن الفائت، وعلى وجه التحديد في عام 1949م، قالت نازك الملائكة في مقدمة ديوانها «شظايا ورماد» الصادر بطبعته الأولى عام 1945م: «لن يبقى من الأوزان القديمة شيء؛ فالأوزان والقوافي والأساليب والمذاهب ستتزعزع قواعدها جميعًا». وكأن هذا الحصان الجامح للشعر العربي الذي أطلقته نازك الملائكة، كان أكثر شراسة ومغامرة ممن أطلقه، فما لبثت أن ترجلت عنه لينطلق هو بأكثر مما تنبأت له صاحبته الأولى… وليصل في جموحه إلى اللحظة الشعرية العربية الراهنة. لحظة التبدد الخطير وانفلاج دم القصيدة وتحلل أعضائها، لحظة التفتيت الهائلة.
تحركت القصيدة الحرة العربية بعد نازك والسياب والبياتي والحيدري مع جماعة مجلة شعر وشعراء مجلة الآداب بكل أساليبها ولغاتها على أرض واسعة مفتوحة كثيرة الفسوخ والمطبات. وقد ظهر الصراع الأسلوبي في القصيدة العربية الحرة والحديثة قريبًا مما قاله عبدالقاهر الجرجاني حول «الجمع بين رقاب المتنافرات» القصيدة تحاور ذاتها وتحاور سواها على امتداد الرقعة والزمن. إن من أسباب انفجار البنية الإيقاعية، إضافة إلى تطور الحياة غريزة التجاوز أو التغيير بسبب الملل. إن الضجر من الإيقاعات القديمة أدى إلى ولادة القصيدة الحديثة ولم لا؟ دعك من تسمية التجديد بالمروق واللعنة والفضيحة… إلى غير ذلك، إنه بكل بساطة الجديد. وهو صراع على سلطة اللغة التي هي سلطة الحياة نفسها. لم تشأ مثلًا جماعة مجلة شعر اللبنانية أن تتسلم السلطة الشعرية الجديدة بسلاسة؛ بل سلكت أساليب عرفها الغرب فيها التشويش والتخريب حتى القتل (المعنوي). ولم لا؟ كل تجديد خروج على النسق ORDRE من خلال اللانسق DESORDRE. يسمونه بالفرنسية الكاوس أي الخلل أو الفوضى في النظام. والعبارة علمية أكثر مما هي أدبية أشار إليها عالم الكيمياء بريغوجين.
اهتم جان جينيه في الغرب بالمرضى والمهمشين والشواذ. وهو ما تحاول علوم ما بعد الحداثة في الطب والفلك والفيزياء والرياضيات الانتباه إليه اليوم، ونحن نرى في العربية أن الخروج على الأصول قديم. وجد الباحثون في الشعر القديم 13 نصًّا خارجًا عن أوزان الخليل بن أحمد الفراهيدي؛ من بينها قصائد لشعراء فحول كما ورد في لامية لامرئ القيس، وفي بائية مشهورة لعبيد بن الأبرص مطلعها: «أقفر من أهله ملحوب فالقطبيات فالذنوب» رأى ابن رشيق أن القصيدة غير موزونة. كذلك ميمية للمرقش الأكبر، ولامية لعدي بن زيد العبادي، وأبيات لأمية بن أبي الصلت، كلها صنف في باب الشاذ والمختل والمضطرب، وهي لشعراء فحول. حتى إن شاعرًا متواضعًا كأبي العتاهية كان يقول: «أنا أكبر من العروض» ويعلل ذلك بمحاكاة شعره لأصوات يسمعها «يراجع كتاب الإبداع العربي للدكتور عبدالمجيد زراقط، وكتاب الاختلالات العروضية في السكون المتحرك للدكتور علوي الهاشمي، اتحاد الكتاب في الإمارات، 1992م».
فإذا كان الشعر العربي الحديث بأساليبه وأشكاله ولغاته يتركب من أنظمة إيقاعية متاّلفة أو متنافرة… وفيه كثير من الخروج عن القاعدة، فلم لا؟
محمود درويش
القصيدة الجديدة. أجيال وتجارب جديدة
«وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة» «سورة يوسف، الآية 67». التجربة الشعرية العربية الحديثة والمعاصرة حقل خصب ومتنوع في الإيقاع والأسلوب. لكنه يكاد يكون حقلًا مهجورًا، وهو حقل متطور أيضًا من حيث المعاني. من وجهة النظر الموازية الفكرية والنقدية. لن تعثر سوى على اسم واحد ابتكر مفردة هي مفتاح قصائد بدر شاكر السياب الخائفة الرحمية الملتجئة للموت أو الكهف، كمخرج من ظلمات الحياة ومن خراب الجسد المرضي، هو إحسان عباس. قال باختصار: «قصائد السياب قصائد كهفية». لكننا لو نظرنا إلى تجارب شعرية ضخمة كتجارب أدونيس والبياتي والحيدري وعبدالصبور وأنسي الحاج والماغوط وخليل حاوي مثلًا، وهم من الرياديين الأوائل، فأي عمارة نقدية أو عمائر نقدية نشأت في مقابلهم؟ أقصد هنا مقارنة افتراضية تتناول سطور الحداثة الشعرية الغربية وما رافقها من تطور فكري فلسفي في العمارة النقدية، فالمستقبلية والدادائية والسريالية مثلًا، كما الوجودية، تساوي تناظرًا مزدوجًا في وقت واحد: الإبداع الفني المتنوع من شعر ورسم ومسرح وسينما وغير ذلك. والإبداع النظري المرافق في الفكر والفلسفة. سارتر روائي وفيلسوف وجودي في وقت واحد. وفي مقابل بروتون وإليوت وإيلوار ورينيه شار وأراغون، سنجد رولان بارت وجوليا كريستينا وتودوروف…
على حين أن طائر الإبداع العربي يكاد يحلق بجناح واحد، جاء أمل دنقل بين شاعرين معدودين في مصر؛ صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي، جاء بشعر حاد وكابوسي وغرائبي.
وهو شاعر جنائزي عمل على ذلك «الإلماح البودليري الذي يصل ما بين الغناء والرغبة» «ع. بيضون السفير عدد 30 مايو 2003م»، وينطوي على شطح سريالي وصورية سينمائية تعبيرية وحشية توازن بين الانتهاك والمخيلة السوداء. نلحظ في شعر أمل دنقل قسوة هائلة كفأس قاطعة. وشعره كضريح من بلور وعظام مسننة. فيه مزاج السم (كداء ودواء) كما وصفه الأبنودي. ولد عام 1940م، ومات بالسرطان في جسد الهزيمة العربية. في أشعاره شحنة نقدية يتفجر العذاب والنواح في خلايا النص. يقف عاريًا ويعري البلاد المهزومة، وبدأ يضرب ضرباته القوية منذ قصيدة «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» في 13 يونيو 1967م؛ حيث أدخل التاريخ في قصيدته لا كورود حجرية بل كألغام قابلة للتفجير، نقل أمل دنقل تجربة التأمل الميتافيزيقي لعبدالصبور من الغيب إلى التراب، إلى صعيد مصر والشوارع والمقاهي والناس. وشعره وإن كان هادئًا في شكله وتركيبه ولغته، إلا أنه في العمق صاخب وقادر على لغم الصورة بكلمات قليلة «الزهور تحمل أسماء قاتليها في بطاقة» واستعمل الأقنعة التاريخية؛ ليقدم قصيدة عربية حديثة مشحونة ونقدية.
يشيد محمود درويش بالتجربة اللغوية في دواوينه الأخيرة «لماذا تركت الحصان وحيدًا» و«كزهر اللوز أو أبعد» و«جدارية» إلى مناطق جديدة من خلال التدوير الإيقاعي والقوافي في القوافي، ويكتب القصيدة كلعبة لغوية بارعة؛ حتى يتحول شعره إلى نقر إيقاعي في اللغة. يقول في الجدارية: «واسمي إذا أخطأت لفظ اسمي بخمسة أحرف أفقية التكوين لي/ميم المتيم والميتم والمتمم ما مضى حاء الحديقة والحبيبة حيرتان وحسرتان/ ميم المغامر والمعد المستعد لموته الموعود منفيًّا مريض المشتهى/ واو الوداع، الوردة الوسطى/ ولاء للولادة أينما وجُدت، ووعد الوالدين/ دال الدليل، الدرب، دمعة/ دارةٍ درستْ، ودوري يدللني ويُدْميني وهذا الاسم لي/ أما أنا وقد امتلأت/ بكل أسباب الرحيل/ فلست لي/ أنا لست لي/ أنا لست لي».
في التجربة الشعرية العربية المؤسسة على الإيقاع الوزني من بعد الرواد، نذكر تجربة الشاعر السوري عبدالقادر الحصني وهو في مجموعته «كأني أرى» «من منشورات اتحاد الكتاب العرب 2006م» يضرب على وتر عميق وصاف كعيون الماء في الجبال «دعاني إلى نفسه بالذي يستطيع من النخل والورد/ أهرق جرة خمر بروحي/ وسرح غزلانه في سفوحي/ ونادى علي بأوصافه في المرايا/ فكان كأن سواه ينادي سوايا/ وقال أقل وأكثر/ ولكنني لم أكن أتذكر/ نصف الحقيقة أني رأيت/ ونصف الحقيقة أني نسيت» «من قصيدة ماء كوثر». هذه النماذج المتنوعة التي إذا شددناها لآخرها على صعيد عربي «وأستثني التجربة اللبنانية وهي خصبة» تصل آنيًّا إلى الشاعر الشاب الفلسطيني المقيم في الإمارات عبدالله أبو بكر، والسعودي المقيم في الولايات المتحدة الأميركية إياد الحكمي تبين أن البنية الإيقاعية للشعر العربي في لحظته الراهنة المؤسسة على الوزن والتفعيلة هي بنية متطورة بخاصية الخصب والتوليد.
فاضل العزاوي
في الجهة الثانية من التجارب الشعرية الجديدة، وبفسحة واسعة من حرية التجريب، بسبب التحلل من الوزن والقافية، نعثر على حساسيات شعرية كثيرة مفارقة كليًّا أو جزئيًّا لحساسيات آباء قصيدة النثر العربية. مخففة مهمشة طريفة أو ساخرة يومية ومن دون ادعاءات بنيوية، بشرية وأكثر يومية. قصائد منازل ومقهى وشارع ومكتب ويدوية أكثر مما هي ذهنية نثرية، إخبارية أكثر مما هي غنائية أو بلاغية؛ وأكثر مما هي أخلاقية وتبشيرية. وفي بعض الأصوات الأخيرة مثل سوزان عليوان نعثر على بصمات الإنترنت وظلال الأرقام والإشارات وفي نصوص الشاعر المصري الشاب عماد أبو صالح نعثر على روح متصعلكة مشردة ومتمردة أيضًا «خراف راقدة تلمس ضوء القمر المخنوق/ نسوة جالسات على العتبات/ ينظرن بفرح/ للجلاليب المشنوقة على المسامير/ ويتخيلن الأزواج داخلها» من قصيدة ليلة الدلتا من مجموعة «كلب ينبح ليقتل الوقت» طبعة خاصة ومحدودة القاهرة 1996م. وقصائد هذا الشاعر تفيض بألم كاسر عبثي وفائض عن الاحتمال. إصداراته على العموم خاصة ومحدودة وهي: عجوز تؤلمه الضحكات/ جمال كافر/ مهندس العالم/ قبور واسعة/أنا خائف/ كلب ينبح ليقتل الوقت».
سركون بولص
في العراق انفرطت البلاد. وشكلت تجربة فاضل العزاوي في ألمانيا، وتجربة سركون بولص في نيويورك ما يمكن أن نسميه التشظي الشعري ودمار الأصل، فاضل العزاوي يفرع القصيدة ويكرها كشريط تسجيلي من صور وإيقاعات… وسركون بولص يمزق الجملة الشعرية تمزيقًا يشبه تمزق الجسد العراقي المتناثر في الديار البعيدة… وتتحول اللغة في شعره إلى قشعريرة. وقد استخدم الرسوم والأرقام والدوائر وقطع الكلمات تقطيعًا في الجملة من أجل العبور إلى الجهة الثانية من الكلام «بقول جلال الدين الرومي» إنه يكتب الكتابة المضطربة للمعنى.. المعنى العابر الذي كما يقول «دائمًا يدخن منتظرًا». وفي قصيدة «حانة الكلب» بصمات من آلية أميركية تظهر في التقطيع والرصد العددي واستعمال الأرقام والصورة الهندسية البصرية.. يكتب «قصيدة اللكمة» حيث لا جفن عاطفيًّا للشعر. وفي قصائده ما نسميه سرد السرد، والشعر ضد الشعر، وبرمجة كتابية للنص،وهو ضغط من الآلية الأميركية على أصابعه. أحيانًا يفلت من خلال استخدام الميثولوجيا أو الثيولوجيا «لو كنت في مركب نوح»، ويلجأ إلى إشارات شبيهة برقم أور وإيماءات من مشرق سعدي الشيرازي «بين القصبات المحطمة طائر أحمر يجري أو يحلق نحو نقطة مجهولة»… «قصيدة مشهد باتجاه واحد».. لكن كل ذلك هو شكل من التذكر في النسيان.
إياد الحكمي
عمدًا لا أخوض في التجربة الشعرية اللبنانية وهي خصبة قبل الرواد وبعدهم حتى الآن. إن لي فيها بحثًا منفصلًا على حدة. كذلك التجربة السعودية عبر أجيالها، وتدخل في هاتين التجربتين إلى جانب الفصحى العامية والزجل في لبنان والشعر النبطي في المملكة.
يسعى السوري بندر عبدالحميد لاسترجاع ابن الموسيقا المجنون «العصفور» في شعره وفي الطرف المقابل يقف الشاعر السوري نوري الجراح شاعرًا دراميًّا بالحس والمعنى. قصائده كاللهاث. يقول: «لأنني مجوف وسهل الاصطياد/ لم يبق من السلم على السلم غير زلة القدم» «من قصيدة السم في المطر»، ويرى أن الشاعر «يولد انتحاريًّا ويولد منتحرًا» «موقع جهة الشعر على الإنترنت». ثمة ورثة يظهرون في زمن غير شعري. يكتب الفلسطيني زكريا محمد: «عبأنا مصايرنا في أكياس ورميناها في الشاحنات». ويقول في ضربة شمس «المؤسسة العربية 2002م»: «بكاؤنا يخصنا». كثيرون يطبعون دواوينهم على حسابهم بنسخ محدودة، يوزعونها باليد على أصدقائهم أو ينشرون قصائدهم من خلال مواقع الإنترنت، يقدمون حساسيات شعرية مؤلمة ونفاذة وخاصة. يقول مازن معروف في ديوان له بعنوان «الكاميرا لا تلتقط العصافير» دار الأنوار 2004م: «والعصافير أيضًا تتغوط/ والمطر أيضًا يتسبب بفيضانات الصرف الصحي/ وأنا وأنت عكروتان تحت شجرة مليئة بالغبار والحشرات. (من قصيدة غرنكا) إنها كتابة أولية وخاصة. يقول: «أمتطي رأسي كمن يمتطي بغلا» وهي نصوص قصيرة مكتوبة بتقنية الصنارة في متابعة السمكة واصطيادها. وهي تصلح قصيدة نثر وقصة قصيرة مثل قصيدة الرصاصة: «رصاصة طائشة بعد أن عبرت غرفة الجلوس/ فالمكتبة فممر البيت/ فالصورة التي تجمعنا في رحلة نهر الكلب/ فالغسالة الأوتوماتيكية وأمي المرهقة/الرصاصة أحنت قليلًا مسارها/ بفعل الجاذبية/ واستقرت بأسفل رأسي في الخلف».
عبدالله أبو بكر
القصيدة ميتة والشعراء متسكعون
في بعض قصائد النثر تختلط القصيدة بالقصة القصيرة وأحيانًا بشذرات الفيسبوك. غالبًا ما يرتفع السؤال: إنه زمن غير شعري. القصيدة ميتة والشعراء متسكعون على هوامش المدن والمنافي ولاجئون إلى الشبكة العنكبوتية. نعم، هذا صحيح. لم تعد الكتابة مهنة مشتهاة، وغاب ذلك الافتتان السابق بفكرة النخبة. لم يعد العمل التشكيلي مثلًا، صاحب سطوة. لا تجد الآن الشاعر النجم. وربما انكفأت الفنون الجميلة من شعر ورسم ومسرح ورقص تجاه النفايات… لم تعد لوحة كلوحة رامبرانت أو غويا أو فلاسكيز أو بيكاسو أو دالي تفعل فعلها. صارت تقنيات السعر والغاليريهات تتحكم باللوحة. وغدت الفنون هوايات خاصة «لا ضرر فيها»، أما أن تجمع الجميل والمفيد معًا أو الجميل والجليل على غرار ما كان يحصل في الماضي فأمر من الصعوبة بمكان. فلا بد من الاختيار، فإما الجميل الصعب الخاص والمعزول، وإما السريع المفلوش على الشاشات والعابر كفقاعة ماء.
مازن معروف
من المهم الإشارة كما يقول الشاعر والناقد الأميركي «ويستن أودن» في كتابه «محنة الشاعر في زمن المدن» (ترجمة سهيلة أسعد نيازي) إلى أن التطورات التقنية الاستهلاكية والاتصالات كونت مساحة بشرية جديدة لا تنطوي تحت خانة المساحات البشرية السابقة. لقد ولد ما سماه الفيلسوف الدانمركي كيركغارد (public) وهم غير محددين بمكان وزمان؛ بل ينتمون إلى وسائل الاتصال، لا هم مجتمع ولا جماعة ولا أفراد متميزون. إنهم «عملاق تجريدي موجود وعقيم، بمعنى أنه كل شيء ولا شيء في آن».
وهم يختلفون عن مفهوم الجماعة، وعن مفهوم الرعاع، وعن مفهوم العامة. هم تجمعات افتراضية تتوجه إليهم إشارات الاتصالات، وعليهم يعول في حركات جماهيرية كثيرة، وفي اتصالات واسعة، أداتها السرعة واللايك، والخفة والإشارة. وقد تجد الآن من يمارس كتابة النثر اليوم من خلال التغريدات المتبادلة؛حيث يدخل الشعر في لحظة الشواذ هذه… حيث كل واحد هو شاعر للحظة، وبطل للحظة، ومشهور للحظة، ومهم للحظة… والخلاصة، هل ثمة من خلاصة؟
يفر الشعر اليوم من اللغة المتعالية الأيديولوجيا وادعاءات الماضي في البطولة والخلود إلى المقهى والإنترنت والمترو. إنه يتذرر ويتصعلك ويطرق أبوابًا كثيرة ليفك عن نفسه عزلته الصعبة. ولعله يؤثر أحيانًا أن يترك عناوينه بلا تنسيب. فينسرح في شكل نثري يصلح لقصة أو مقالة أو تعليق، ولعل الشعر غدا قليلًا، فقد انحل في فنون أخرى كثيرة، وتوسع شأن اللغة في الحرف والإشارة. وحين كان هم النثر أن يكون مبذولًا للجميع بحيث إنه موجود لكي يحكي «من كليلة ودمنة إلى ألف ليلة وليلة إلى ثرثرات الباعة وربات المنزل والخدم… إلى سرد الروايات والقصص» صار هم بعض الشعراء اليوم أن يكون هكذا.. أن يلتحم بالنثر في سيولاته وسردياته التي لا تحد، لكن في الجانب الآخر من افتراس النثر للشعر «والافتراس المبين هو افتراس الرواية له» ما زال ثمة من يتخاطبون فيما بينهم ببرق الشعر وانخطاف اللغة، ويتداولون فيما بينهم شمس المجاز العظيم «كما يقول نيرود» شمس القصيدة.