«نوبل» أورهان باموك تضع الأدب التركي على خريطة العالم
في عام 2006م أصبح أورهان باموك أول كاتب تركي يُمنح جائزة نوبل للآداب، على روايته «اسمي أحمر». هذا الحدث أكّد موقع تركيا على الخريطة الأدبية للعالم، كما أكّد أهمية الأدب التركي في سياق الدراسات الأدبية المقارنة والعالمية المعاصرة، ووضع الأدب التركي في دائرة الضوء الدولي، وساعد على ظهور جمهور جديد سواء لباموك أو لغيره من الكتّاب الأتراك. بدأ اسم أورهان باموك يلمع بعد أن نال جائزة أورهان كمال للرواية على روايته جودت بك وأولاده، عام 1983م، وتبع هذه الرواية التي وصلت إلى كتلة عريضة من القراء روايات أخرى؛ مثل: المنزل الصامت، والقلعة البيضاء، والكتاب الأسود، وغيرها. عكس باموك في رواياته عالمًا يمزج الوهم والواقع من خلال إسقاطات صنعها من التاريخ التركي والحكايات القديمة، وأظهر اهتمامًا بالقضايا الساخنة المحلية منها والعالمية.
هذا الاهتمام وإن ظهر حديثًا على مستوى المجالين الأكاديمي والعام، فلا بد من التنويه بأن للأدب التركي تاريخًا عميقًا بصبغة عثمانية يمتد من نهايات القرن الثامن عشر ليصل إلى مرحلة تأسيس الدولة عام 1923م من القرن الماضي ليشمل مجالات الأدب المختلفة. أسماء لامعة ظهرت في المراحل المتقدمة، نالت فرص ترجمة أعمالها إلى عدد من اللغات العالمية، كان أبرزها خالدة أديب أضيفار، وناظم حكمت، وعزيز نسين، ويشار كمال الذي رُشّح لنيل جائزة نوبل أكثر من مرة، وقبل أورهان باموك بسنوات عدّة.
لكن ترجمة الأدب التركي إلى اللغة العربية ظلّت خجولة ومحدودة حتى عهد قريب، وما ظهر من ترجمات لبعض الكتّاب على مدى العقود الماضية، كان بجهود فردية، ولا تتناسب مع عددهم وغزارة إنتاجهم على اختلاف مراحل هذا الأدب وتنوّعه. بدورنا لا نستغرب إن كان القارئ العربي لا يعرف من الأتراك سوى عدد محدود، وأن القراء الأتراك لا يعرفون من العرب سوى القليل، فالترجمة من التركية إلى العربية أو العكس، يغلب عليها النشاط الفردي والتطوعي ممن أجاد اللغة.
كتاب لا كاتبات
ظلّ التركيز في الترجمة على أدب الكتّاب دون الكاتبات حتى وقت قريب جدًّا. ولو ألقينا نظرة إحصائية على الكتّاب في مجال القصة وحدها دون غيرها من المجالات الأخرى في المدة ما بين (1910-1990م) لتبيّن لنا أن هناك (81) كاتبة قصة من أصل (750) كاتبًا وكاتبة، نشرن (278) مجموعة قصصية من أصل (2760) كتاب قصة. لقد استطاعت المرأة التركية أن تثبت نفسها في الوسط الأدبي بهويتها الخاصة، وحصلت على مستوى تفوقت فيه على الكاتب الرجل، وذلك بفضل مساهماتها الكبيرة في سبر أغوارٍ ما كان للرجل أن يكتشفها، فنالت أربعين جائزة أدبية في مجال القصة من أصل تسع وتسعين جائزة مُنحت؛ مثل: جائزة سعيد فائق، وجائزة خلدون تانر، وجائزة يونس نادي للقصة القصيرة، منذ خمسينيات القرن الماضي حتى عام 2016م. إضافة إلى ما نالته من جوائز في المجالات الأدبية الأخرى الممنوحة من المجمع اللغوي التركي وجوائز يونس نادي للرواية والشعر والعلوم الاجتماعية والسيناريو وجائزة أورهان كمال للرواية وغيرها من الجوائز الأدبية الأخرى.
حديثًا، وبعد كسر الجليد الذي كان قائمًا بين الأدبين العربي والتركي، نرى تسارعًا في حركة ترجمة الأدب التركي إلى العربية ونلحظ تناميًا نحو أعمال الكاتبات التركيات، وبدأنا نشهد ولادة جيل جديد من الترجمات لأعمال كاتبات مثل آيفِر تونْتش، وأصلي أردوغان، وإيبك تشالِشلار، وأليف شافاك . وعلى الرغم من ذلك فما زال العرب يجهلون أسماء كثيرة لكتّاب وكاتبات لمعت على صفحات الأدب التركي؛ أمثال: سعيد فائق، وخلدون تانر، وعدالت آغا أوغلو، وفوروزان، ونديم غورسيل، وإردال أوز، وعائشة كولين، وأويا بايدار، وأيلا كوتلو، ونزيهة ميريتش، وتومريس أويار، وبكير يلدز، وبيلغا كاراسو، وجاي سانجاك، وأصلي أردوغان، ومصطفى كوتلو، وأسماء كثيرة أخرى لا يتسع المجال لذكرها، رغم أنها أثرت الأدب التركي الحديث والمعاصر بإنتاج أدبي رفيع المستوى.
بعد انتقال الأدب التركي تحت تأثير الحضارة الغربية من مرحلة أدب الأمة إلى مرحلة الأدب في عهد الجمهورية، اتجه نحو الواقعية الاجتماعية كنسق أدبي جديد، ولمع اسم كتّاب مبدعين في مجال الرواية؛ مثل: رشاد نوري، وخالدة أديب أضيفار، وآخرين، كما وُلدت حداثة حقيقية في مجال
الشعر على يد ناظم حكمت الذي ابتعد من مفهوم الأبيات والعروض في شعره. كما ظهرت القصة القصيرة بمفهوم جديد، تتناول هموم رجل الشارع، وانطلقت نحو الريف والقرية وشجون المجتمع بعيدًا من المثقف الانعزالي بريادة سعيد فائق وصباح الدين علي.
كانت «معاهد القرى» التي انتشرت بعد الجمهورية، أداة لظهور جيل جديد من أولاد الريف المتعلمين الذين أضاف مبدعوهم كثيرًا إلى الأدب. وهكذا انعكست في الأدب حياة الناس في القرى والمدن، بكل مشكلاتها وتوقها ورغباتها وتناقضاتها وصعوباتها الاقتصادية والاجتماعية. لذلك نرى في الخمسينيات والستينيات كتّابًا بدؤوا يركزون بدرجة كبيرة على حقائق الحياة الريفية والقروية، وفتحوا مجالًا رحبًا في التأليف الأدبي الريفي الذي يترجم حياة القرويين وأهل الريف التركي بما يحيطها بجميع صورها، فلمع اسم فقير بايكورت، ويشار كمال، وكمال طاهر، ويوسف أطيلغان، ونزيهة مريتش، وطوّر بيلغا كاراسو أسلوبًا خاصًّا به تسوده الإشارات، وركز أورهان كمال على هموم المجتمع باختلاف فئاته بأسلوبه الخاص. وتعاطى طارق بوورا وخلدون تانر في مؤلفاتهما مع النهج الواقعي.
القصة والمهمشون والمهووسون
بعد عام 1990م عادت القصة إلى المسار الذي وضعه سعيد فائق وأورهان كمال بالحديث عن الأفراد المهمشين الذين لا نشعر بوجودهم في حياتنا، وأُبعدوا جانبًا كالمشردين في الشوارع والمهووسين ومدمني الكحول، وعن فقدان الغنى الروحي والصراع بين الأجيال وتأثير الحداثة المدمر في الفرد والأسرة والطفولة. وبات الحديث عن الشعور بالوحدة والمواجهة والانطواء من الموضوعات الأساسية، إضافة إلى تغيّر أفكار الشباب وأن الحياة بالنسبة لهم امتحان وتوجههم لإعطاء منحى لحياتهم.
مع الأخذ في الحسبان أن معظم الكتّاب الأوائل في العقود الماضية ما زالوا يكتبون في المجلات، ويُصدرون الكتب بنشاط، وتُعاد طباعة كتبهم، بل تعرض مسرحياتهم على خشبات المسرح؛ مثل: عدالت آغا أوغلو كاتبة القصة والرواية والمسرح، ونديم غورسيل الذي امتاز بغزارة نتاجه الأدبي منذ بداية نشاطه الأدبي عام 1960م ليصدر هذا العام 2016م أحدث مؤلفاته بعنوان: «اروِ لي عن إيطاليا»، ونال عددًا من الجوائز الأدبية التركية والعالمية. وعلى الرغم من أن معظم مؤلفاته قد ترجمت إلى أكثر من عشرين لغة عالمية، فإن ما ترجم منها إلى العربية لا يتجاوز عدد أصابع اليد.
وظهر إلى جانب الجيل القديم، جيل جديد من الكتّاب، مثل أليف شافاك التي حظي نتاجها الأدبي بترجمة واسعة إلى العربية، ولمع اسمها على الساحة الأدبية العربية، وشهدت اهتمامًا شديدًا أكثر مما شهدته بين الأوساط الأدبية في بلدها، وإن امتازت بغزارة إنتاجها. إلى جانب شِبنِم إشيغوزال التي امتازت بأسلوبها الخاص بعرض السلوك السيئ في الأدب وطرحه في أكثر الحالات غرابة، تعرّي الواقع في تركيا وتشرّحه، وتكتب عن التناقضات بين العلمانيين والمتديّنين، وعن الهوّة التي تفصل بين المناطق الريفية والمدن الكبرى بلغة مستفزة.
كما ظهر عدد كبير من الكتّاب الشباب استطاع أن ينافس على الجوائز الأدبية التركية السنوية، ليفوزوا في الأعوام 2011- 2016م بجائزة أورهان كمال للرواية، وجائزتي سعيد فائق وخلدون تانر للقصة، وجائزتي يونس نادي للرواية والقصة؛ مثل: إبراهيم يلدرم عن روايته «الفخامة التاسعة»، وحسني آركان عن روايته «اللص والبرغوازي»، وحمدي كوتش عن روايته «الناسك»، ويييت بَنَر عن روايته «عودة الخيلاء»، وبورا عبدو عن مجموعته القصصية «قتَلَنا المدعو بالعضاض»، وماهر أونسال عن مجموعته القصصية «كم كنا جميلات»، وهاندة غوندوز عن مجموعتها القصصية على «امتداد النهر»، وسينة أرغون عن مجموعتها القصصية «هي الحياة».
وحظي التأليف المسرحي بالاهتمام مع بدايات مرحلة الأدب الجمهوري حتى يومنا هذا، وسار ضمن خط متفاعل مع المجتمع وهمومه، وامتاز بنهجه الانتقادي الواقعي، وظهرت نخبة من المؤلفين المبدعين بأقلامهم وأعمالهم، وأفرزت قريحتهم نصوصًا مسرحية موفقة تضارع المستويات الغربية بالمعنى المعاصر من حيث الطابع والمضمون، كما حملت في داخلها النقد السياسي اللاذع والرفيع في آن واحد، وكان من ألمع هذه الأسماء خلدون تانر وعدالت آغا أوغلو التي حملت ريادة التأليف المسرحي التركي غزارة ومضمونًا إضافة إلى ريادتها في مجالي الرواية والقصة. كما ظهرت نصوص أخرى بموضوعات مستوحاة من التاريخ العثماني مع التركيز على ملاحم البطولة الشعبية والأساطير بلغة شعرية رائعة جدًّا. لكن التأليف المسرحي لم يكن أسعد حظًّا من مجالات الأدب الأخرى في الثمانينيات، فشهد ركودًا مماثلًا للمجالات الأدبية الأخرى.
قصارى الكلام، تحتاج مواكبة هذا الأدب القريب البعيد إلى جهود عظيمة سواء على المستوى الأكاديمي أو العام.
وسط فوضوي واستقطاب أيديولوجي
مع بدايات عقد السبعينيات وما شهده من انقسام سياسي حاد، وانقطاع جسور التواصل بين اليمين واليسار وانقطاع الحوار. تأثرت الحياة الأدبية بهذا الوسط الفوضوي، وقصرت المسافة بين السياسة والفن بجميع مجالاته، حتى تماثلوا. في هذه المرحلة ابتعد الفنانون من الاهتمامات الجمالية، وأصبحوا جزءًا من الصراع، فاستسلموا للأفكار والشعارات في ظِل تلك المشكلات السياسية. كانت هيمنة العقيدة _ الأيديولوجية سائدة على الفن، وتركّز على توقّعات الصراع الطبقي. لقد اشترك كل الفنانين في هذه الرؤية، كما يمكن رؤية نهج مماثل في كتابات كتّاب الرواية والقصة والمسرح في تلك الحقبة. الإضرابات، وقمع الدولة، وأحداث الطلاب هي الموضوعات الرئيسة في معظم المجالات الأدبية. كما كانت لغة قصة الحقبة حادة وأليمة وغاضبة.
في ظل العيش في هذا المجال السياسي، نرى الاستقطاب الأيديولوجي الحاد في الأدب، وعندما كانت عدالت آغا أوغلو وتومريس أويار وفريدة تشيتشك أوغلو يكتبن قصصًا بالمفهوم الواقعي إلى جانب سليم إلري ونديم غورسيل وخلقي أكتونتش، بالمقابل، كتبت سيفينتش تشوكوم قصصًا محافظة ومرتبطة بالماضي إلى جانب مصطفى كوتلو. كما يجب ألّا نغفل عن القاصّة الانطباعية فروزان التي تمكنت من تجديد إمكانيات النص السردي القصير، وقامت بهدوء وبصيرة، بفضح جور العالم الذي شيّده الرجال على حساب حقوق المرأة والرجل معًا. والشاعر أنيس باتور الذي تجاوز حدود الشعر نحو النثر والنص المستوحى من السيرة الذاتية، ضمن مقاربة مبتكرة وكيفيّة لفن السرد. أما عقد الثمانينيات، فقد أدى فتور المجتمع وابتعاده من السياسة إلى نزوع المثقفين وتقربهم نحو المعرفة والفن. على حين لاقت المؤلفات حول التاريخ التركي إقبالًا شديدًا من الجيل الجديد، فلمع اسم مصطفى سَبَتجي أوغلو بسلسلة رواياته حول تاريخ الدولة العثمانية وانتصاراتها.