بواسطة عبدالهادي سعدون - كاتب و مترجم عراقي يقيم في إسبانيا | نوفمبر 6, 2016 | نصوص
رفائيل ألبرتي، الشاعر الإسباني المعروف، وواحد من أهم شعراء ما سمي بجيل الـ 27 الشعري إضافة إلى لوركا، وألكساندر وآخرين. ولد في قادش عام 1902م، وتوفي عام 1999م. ابتدأ حياته رسامًا، ثم اتجه إلى ممارسة الشعر، ونشر ديوانه الأول «بحار على الأرض» عام 1924م، الذي يعد أهم كتبه الشعرية، إضافة إلى ديوان «حول الملائكة»، وديوانه «كنت أحمق، وعندما رأيتك أصبحت أحمقين». أغلب أشعاره تتغنى بالبحر والحرية. خرج من إسبانيا منفيًّا بعد الحرب الأهلية الإسبانية، ولم يعد حتى وفاة فرانكو. القصائد التي نترجمها هنا «أغنيات إلى الطير Canciones para Altair»، جزء من ديوان كبير كتبه في سنواته الأخيرة، وفيه يتغنى بالطير على سياق أناشيد المتصوفة المسلمين، والشاعر يستخدم كلمة الطير العربية (Altair) كتابة ومعنى وإيحاء.
1
لأجل شيء ما وصلت أيها الطير
هبطت من برجك في وضح الصباح.
لم تهبط نجمة أبدًا
كي تتعلق بأغصان شمس الزيتونات،
لا كلس القرى
يمضي في بياضه حتى بياض أنصع
ولا ريح الليلة
قد وصلت بأغنيتها أبعد من الفجر.
لم ير أبدًا نجمة في قارعة الطرقات،
لم يتوقف فجأة، يتماهل، يشير، يتعلم، يضيء
شيء ما لا ينتظر.
لأجل شيء هبطت أيها الطير
هاويًا من برجك تلك الليلة.
2
عندما يفرج عن قدميه الطير
منتصف السماء،
يسطع في منتصفه أروع ليل
مرصع بنجوم تنبض ماطرة على شفتي،
بينما هنا،
في الأرض البعيدة
الحدقة الوحيدة متقدة
تعلن وصول زائر جديد
قوال،
برجٌ أعمى مجهول.
3
على غفلة يصل الطير.
كبره كنجمة تضطرم.
سماء عارية تتوهج.
ليس بغمامة ضائعة في ليل.
نابض هو،
يجلب في حجره المتوهج
نجمة تلمس.
نار عالية تستهلك،
تختنق في لهيبها.
و الطير يتلاشى.
4
يتأوه الطير أحيانًا، يميل
مطعونًا بالريح العاتية التي تلفه
مهتزًّا في هاويتها
زبدها الحلوُ يغمره
حتى الموت بلا صوت،
أن يخرج مرة أخرى من عمق
هذا البحر السري، بلا حدود، ومتطاول…
نجمة هو الطير، خفي ومقتدر.
5
كيف يكون أشبه بالصفير، كموسيقا ترتج
الطير العالي بعيد عن الأصوات،
بطعم القواقع السماوية، بطعم الطحالب السود
بتنهدات مالحة و صياح.
الأضواء تتسلقُ ممتطية روابيه الطيبة
متزحلقة على متنه المتأني حتى الوادي
بجريان نهر وهدوء ريح.
هكذا هو الطير، فيما لو يطلقها.
6
في ذاك الليل العميق، ابتدأ الطير تحليقه
منقبًا ربما بالأرض (أو دون ربما)،
حتى آلاف الكيلومترات
وفي حفرة مظلمة، حزينة
في درب التبانة
وجد نجمة واحدة، ضئيلة ومجهولة.
ذاك المثلث البديع
أصلحه الطير في برجه،
حطمه متعلقًا ببرج آخر،
اسمه،غير الطير، لا يعرفه أحد.
هكذا، الطير المسكين
كشف لون بريقه حتى غاب
في أطلس السماء.
7
الطير العالي، الطير العالي،
يستيقظ.
في سماء السماوات
نجمة وحيدة هناك.
أيها الطير العالي في سمائه
أنت هذي النجمة لا غير.
8
عندما حلق الطير من برجه
تلك الليلة،
ليلة ظلماء صافية، بلا وجهة،
سنونوة ضائعة مرتعشة
عششت ما بين أقدامه
هناك تداعب، تقبلُ
تتظاهر بالنوم
خائفة
أن عليها أن تطير وجهة فضاءات أخرى،
لكن الطير الساهد
بين شفاه وأصابع يمنعها.
هكذا هو الطير عندما ينزل أحيانًا، ووجهته الأرض.
9
ليست شفتاك بشفتين أيها الطير
إذ أشعر بهما بين شفتي في الليل،
بل هما مخفيتان، سريتان، معتمتان،
أي قبلة هي حتى تموت بين تقلبات الطيران الرشيقة
تقلبات حلوة ومرهفة…
عندئذ، يموت الطير بلا موت.
10
أخطأ الطير تلك الليلة
نازلًا بكل سرعة وعرضة للسقوط على الظهر
ساهيًا بنيمته
ـ أو من يعرف، متظاهرًا بالنوم ـ
تكشفه الشمس
شعاع خارق يحرقه ببطء
حتى يصبح
دائمًا على ظهره
أكثر مما هو عليه من طير.
11
عندما أراد الطير في ليلة عتماء
أو ربما حاول،
هجران الضوء السري الغامض
لقصره،
مطر نشيجي حرك النجمات
فصنعت زُهرةً كبيرة
أطفأت بهاءه
ظل القصر موحشًا، وحيدًا
و ضائعًا في السمْت.
بواسطة عبدالهادي سعدون - كاتب و مترجم عراقي يقيم في إسبانيا | مارس 15, 2016 | ثقافات
لا يمكن فهم الواقع الأدبي والثقافي الإسباني اليوم دون الرجوع لإضاءة ما يمكن أن ننساه حتمًا من تأثيرات وتغييرات حصلت على بنية المجتمع وثقافته في القرن العشرين المنصرم. لقد عانت إسبانيا مع القرن الماضي العديد من التأثيرات السلبية التي غيرت في مفهوم الأدب والثقافة وخرائطها المتشعبة. فبعد أن كانت إسبانيا إمبراطورية عظمى ورمزًا ثقافيًّا في أوربا والدول اللاتينية الناطقة بالإسبانية، مع بدء القرن الماضي تلاشت ذكرى العظمة ومؤثراتها بعد أن فقدت آخر معاقلها الإمبراطورية وتفسخ الجسد الواهن عن كيانات بدأت تنسلخ عن الثقافة والأدب واللغة الأم الممثلة بإسبانيا. من هنا راح العديد من مثقفيها خاصة جيل 1898م بالبحث في سؤال الهوية الجديدة وسط الصراعات الداخلية في مجتمع تتنازعه التنويرية والتقليدية وخصام الإخوة في الاستحواذ على السلطة والمرجعية القصوى. لقد جرت التحولات الأدبية خاصة وسط أجواء من النزاعات المحلية التي ستودي بالبلاد إلى حرب أهلية وسيطرة عسكرية فاشية ستحكم البلاد بقبضة حديدية طوال القرن العشرين تقريبًا، والتي ستزول تدريجيًّا بموت الدكتاتور فرانكو عام 1974م، لتحل في إسبانيا بوادر الديمقراطية المتوازنة ولتتيح لأبنائها حيزًا أوسع من الحرية والتجريب والانفتاح على العالم بعد أن كانت البلاد تعيش في قوقعتها المتصدعة.
مع ذلك فتأثير الحركات الأدبية الأولى مثل جيل الـ 98 وجيل الـ27 والحركات الأدبية والفنية لما بعد الحرب الأهلية الإسبانية وأجيال المنفى الإسباني قد شكلت وعلى مدى بعيد الطوق الأهم في تناول وفهم الروح الإسبانية على مدى عقود طويلة؛ إذ ما يزال تأثيرها واضحًا ومتميزًا على الرغم من ظهور العديد من الأصوات والحركات الأدبية المؤثرة اليوم في النتاج والرؤية الأدبية في البلاد.
لقد عانت إسبانيا وآدابها طوال القرن الماضي، وإن كان بنسبة أقل اليوم، من تضاؤل حجمها الأدبي مقارنة بجيرانها الأوربيين، وهذا الحجم يتصاغر كثيرًا إزاء الشقيق اللغوي والأدبي في أميركا اللاتينية. لا ننسى أن أغلب مظاهر الأدب الأميركي لاتيني قد برز عن طريق الماكينة الطباعية ودور النشر الإسبانية وطغيان صوته على العديد من الأسماء والحركات الأدبية الإسبانية التي كانت تراوح في مكانها داخل الشرنقة الداخلية المسيطر عليها من الحكومة الفرانكوية أو تتجدد بشكل مغاير تمامًا عن طريق أدب وفنون المنفى الإسباني والتي لم تكن تصل بشكل فاعل للقارئ والأديب الإسباني في الداخل. من هنا لم يكن التنافس والظهور عادلًا أمام الأديب الإسباني في مواجهته لأهم حركات الأدب المكتوب بالإسبانية عالميًّا، ونعني بها آداب الواقعية السحرية وممثليها الكبار مثل ماركيز وليوسا وكاربنتير وفوينتس وكورتاثار وغيرهم الكثير.
لقد حاول أدباء القرن الجديد وأصواته المهمة طوال عقود تامة من الألفية الثالثة في محاولة استرجاع الصوت الخاص بهم بعد اضمحلاله أو انطماسه طوال القرن العشرين تقريبًا، في محاولة متوازنة للوصول إلى مستوى الأدب العالمي والأوربي، وكذلك إثبات الجدارة الأدبية بعيدًا عن المقارنة مع آداب أميركا اللاتينية. وعلى الرغم من الصعوبة والقنوات المحبطة، نستطيع القول اليوم بأن مرور ربع قرن من القرن الحادي والعشرين قد منح المشهد الأدبي أسماء مهمة تضاهي بدورها أهم أصوات الواقعية السحرية في أميركا اللاتينية، وتسير جنبًا لجنب مع أهم حركات الأدب الأوربي. إن أسماء روائية متميزة مثل: الأخوة غويتسولو أو خابيرمارياس أو منويوث مولينا أو ميّاس أو بيلا ماتاس أو خابيرثركاس أو ألموديناغراندي وكذلك في الشعر بمكانة الكبار منهم المتواصلين تجديديًّا مع القرن الجديد مثل: خوسي إيرو وأنتونيو غامونيدا وكابايير وبونالد وكارلوس بوسونيو وليوبولدو ماريا بانيرو وبعدهم من أسماء حركات التجديد الشعري الشابة التي برزت مع الدولة الحديثة لما بعد الفرانكوية مثل: مونتيرو، وآنا روسيتي، وكوينكا، وبنخامين برادو، وأولبيدوغارثيا بالديس، وأنطونيو بيينا، وسيلس وغيرهم. من هنا نرى أن الأدب الإسباني المعاصر في القرن الجديد قد تمثل بقدر وآخر التجربة الإسبانية العريقة ابتداء بنماذج أدباء القرن الوسيط حتى مـوجات الحداثة في القرن التاسع عشر، دون أن يلغوا كثيرًا مسألة التداخل والتجريب والمعاينة مع النموذج العالمي. وهكذا في نظرة سريعة، ستجعلنا نقرأ مختلف المدارس والأساليب من الرومانتيكي حتى السوريالي إلى آخر موجات التجريب، رجوعًا إلى أدب التأثير الحياتي أو اليومي كما يطلق على آخر نماذجه الكتابية.
إذا كانت المحاولات الأدبية المعاصرة في إسبانيا سابقًا تسعى لتقليد أو مجاراة ما يأتي من الخارج، فاليوم وبفضل التجديد والتنويع في آدابها وأسمائها المتميزة، قد انتشلت الأدب من قوقعته وبدأت حقًّا بمضاهاة الآداب العالمية، بحيث صار النموذج الأدبي الإسباني يصدر للخارج ويشار له بكونه نتاج الروح الأدبية والفنية الجديدة في شبه الجزيرة الإيبيرية. لقد تمثل أحفاد سرفانتس مؤلف الدون كيشوت تلك الروحية المغامرة في العصور الوسيطة؛ لتشكل ردة فعل وتقويم آخر للفهم والكتابة والتواصل مع العالم. وإذا كانت محاولاتهم الأولى تكاد تكون مرتبكة وقلقة ومغامرة، فاليوم تشيد صوتها على قاعدة رصينة من التنوع والأسماء والحركات المتفاعلة مع بعضها ومع آداب أوربا المتعددة.
مع هذا التجديد والتنوع لا بد من الإشارة إلى أن أغلب أسماء الأدباء ونماذجها الكتابية قد شكلت علامات فردية خاصة بعد خروجها من شرك التجييل الذي حصر الأدباء وأعمالهم الأدبية في حلقاته المعروفة. الميزة المعتبرة في آداب القرن الجديد هو خروج الأغلبية إن لم نقل الجميع من بوتقة الأجيال الأدبية والرسم على أهمية وعمق العملية الكتابية دون الرضوخ لما يقيدها ضمن الحركة الأدبية الواحدة. من هنا يمكننا الحديث عن أسماء روائية وشعرية ونقدية مهمة، كل واحد منها يعمر لمنظومته في نسق أحادي يتجمع مع الآخر في الهم والكتابة والتجديد وليس في نسق العملية التجييلية الضيقة. فبعد أن كانت الأجيال والتقييم النقدي لها يتم على ذلك الأساس خاصة في القرن العشرين، أصبح الهم الثقافي للأدباء اليوم هو الميزة المهيمنة بدلًا من البحث عن لصيق مقارب في الجيل نفسه. إلى درجة يمكننا فيها أن ننعت العديد من الأسماء المتميزة التي تتسيد خريطة الأدب الإسباني بكونهم أبناءً متناثرين دون أب حقيقي يشار له، ينهلون من كل مصادر الأدب العالمي ويبارونه بالجودة والتنوع، دون أن ينسوا صلتهم بالواقع وحقيقة البلد ومعضلاته المتشكلة مع القرن الجديد.
إن الأدب الإسباني اليوم يعد بنظر النقد الإسباني والعالمي على حد سواء بكونه الممثل الحقيقي للنموذج المكتوب باللغة الإسبانية، بعد اختفاء آخر الأصوات في الواقعية السحرية الأميركية اللاتينية، وعدم ظهور ما يمثلها اليوم في التميز والتجديد إلا القليل. مع ذلك فالعصر الحديث والزخم الهائل من المنشورات والأصوات الأدبية الظاهرة مع كل عقد، يجعل من الصعب وصولها إلى كل بقاع العالم، ومنها عالمنا العربي الذي ما يزال يعرف الآداب المكتوبة بالإسبانية عبر أدب الواقعية السحرية خاصة مع ماركيز صاحب الرواية القمة (مائة عام من العزلة) الممثلة بامتياز وحتى يومنا هذا لآداب أميركا اللاتينية، ولم يتح له الوقت ولا الترجمات القليلة بالتعرف حقيقة على الأدب الإسباني الجديد سواء في الرواية أو في الشعر.
ما يزال أمام الآداب الإسبانية وظواهرها المتعددة أشواط مستقبلية يمكننا تلمسها في السنين القادمة من القرن الحادي والعشرين؛ كي نتعرف عليها وعلى تنوعها وعلى رصانة صوتها. إن المهرجانات الأدبية العديدة وآلاف الجوائز الأدبية وتشجيع الترجمة من الإسبانية للغات العالمية المختلفة والملاحق الثقافية التي تتبناها الصحف العامة والمتخصصة تساهم بشكل وبآخر بدفع عجلة التعريف عالميا بآداب إسبانيا وفنونها. مع ذلك هناك قصور كبير بالتعريف بآداب إسبانيا عبر لغاتها الرسمية الأخرى غير الإسبانية (مثل الغاليثية والكاتلانية والباسكية) وهي آداب بدأت مع القرن الجديد ببث روح جديدة في كيانها، مما جعلها تتساوى بقاعدة الآداب المكتوبة بالإسبانية كما عليه في أسماء كتاب مهمين مثل الكاتبين الباسكيين برناردو أتشاغاو كيرمن أوريبي أو الكاتلانيين جوان مارغريت أو كيم مونزو. كما يجب على النقد الأدبي أن ينتبه لظاهرة مهمة بدأت بالبروز مؤخرًا وهي الأصوات الأجنبية التي تكتب بالإسبانية. وهي ظاهرة معروفة بالآداب المكتوبة بالإنجليزية أو الفرنسية ولكنها مستجدة وغريبة على الوسط الإسباني، وأغلب كتابها اليوم من المهاجرين الأجانب أو الأجيال التالية المولودة في إسبانيا من آباء أجانب، لعلها تكون القاعدة الأساس لأسماء مهمة في المستقبل كما عليه أسماء لكتاب شباب من أصول مغاربية أو من شرق أوربا أو إفريقيا السوداء.
إن الثورة المعلوماتية وقنوات التواصل الاجتماعي عبر الإنترنيت أو ما يسميه الباحثون بـ«ثورة الأصابع العشرة» شكلت وستشكل في الأعوام المقبلة الظاهرة الأكثر تميزًا بدفع النموذج الأدبي الجديد للظهور، ومنها ما شكل منذ فترة اسمًا متفردًا تنبهت له دور النشر والماكينة الطباعية ما دفعها لاعتبارها ظواهر أدبية حقيقية متركزة وليست مجرد محاولات وقتية عابرة، من هنا نتواجه بأسماء وكتب عديدة أتيح لها المجال للنشر ضمن ما يزيد على الـ 60 ألف عنوان مما تصدره الماكينة الطباعية سنويًّا في بلد واحد صغير مثل إسبانيا، كبير بتراثه وتاريخه الأدبي لأكثر من ألف عام وأكثر.