شعريةُ المرأة الخليجية وفحولةُ اللغة قراءة في المشهد والتجلّي
ارتبطت شعرية المرأة الخليجية المعاصرة بعنصري الصدام والدهشة، كفعل انقلابي على أرض الواقع وموروث مكرَّس بسلطة ذكورية خرقت المتخيل الثقافي والأدبي منذ القرن الثالث الهجري؛ حين كان النقد ذكوريًّا والكتابة ذكورية واللغة أيضًا، ولم يُسند للمرأة حينها وإلى يومنا سوى المعنى والصورة اللتين تتسابق الذكورة إلى نسجهما وفق معايير جسدية وثيولوجية مفروضة ومعدّة من قبل. من هنا ظهرت الكتابة الشعرية في الخليج كفعل انقلابي؛ لأن «الشرط الأساسي في كل كتابة جديدة هو شرط انقلابي، وهو شرط لا يمكن التساهل فيه أو المساومة عليه، وبغير هذا الشرط الانقلابي تغدو الكتابة تأليفًا لما سبق تأليفه، وشرحًا لما انتهى شرحه، ومعرفة بما سبق معرفته».
إن السبب الرئيس في تحرر الكتابة النسوية في منطقة الخليج من سلطة الفحولة وتكريس المعنى، هو الرغبة الجامحة في تحقيق الذات ضمن فضاء ثقافي مميز، ساهمت في إبرازه مختلف مظاهر الحياة الخليجية المعاصرة، سواء كانت هذه المظاهر ثقافية أو اجتماعية أو اقتصادية، بل إن الثيمة الفاعلة في تقديري ذاتية؛ تحاول خلالها كل شاعرة أن تنتقل إلى مرحلة وأد الفحولة من خلال وأد لغتها، ومتطلباتها الثقافية الراسخة عبر الزمن، والتخلص من أزلية: المرأة معنى والرجل لغة. وعليه فقد «كتبت المرأة أخيرًا ودخلت إلى لغة الآخر واقتحمتها، ورأت أسرارها، وفكّت شفرتها، فتكلمت المرأة عن مأساتها الحضارية، وأعلنت إدانتها للثقافة والحضارة، وبينت أن هذه الحضارة المزعومة ليست تحضرًا أو تطورًا فكريًّا؛ فالحضارة التي تقمع المرأة ليست حضارة…»(1).
إن فعل الكتابة الشعرية المعاصرة في المجتمعات العربية عمومًا، والمجتمع الخليجي على وجه التخصيص، هي كتابة تقف عند معادلة الذات والآخر، والأنا والأنا الآخر ضمن إطار إبستيمولوجي وسايكولوجي متداخلين؛ فتحقيق الذات الشاعرة في منطقة الخليج يتطلب كسر جدلية الصراع الثقافي الكامن في المحمولات المتراكمة منذ القرنين الثالث والرابع الهجريين، وعلى مدّ الأزمنة والأمكنة لا تستقيم العملية الانقلابية إلا بإعلاء الذات وتضخيم الأنا الأنثوية في فضاء كتابة نسوية مدعمة بنظرية وافدة على المنطقة؛ عدت من بين الروافد الأساسية المؤثرة في تفعيل الكتابة الشعرية النسوية في الخليج.
لقد تساءل الدكتور عبدالله الغذامي حين قارب الإشكالية قائلًا: «… هل تستطيع المرأة أن تسجل من خلال إبداعها اللغوي اختلافًا أنثويًّا إيجابيًّا يضيف إلى اللغة والثقافة بعدًا إنسانيًّا جديدًا، ويجعل من التعبير اللغوي تعبيرًا ذا جسد طبيعي حينما يسير على قدمين اثنتين مؤنثة ومذكرة، ويجعل الأنوثة معادلًا إبداعيًّا يوازي الفحولة ولا يقل عنها ولا يقبل بكون الأنوثة فحولة ناقصة؟»(2).
أنطلق من هذا التساؤل المعرفي المهم لمقاربة بعض النماذج الإبداعية الخليجية، عند شواعر أعتقد أنهن أدركن الغاية من الكتابة، وإعادة إنتاج المختلف والمتشاكل في الثقافة العربية من خلال هدم نظرية الفحولة اللغوية، وتأسيس الذات الأنثوية بعد غياب الأنوثة التام عبر التاريخ؛ كونها غابت عن اللغة وعن الكتابة الثقافية «وتفردت الفحولة باللغة، فجاء الزمن مكتوبًا ومسجلًا بقلم المذكر واللفظ الفحل…»(3).
سَجلتُ وقتَ مقاربة تفصيلات هذا المقال، عددًا كبيرًا من الشواعر الخليجيات في فضاء الممارسة والكتابة الإبداعية، فهناك أسماء برزت منذ عقود (الثمانينيات) ولا تزال تُفاعل الكتابة والتشكيل وفق قناعات ذاتية ومتطلبات شكلية ومعرفية نامية ومتغيرة. وفي المقابل كانت أسماء أخرى تضيء في مرحلة ثم يخفت ضوؤها؛ وكأنها اعتزلت أو تنتظر لحظة التجلي من جديد، فظاهرة الاعتزال في الأدب الخليجي النسوي ظاهرة حاضرة بقوة وبفعل ما ذكر سابقًا من رواسب ثقافية وحمولات حضارية. و مع هذا فإن الشاعرات الانقلابيات على نظرية الفحولة ومنطق لغة الفحولة رفضن دومًا مفهوم الأنوثة كمعنى؛ وقد ساهم في تسجيل حضورهن ضمن المشهد الأدبي الخليجي أسباب كثيرة، ربما تكون الصحافة بعد انتشار التعليم في صفوف البنات هي أبرز العوامل المنشّطة للأدب النسوي في الخليج، وتناولت الأديبة الإماراتية «ظبية خميس» أسباب التطور والانتشار لأدب المرأة في الخليج قائلة: «إننا في مرحلة تحول وانتقال ثقافي وحضاري وسياسي كبيرة، إن التغيرات الحادة في المجتمعات الخليجية والتقدم المادي السريع، وتحول المنطقة إلى بوتقة للعولمة على كل المستويات، لا بد أن يفرز طرقًا جديدة للتعبير عن الذات بما في ذلك التعبير الأدبي والفني، وهي مرحلة سوف يرافقها الكثير من الإنتاج الإبداعي الأدبي…»(4). وعليه أضحى الشعر النسوي ظاهرة وملمحًا ومتطلبًا اقتحاميًّا، ورافدًا من روافد الشعرية العربية المعاصرة المدجّجة بجدلية الهدم والتأسيس: هدم ثنائية الفحولة والذكورة، وتأسيس الثنائية النسوية واللغة بعيدًا من منطق: الرجل لغة، والمرأة معنى.
ونظرًا للعدد الكبير من الشواعر المتميزات والحاملات للواء التأسيس الشعري النسوي، ارتأيت أن أعرض نماذج منتقاة من التشكيل الشعري الحر والنثري لكل من: الشاعرة هدى سعدي «الإمارات»، والشاعرة صالحة غابش «الإمارات»، والشاعرة سعاد الصباح «الكويت»،والشاعرة زكية مال الله «قطر»، ولعل السبب في هذا الانتقاء والتخصيص يرجع إلى تقدير أكاديمي وشخصي مضمونه أن القصيدة الحديثة حرة «شعر التفعيلة» كانت أو نثرية «قصيدة نثر» هي أفضل ثيمة يمكنها أن تَعرِض لثنائية الرفض والبناء الشعريين .
هُدى السَّعدِي..
بين تفعيل الحسّ القومي وإدراك تفصيلات الذات
تعاملت هدى السعدي كشاعرة في مختلف دواوينها الشعرية مع التفصيلات اليومية للحياة العربية المعاصرة بمختلف أبعادها القومية والاجتماعية، فكتبت عن الوطن وعن المقاومة في العراق وفلسطين ومختلف البلدان العربية، ظهر هذا جليًّا في ديوانها الأول «دموع البنفسج» حيث ترافقت المعاني في قصيدة هدى مع سيل جارف من الدفق الثوري العربي الذي فرضته المقاومة الحرة والشريفة على خط مسار الكتابة عندها. لقد جاء شعرها وهي بعيدة جغرافيًّا عن مواقع الثوار ليعطي دلالة فكرية وبنيوية عميقة، أساسها ذلك التأثير الشعري في الوجدان القومي؛ حيث اختَصر الشعر العفوي المدرك في أسطر قصائدها كل مساحات الزمن، لتعلن وحدة الشعور القومي وما يستتبعه من تأثيرات تجمع ماجدة الإمارات إلى ماجدات فلسطين والعراق ولبنان.
حرصت هدى السعدي في مختلف قصائدها على إحداث الدهشة الشعرية في المتلقي، بل سعت إلى تأكيد ذلك من خلال مستويات خطاب تشدك مباشرة إلى الصرخة المنبعثة من بين الكلمات، حينها تتعمَّد الغوص في جدران سجون الذات لتكتشف انتخاءات أمة عربية، تقول في قصيدة «عبلة» تواسي المعتقلات العراقيات:
هذا دمي..
قد جاءنا ناعي الكرامةِ نادبًا أقمارَ بغدادَ السبيةَ في الهوادجِ ذاتَ عرسٍ.. مأتمِِ
من كان يزدانُ العفافُ مبرقعًا بنقابها لم تؤتَ كلّةُ خدرها من بابها
لكنها هُتكت -ويا للعار- من حُجّابها و يبيتُ عنترُ فوق ظهرِ حشيةٍ
وتبيتُ عبلةُ دون عبسٍ كلها .. شمّاء فوق سراةِ أدهمَ مُلجم
أواهُ يا مجدًا يُضاعْ كأنـه سقط المتاعْ ويباعْ كل قرارتين بدرهمٍ
زفراته انبطحت توسد خدها التاريخ
تقضم شوك شوقٍ بات يزهر بالردى
متمجسًا متهوِّدًا
متنعمًا بسعير جنّاتِ السُّــدى
أواهُ يا شرفًا لنا ولغت به سود الكلاب..
ومضمضت أفواهها من زمزمٍ
ضاقت مرامي أرضنا عن عرضنا لم يبق فيها من ملابْ
فترى الذبابْ.. بها يغني وحده هزجًا كفعل الشاربِ المترنم
اللهُ يا بنت العراق وأنتِ تعطينَ الورى درس الفدى بتألمٍ.. وتبسّمِ
اللهْ إذ تقِفينَ ما بين المُدى تتهكمينَ على الردى
وتعلمين النخلَ أن زوابع الأنواءِ أعراضٌ سدى
لن تركعي في وجهها، لن تُهزمي..
أو تُعدِمي الجبن الذي استشرى بنا أو تُعدَمي(5)
وتقف الشاعرة أيضًا عند ظاهرة تفعيل الحزن وتثويره ومساءلته ضمن جدلية أزلية تؤسس لثيمة شعرية تضاف لمختلف ثيمات الصورة في الديوان، إنها تخاطب حزنها الذاتي والعربي والقومي معًا، وتسائل ذاتها الأنثوية وتبحث عن الانعتاق من قيود الماضي والراهن، تؤسس لفلسفة في الكتابة لها مسوغاتها ضمن إشارات الدهشة في القصيدة الحرة، تقول في قصيدة «باختصار»:
وتدمدمُ الأشواق في روحي
يسابقُ عدوَها
عدوُ الأنين
فيغيب عن وعيي القرارْ
ويصارع الأفكارَ في رأسي
نشيجُ الطفلِ
٭ ٭ ٭
اخضرارُ ملامح الأشواقِ
في معزوفة الحنّاء و الكحلِ
احمرارُ مشارق الأحلام
من خَفَر الوليدةِ
وهي تنضحُ جمرةَ الخدين
بالدمع الضحوكِ
تشمُّ أمشاج السعادةِ
إذ تضم لصدرها همس القلادةِ
في ثياب العرسِ ساهمةً
يناغيها السوارْ
وتجادلُ الأقدارَ في زمن الذكورةِ
شهرزادٌ فيَّ
تأبى أن يُهدهدَها لتغفوَ في سرير النوم
إلّا.. شهرَيــارْ(6)
لم تستطع الشاعرة كإنسانة وأنثى أن توقف مستويات البوح الذاتي في ديوانيها «دموع البنفسج» و«أبجدية البوح الصاخب»؛ وعلى الرغم من استعارتها الشخوص التاريخية النسوية المتفردة مثل «عبلة» و«شهرزاد» وغيرهما من الذاكرة الشعرية والسردية العربية القديمة في عملية تناص واعٍ مع التاريخ، فإنها في قصائد أخرى قررت التجرّد من كل التماهيات المضمونية في النص الشعري، واكتفت بتفعيل الذات الشاعرة كأنثى رافضة لأحكام الذكورة ضمن سياقات اجتماعية طالما سعت إلى رفضها داخل التشكيل الشعري الحر، تقول في قصيدة «نجوى»:
لا تتصلْ
من قال إني أنتظرْ
يومي مليءٌ بالأغاني والصورْ
لحظات ساعاتي
تفتش عن فراغٍ
ما له في عمرها المشحونِ ظِلْ
والوقت في وقتي
يفتش عن مداهُ
وكيف يملك وعيَه الوقتُ الثمِلْ
إن كنت تحسب أنك المهديُّ
يا هذا
فلست المنتظَرْ
٭ ٭ ٭
لا تتصل
إني وضعت لهاتفي كلماتِ سرْ
فاعلم إذن
أن اتصالك لن يصلْ
سأعامل اللغةَ
التي بيني وبينكَ
بالضمير المنفصلْ
٭ ٭ ٭
لا تتصل
رسبت من الأجواء
مغنطةُ الهواءْ
فكيف يمكنك اللقاء
على أثير منحسرْ
٭ ٭ ٭
يا ضمّةً
أمَّلتُ رفعَ اسمي بها
فإذا بها بعد التأمل حرف جَرْ
كن شاعرًا
واجعل سواقي الخمر
تجري تحت أبيات الغزلْ
كن نجمةً
واجعل مناطَكَ في زحلْ
بالمختصر:
كن ما تشاء
فلن أكون سوى قمر
ونقرأ لها أيضًا في متن الديوان خطابًا سوداويًّا قاتمة صوره، يبرز ذلك في قصيدة «أول النعت»، حيث تتشاكل أمام المتلقي أسئلة وجودية كثيرة لا تقدَّم لها إجابة ضمن حوارية النص المعتم، إنما تومئ وتشير وتؤسس إلى عالم سريالي جديد على أنقاض عوالم الظلمة والمأساة. لقد استطاعت هدى الشاعرة الأنثى أن تستعير في قصيدتها نمطًا تشكيليًّا شاع وازدهر عند شعراء العصر الحديث في فرنسا؛ أمثال: «رامبو» و«مالارميه»، و«لويس برتران» وغيرهم، إنها تقود المتلقي بفحولة اللغة والمعنى نحو إدراك سوداوية المدينة العربية شأن «بودلير» وقتَما أدرك «سوداوية باريس» في ديوانه الشعري الشهير. تقول:
غضبٌ شديدْ
يجتاح شريان الوليدْ
في عتمة الرحم المنوَّر بالظلامْ
في ذلك الكون
المدبلَجِ وَفق (إيزو) القدرة العليا
قياسًا.. لا يقل و لا يزيدْ!
٭ ٭ ٭
ذاك الجنينُ الغاضبُ الآت
يكوّر نفسهُ
كي لا يجيء لعالَمٍ
لا بد للأنفاس في قانونهِ
من حمل دمغات البريدْ!
٭ ٭ ٭
الأم تزفر روحها..
والطفل يلعق نبضه
متمسكًا بقرارهِ
أن لا يزجّ بنفسهِ
في عالم القرَفِ الجديدْ
عيناهُ مغلقتانْ
تتجمع الأطراف
خوفًا
والقوابل تستجرُّهْ
والشقاء يلوح شرُّهْ
والهينماتُ تموج بالفرح الغبيّ
تزف بشرى للأب المشغوف
بالنبأ السعيدْ
والغيب يضحك ساخرًا
إذ ما هنا بيت القصيد !
…(7)
صالحة غابش..
رُؤيا الرفض وفَرادَة التشكيل
استطاعت صالحة غابش منذ منتصف الثمانينيات تحقيق الحلم الذي تفجر في شريان الأدب الخليجي عمومًا والإماراتي على وجه التخصيص، بدأت مسارها الشعري بمقارعة عمود الشعر فكتبت القصيدة العمودية التي أرهقتها متطلباتها، ولم تستطع التخلص من قيودها وهي المرأة التي انتهجت التمرد على واقع ذكوري ملزم في مختلف حيثيات الكتابة إلا بعد ولوج عوالم الرؤيا والتشكيل من خلال كتابة قصيدة النثر، حيث لحظ القارئ اختلافًا جوهريًّا من حيث التحديثات المضمونية والبنائية الوافدة على أنموذج النص القصيدة عند غابش.
تولدُ القصيدة عندها من رغبة أنثوية جامحة في التحرّر والانعتاق، ومن تمردٍ على التقاليد الشعرية والعروضية، وعلى تقاليد اللغة ذاتها، وكان هدفها في دواوينها الأربعة وبخاصة «المرايا ليست هي» و«بمن تلوذين يا بثين» هو إبعاد الشعر من فن نظم الشعر، والبحث عن إيقاع نثري أنثوي تستمد منه قصائدها نتائج شعرية جديدة ومختلفة تمامًا عن السائد في الشعرية الكلاسيكية عند المرأة. فضلت صالحة اعتماد لغة النثر، وقرّرت أن تكتب بالنثر؛ لأنه بكل بساطة يحرّرها من القوالب الجاهزة، وهذا ما جعل قارئ شعرها يدرك مباشرة رفضها المستمر للقوالب الجاهزة والإيقاعات الجاهزة؛ فمضت هاربة من الشعر إلى النثر، ومن التراكيب البلاغية والقيم الدلالية المسطرة إلى مرونة الفكرة الشعرية التي يخلقها النثر جراء إغنائه للشاعرية ببضع صيغ لا يمكن قبولها بسهولة في النظم التقليدي.
لقد أدرك هذه الثيمة الرؤيوية في أشعار صالحة الناقد ناصر أبو عون حين قال: «تدخل صالحة غابش إلى الذات العربية المنكّسة حينًا والشامخة أحايين كثيرة موصولة بمنجز إبداعي ينتمي إلى جيل الرواد في قصيدة النثر الإماراتية وتجربة شعرية ثرّة يؤرَّخ لها بديوانين سابقين، ويعدُّ (المرايا ليست هي) أكثر تعبيرًا عن رؤيتها الشعرية؛ حيث تنكشف فيه عورة الروح، وتتوارى الذات خلف زجاج هش تتبدى على سطحه الخارجي انكسارات العقل العربي، بينما المرايا كاذبة تعكس تضخم الذات بينما هي تنطوي على خراب وخواء معرفي ونفسي. وربما يكون ديوانها الأول «بانتظار الشمس» يحمل حداثة التجربة وإن كان يشي بمحاولة جادة للبحث عن موطئ قدم للشاعرة على طريق الذائقة الشعرية العربية. وفي ديوانها الجديد تحاول أن تفتح كوة تتسع شيئًا فشيئًا في جدار التقاليد وخيمة الأعراف، تحاول أن تخلق لها وجودًا وتحقق بالنص الشعري حياة باذخة بالأسرار وزاخمة بالزمن لا تُصلح ما أفسده الدهر، ولكنها تكتب عطب الروح وعلوها وكسور الداخل، وشموخه في الوقت ذاته»(8).
في ديوانها «بمن تلوذين يا بثين» كتبت صالحة من منطلق القصيدة كوحدة موضوعية متكاملة، شأنها في ذلك شأن شعراء ورواد قصيدة النثر، ففضلت أن تقوم بتأطير الرؤيا ضمن فضاء المتخيل المدعم بلغة القناع، ولعل الهدف من هذا هو خلق نوع من الدهشة الشعرية غير المألوفة عند المتلقي الخليجي الذي تعوّد لغة الوصف واجترار المعاني الجاهزة، ضمن السياق الاجتماعي من جهة، وفحولة لغة الذكورة من جهة أخرى.
يقودنا عنوان الديوان إلى استحضار الوجع الأنثوي عبر التاريخ من خلال قصة «بثينة بنت المعتمد بن عباد؛ وهي الأميرة التي شهدت مباهج الحياة، لها شعر كثير لم يبق منه إلا قليل، إذ عندما حلت النكبة بأبيها الملك المعتمد وأُسر وتعرض قصره للسلب والنهب، كانت بثينة في جملة من سبي من نساء القصر، فاشتراها أحد تجار إشبيلية في الأندلس وأهداها إلى ابنه وهو لا يعلم من أمرها شيئًا، فلما أراد الابن الدخول بها امتنعت وأظهرت له نسبها، وقالت: لا أحل لك إلا بعقد يوافق عليه أبي، وأشارت عليه بتوجيه كتاب إلى أبيها الذي كان أمر أسرها أسوأ عليه من زوال الملك لتعلقه الشديد بها. فكتبت خطابًا إليه ضَمَّنت فيه قصتها كاملة، وجعلت منه قصيدة موشاة بحكمة الشيوخ وهي في عمر الزهور، ومن شعرها قولها لما كانت هي وأبوها في الأسر:
اسمع كلامي واستمع لمقالتي
فهي السلوك بدت على الأجياد
لا تنكروا أنـي سبيت وأنني
بنت لملـك من بني عبـــاد(9)
فجاء ديوان صالحة بما يحمل عنوانه من أبعاد ودلالات سيميائية الصورة عبارة عن عملية اقتحام ونفور لكل ما هو نمطي يكسر التواصل، وأسست قصائده في تقديري للبديل الشعري غير الثابت زمنيًّا، وتمكنت من توجيه المتلقي لديوانها نحو الحالة الفنية المدركة كليًّا وليست متفردة في قصائد وأسطر شعرية . تقول في قصيدة «مسك الرميكية» أين تستحضر التاريخ وتومئ إلى قصة بثينة بنت المعتمد بن عباد الأندلسي :
أللآن رهن محاولة الحلم أنت..
وأغنية تتأجل
حتى تفيق اليمامات في صوت هذا المدى؟
أللآن يكسرك الانتظار؟
تقاسمك الحزن في رحلة العابرين رغيفًا
وحيدًا
يحاور رائحة الطرقات..
ولم ينكسر قلم يتقاسمه الدفء
لحظة جاء فتاك
ليكتب وردته في يديك
وأهداك مسك رميكية
قدماها طين المنافي
وأشعل في الأبجديةِ موقده
فاختتمت القصائد باسمه
إهداء روح إليه(10)
لقد أدركت الشاعرة صالحة غابش كيفية تثوير الذات الأنثوية من خلال ربط راهنها بتاريخٍ، وبعتباتٍ نصيةٍ لها دلالاتها في الزمن الماضي؛ ولذلك «دلالات عديدة، منها أنها بصدد تقديم فكرة معينة، وأنها حريصة على تقديم رؤيتها لمتلقيها كاملة، وهو ما يجعلها من أولئك الشعراء الذين لا يرون في الحداثة الشعرية مجرد شكل ولغة، بل إنها تعبر عن همٍّ خاص، هو في المحصلة، همٌّ عامٌّ، وإن كانت الشاعرة تعتمد الرمز، والقناع، والإسقاط، عبر تساوق السبي حتى الآن. إن مجرد ذكر خسارة الملك، وسقوط الأندلس، لتدفع إلى التحسّر على ذلك الفردوس المفقود، الذي تتناوله بثينة، وبمرارة كبيرة، مشخِّصة أسباب ذلك، من خلال البطانة الفاسدة حول والدها الملك، كي تقدم المفارقة الصارخة وهي سبي نساء قصر الملك، وسقوط العرش، وبيع ابنة الملك نفسه، التي تأبى ذلك من خلال إصرارها على أن يتم اقترانها بابن التاجر الإشبيلي بعد مباركة أبيها. ثمّة التقاط ذكي وبارع من جانب الشاعرة اللاحقة للحدث التاريخي، ومن ثم وضعه في سياق جديد، من قبلها، لإثارة أسئلة اللحظة الأكثر إيلامًا»(11).
ويجد المتلقي وقارئ باقي قصائد الديوان أن كثيرًا منها يحمل قاسمًا مشتركًا واحدًا؛ إنه الحزن المترامي بين سطور القصيدة والكامن في رؤاها الباهتة منذ سقوط عرش المعتمد بن عباد إلى يومها، إنه التماهي مع التاريخ ومع الوجع الأنثوي عند بثينة المرأة وبثينة الشاعرة، وهي الحال أيضًا عند صالحة غابش المرأة في زمن سقطت فيه أقنعة الخشية الأبدية. إن القصائد الوارد فيها اسم «بثينة» ببعدها في التاريخ أو في الراهن، هي قصائد امرأة وشاعرة يطوقها الفقدان والألم؛ يتضح ذلك جليًّا في قصيدة «لا تنكروا أني سبيت» حيث بثينة المرأة ساكنة وخاضعة لمصيرها. تقول:
هنا كنت أدفن دمعة صبري
أمزق أوراق كل الوعود
التي سخرت من وفائي
وظلت تراقبني أتجمد شيئًا فشيئًا
بثلج انتظاراتي الساذجة(12)
وتصر الشاعرة على البوح بالوجع الأنثوي الخليجي بجرأة حين تجعل من بثينة اسمًا تقف على قدميه دلالات الأنوثة والذكورة الحاملة للألم الدفين منذ زمن وأد البنات. لقد أدركت أن أسر بثينة هو المعادل السيميائي والدلالي للسر الواقع على المرأة المكفنة بسوادها، ومع هذا لا يبقى لبثينة وللمرأة في المخيال الرؤيوي عند الشاعرة صالحة إلا الانتظار. تقول:
مدينة ظنكِ واقفة
تتأهب منذ سنين لضوء فتى
ليس يؤلمك
يعبر الحلم نحوك سيدة أنت أولى
على عرش دولته
تخرجين إلى ضوئه تصعدين المنصة شاعرة حرة
تطلقين اسمه بين أفق وماء
فتلتقط البجعات حديثك عنه غناء
تماهى بأبيض رقصتها الهادئة(13)
لقد تمكنت صالحة غابش في دواوينها المختلفة، وبخاصة في قصائدها النثرية أن تدرك القدرة على فهم المشاعر وعلى الوصول أو إنتاج المشاعر التي تسهل الخيال المعرفي بحسب قول «بيتر سالفوني» فيما يعرف بنظرية الذكاء العاطفي والعقل الوجداني، لهذا حملت دواوينها الأربعة دلالات المكان بأبعاده الثلاثة، فتحضر القبيلة كمكان يطغى بجبروته على المشاعر والأحلام الخافتة، تقول في قصيدة «فضائي والأجنحة»:
الحزن قبيلة نارٍ
تحرق كل وثائقها في قلب فتاة
تنمو فوق رمال براءتها
وحديث يسرق ذاته
ثم يغادر ثكنته المطمورة في استرخاء لا يهدأ
ديوان الآن عرفت..(14)
سعاد الصباح..
ومستويات النحت الجمالي
صرخت الكويتية سعاد منذ سبعينيات القرن الماضي في وجه المجتمع الذكوري الذي حاول سلبها الحق في البوح بالكينونة الأنثوية، فرسمت الكلمة الشعرية وفق متطلبات ذاتها الرافضة لكل سلطة خارجية لا يفرضها الجسد ولا تؤسسها الروح، فأصبحت القصيدة عند سعاد في كثير من دواوينها عبارة عن قصيدة نحت جمالي بمهارات برناسية(15)؛ تقول في المقطع الأول من قصيدة «للأُنثى قصيدتها وللرجل شهوة القتل»:
سيظَلُّونَ وَرَائـي
بالبواريـدِ وَرَائـي
و الـسَّـكاكـينِ وَرَائـي
و المَجلَّاتِ الرَّخيصاتِ وَرَائي..
فـأنـا أعـرفُ مـا مَـوْقِـفُـهُـمْ
مِـنْ كِـتـابـاتِ الـنِّـسـاءِ..
غـيـرَ أنِّي..
مـا تـعـوَّدْتُ بـأن أنـظُـرَ يـومـًا لـلـوَراءِ..
فـأنـا أعـرفُ دَربـي جـيـدًا
والـصَّـعـالـيـكُ عـلـى كَـثْـرَتِـهِـمْ
لـن يـطـالـوا أبـدًا كَعْـبَ حِـذائـي
لـن يـنـالـوا شَعْـرَةً واحـدةً مـنْ كِـبْـريـائـي
فـلـقـد عـَلَّـمـَنـي الـشِّـعْـرُ، بـأنْ أمـْـشِـي
ورأسـي فـي الـسَّـمـاءِ..(16)
لقد أدركت الشاعرة العربية المعاصرة -وهي واحدة منهن– أن قصيدة النحت الجمالي والجسدي هي أفضل وسيلة لتقديم البديل الجديد ضمن فضاء الرفض الاجتماعي بمقاييس جمالية شاذة عن طقوس القبيلة ومعايير الكتابة الذكورية، فعملية التجاوز والكسر والتخطي تولّد بالضرورة عملية تشكيل وإبداع وخلق مختلفة تمامًا عن ذوقية الشرع الذكوري المتسلّط، حيث تعمد إلى تصوير كل ما أضحى مكسورًا أو متخطى أو متجاوزًا، سواء بفعل رفض الزمن له، أو بحكم عدم مطابقته لواقع الحال؛ هذا ما جعلها في قصيدة «تمنيات استثنائية لرجل استثنائي» تؤسس لمفهوم حب برناسي جديدة معالمه، تقول في المقطع الأول من القصيدة الطويلة:
عـامٌ سـعـيـدْ..
عـامٌ سـعـيـدْ..
إنِّي أُفـضِّـلُ أنْ نـقـولَ لـِبَـعْـضِـنَا:
«حُـبٌّ سـعـيـد».
مـا أضـيَـقَ الـكَـلِـمـاتِ حـيـنَ نـقـولـهـا كـالآخـريـنْ.
أنـا لا أريـدُ بـأنْ تـكـونَ عـواطـفـي
مَـنْـقـولـةً عـن أُمْـنِـيـاتِ الآخـريـنْ..
أنـا أرفـضُ الـحُـبَّ الـمُـعـبَّـأَ فـي بـطـاقـاتِ الـبـريـدْ..
إنّي أحـِبُّـكَ فـي بـدايـاتِ الـسَّـنَـهْ..
وأنـا أحِـبُّـكَ فـي نـهـايـاتِ الـسَّـنَـهْ..
فـالـحُـبُّ أكـبَـرُ مِـن جـمـيـع الأزمِـنَـهْ
والـحُـبُّ أرحَـبُ مـن جـمـيـعِ الأمـكِـنَـهْ
ولـذا أُفَـضِّـلُ أنْ نـقـولَ لـِبَـعْـضِـنَا
«حُـبٌّ سـعـيـد..»
حُـبٌّ يـثـورُ عـلـى الـطـقـوس الـمـسـرحـيَّـةِ فـي الـكـلامْ
حُـبٌّ يـثـورُ عـلـى الأُصـولِ..
عـلـى الـجـذورِ..
عـلـى الـنـظـامْ..
حُـبٌّ يـحـاولُ أنْ يُـغَـيِّـرَ كٌـلَّ شـيءٍ
فـي قـوامـيـسِ الـغـرامْ..!!(17)
من هنا صار الشعر عند سعاد الصباح المرأة الثائرة بأنوثتها مثل «كلمة السر؛ من عرف متى يقولها وكيف يقولها استطاع أن يزحزح الصخرة المسحورة عن المغارة، ويصل إلى صناديق المرجان والحور المقصورات في الجنان.. الشعر يمد يده إلى الأشياء الميتة فيحييها كما فعل موسى تمامًا، والفارق الوحيد، أن أداة موسى هي العصا.. وأداة الشعر هي القلم..(18)»
وتشترك سعاد الصباح في تشكيل الصورة البرناسية المطعّمة انطلاقًا من واقع المرأة العربية من جهة ومن كونها عضوًا في المنظمّة العربية لحقوق الإنسان، فقد تطوّعت للدفاع عن حقوق بنات جنسها بصوت قوي صريح. صوَّرت ما تعانيه المرأة المكبوتة والمخنوقة الصوت في المجتمعات الذكورية. وعكفت على تثوير حق المرأة في الحب والإحساس بالآخر ضمن حق أنوتثها المغيب، فصرخت في قصيدة «المجنونة» صرخة الشاعر البرناسي الثائر على واقع لا يجعل الحب دستورًا أبديًّا للحياة، تقول:
أنا في حالة حبٍّ ليس لي منها شفاءْ
وأنا مقهورةٌ في جسدي
كملايينِ النساءْ
وأنا مشدودةُ الأعصابِ لو تنفخُ في أُذْني تطايرتُ دُخانًا في الهواءْ
٭ ٭ ٭
يا حبيبي:
إنني دائخةٌ عشقًا
فلملمني بحقِّ الأنبياءْ
أنتَ في القطبِ الشماليِّ وأشواقي بخطِّ الاستواءْ
٭ ٭ ٭
انتمائي هو للحبِّ وما لي سوي الحبِّ انتماءْ(19)
وعن الحب وعمّن تُحب قالت في الجزء الأول من قصيدة «تمنيات استثنائية لرجلٍ استثنائي»(20):
إن آلية التخيُّل الإستاطيقي التي تندرج من الأدنى إلى الأعلى، حتى تصل إلى اللامحدود تنبئ عن قدرة الشاعرة العربية البرناسية في حقل الرياضيات الإقليدية التي تبدع فيها شيئًا أكثر من أن تحفظ جدول الضرب عن ظهر قلب. إنَّ هذه الطريقة الكلاسيكية التي تتخصص بمعالجة جانب الواقع الموضوعي من زاوية المجال، وضمن تشعبات وأبنية هندسية، تؤدي بها إلى الإطلاق الساكن والخروج عن مجال التفاعل الحيوي بين الفكر والطبيعة من جهة، والإحساس والواقع من جهة ثانية، لا تأخذ من الكلاسيكية التي استوعبت مناخات الفكر الإنساني منذ فجر تشكّله حتى اليوم، سوى القشرة الخارجية، التي ستبقى على سطح الواقع تطفو ضمن علائقها الذهنية المتشابكة.
زكية مال الله..
والكتابة بالكشف والبحث عن الرؤيا (قطر)
تنتهج الشاعرة زكية مال الله أسلوب الصدام مع الذات من منظور التجلي والحضور؛ بحثًا عن الأبعاد الأنثوية الرافضة لسلطة الآخر عبر تكريس الفعل ضمن الموروث الثقافي الراهن، ولتحقيق هذا التجلي أدركت الشاعرة أن آليات القصيدة التقليدية لا تستطيع أن تفعل البوح الأنثوي الكامن في دخيلائها، وعليه قررت الكتابة بأدوات جديدة تمكنها من تأسيس الذات الأنثوية الفاعلة تجاه متلق ذكوري طالما رفض كينونتها المتشاكلة والمختلفة عن كينونته وعن تفكيره…
لقد أدركت الشاعرة زكية مال الله أن الكتابة تساؤل، وأن كل محاولة في عوالم الشعر المعاصر لتقديم إجابة عما نطرحه من تساؤل هو طمس لروح الشعرية والشاعرية في الذات المبدعة، فقررت في تقديري الكتابة من منطلق الكشف والبحث عن الرؤيا، من منطق أن كل راءٍ كشاف وكل كشاف مبدع، فجاء إبداعها متقاطعًا من ذاتها الرائية رؤيا الأنثى المختلفة عن الذات وعن الآخر معًا… تقول في أسطر من قصيدة اعترافات:
من بدء التكوين وخلق الموجودات
اشتعلت نار في طيني..
جللني عبق
انسابت في جلد تصاويري أشباه
الشق الأول «لامرأة»
أرصفة تعترض الخصلات
تتماوج
تكبو .. تتساقط
يلعقها غيم النظرات
الشق الثاني «مرآة»
والشق الثالث أسفار من وجه مرسوم القسمات
أتعثر بين سطور الخط وأفواج الكلمات
تنشق نقاطي
لا قيد.. قد حل وثاقي..(21)
وعلى خُطا اعترافات الذات المتجلية الهاربة نحو أفق توقعاتها الأنثوية، تكتب زكية مستعيرة الطريقة الرامبوية (نسبة لآرثر رامبو) في قصيدة النثر، وهي الطريقة التي تؤسس للرفض المطلق في عالم عبثي يفضي للامعقول، إنها تحاول أن تجعل من النص – القصيدة في أبهى تجلياته الكلام المصفّى المتألق، الخارق للعادة في محاولة مستمرة لهدم الاحتذاء، إنه تشكيلٌ جديد للسكون بواسطة الكلمات(22)…. تقول في قصيدة سفر البهجة:
يصعد بي
حيث اللامطلق..
اللاموجود..
حيث أنا لم أبذر بعد..
أكتبه في اللامعنى
يكتبني في اللامحدود..(23)
وتقترب هذه الرؤيا المشعة من أسطر القصيدة – النص من موقف «ألبيرس» حين قال: إن الشعر لا يمكن أن يحدوه منطق لغوي معيّن، لأنه يخلق لغته الخاصة به دون النثر الذي عادة ما يرتبط بقوانين تقترب إلى العقل والانضباط، فالشعر هو التعبير «بواسطة اللغة البشرية عن انفعال أو حقيقة لم تُخلق اللغة البشرية للتعبير عنه، وبذلك يصبح الشعر مُخاتَلةً، تمردًا، نضالًا ضد اللغة»(24)، ويتكرر هذا في الكثير من قصائدها، وبخاصة في ديوان أسفار الذات حيث تعكف الشاعرة من منظور سريالي على استنطاق الأنا ضمن الجسد الأنثوي المضمر، تقول في أسطر من قصيدة هذيان جسد:
لا يعنيه أن يتكوم بين مداه
يلعق هذيان الشمس
يتسلط خلف حدود القمر
يلبس تاج الملكوت
لا يعنيه أن يدعى بالجسد الرق
يتآكل من دوده
يرغب أن يدفن في مقبرة عاج
يكتب بالصلصال
الجسد أنا
قد كنت بما أحببت
فاستعمرني الدود(25)
يتسارع عرض الذات والكشف عن الرؤيا في مختلف أشعار زكية مال الله، وبخاصة قصائد النثر منها، حيث تستعيض الشاعرة عن الأسس النمطية في القصيدة التقليدية بآليات حداثية مستلهمة من الروافد الفرنسية في تشكيل القصيدة الرؤيا، لقد آمنت زكية في تقديري ومن خلال استقراء أشعارها المختلفة وتجربتها التشكيلية في مجال القصيدة بأن «الشعر لا يتكلم عن العالم بقدر ما يتكلم بلسان العالم، وليس من مهامه تفسير العالم وتوضيحه لك؛ بل المنتظر منه هو صوغ تجربة مع العالم تعتمد صلة حميمية بمكوناته تسبق كل فكرة عنه؛ لأن وظيفته الجوهرية هي الإيحاء وليس المطابقة. إنه السموّ بتعبيرية الأشياء والسعي إلى إحداث عملية تشويش مقصودة في قاموس اللغة حين تسند صفات لأشياء غير معهودة تُربك القرائن بين المسند والمسند إليه..»(26). أقف في النهاية وقفة تقدير للشعرية العربية النسوية في الخليج لما لها من وسائل تفعيل الذات وامتطاء صهوة المتغير، ونبذ الثابت الذي طالما أرهق الكتابة حين خصّ الذكورة بالتفرد اللفظي صياغة وتشكيلًا، وجعل المرأة معنى ضمن فضاءات النظم الذكوري، هذا من جهة، ومن جهة أخرى نسجل أن الكتابة النسوية الخليجية وصلت إلى ملتقى حضاري تثاقفي مهم، جراء الطفرة الاجتماعية والاقتصادية الكبيرة التي تعيشها بلدان الخليج منذ التسعينيات من القرن الماضي، وهو ما انعكس على مستويات الكتابة الأدبية عامة والشعرية خاصة، فراجعت الشاعرة الخليجية حاضرها وماضيها معًا، وانطلقت بعد مقاربة واعية للتاريخ في ضوء متطلبات الراهن لتؤسس عوامل رؤيا مبنية على جملة من التساؤلات الفكرية والفلسفية عجلت بظهور أنماط شعرية تتماشى مع التصور الفكري الجديد عندهن. ولعل هذا ما يفسر الحضور القوي لقصيدة النثر وشعر التفعيلة. كما لا يجب إغفال المناخ الثقافي الجيد في دول الخليج وانتشار الدورات الفكرية والثقافية والورشات التدريبية النقدية والأدبية، والأمسيات الشعرية، والقراءات الأدبية المختلفة في بعث مواهب التشكيل بقوة.
ومجمل القول في فلسفة المقاربة السابقة نسجله في النتائج الآتية:
أولًا- حضر التأسيس للكتابة النسوية في الخليج حضورًا قويًّا ولافتًا، واستطاع أن يؤسس لظاهرة فنية وتشكيلية جديدة في الشعرية العربية، ويستدل على هذا بالعدد الوفير والمتميز من الإصدارات الشعرية النسوية في مدة وجيزة تمثلت في العقود الثلاثة الأخيرة.
ثانيًا- أصبح الوعي الماثل في كتابة المرأة وعيًا بالفكر الإنساني العام المطروح عبر انبثاق مفهوم النسوية في الرؤى والمفاهيم الغربية المعاصرة. ويتجلى هذا في تعدد أنماط النتاج الإبداعي النسوي الخليجي وتحوله جماليًّا ودلاليًّا إلى مشروع مكاشفة ووعي ومثاقفة في الآن ذاته.
ثالثًا- تمكنت الشواعر –النسويات– الخليجيات من مقاربة وتمثل نماذج التشكيل المعاصرة؛ فلقد وفر لهن الشعر الحر وقصيدة النثر آليات ممارسة الرفض والتأسيس معا، وجعلهن يدركن الوعاء المناسب لصبّ تجربتهن المكتومة عبر عصور مديدة لبث شجونهن ونفث همومهن.
رابعًا- عملت الشعرية النسوية المعاصرة في الخليج على كسر جدلية الصراع الثقافي الكامن في المحمولات المتراكمة منذ القديم، وعلى إعلاء الذات وتضخيم الأنا الأنثوية في فضاء كتابة نسوية مدعمة بنظرية وافدة على المنطقة؛ عدت من بين الروافد الأساسية المؤثرة في تفعيل الكتابة الشعرية النسوية في الخليج.
—————————
هوامش وإحالات البحث :
(1) راجع :
Catharine Stimpson: The Building of feminist Criticism, published in R .Cohen ed. New York.1989.p135.
(2) عبد الله الغذامي: المرأة واللغة، ص 10.
(3) المرجع نفسه، ص 11.
(4) ظبية خميس: أدب العورة، مجلة الدوحة، مجلة شهرية ثقافية تصدر عن وزارة الثقافة القطرية، عدد 21.
(5) هدى السعدي: دموع البنفسج، دار عكرمة،دمشق، سوريا، 2004م، ص 32.
(6) المصدر نفسه ص 43.
(7) نفسه ص 46.
(8) ناصر أبو عون: جريدة عُمان، الصادرة في سلطنة عُمان، الملحق الثقافي: شرفات الأدبي، نقلا عن الرابط الآتي:
http://nasseroon.maktoobblog.com
(9) سهيل زكار: في التاريخ العباسي والأندلسي: السياسي والحضاري، جامعة دمشق 1998م،ص 338 وما بعدها.
(10) صالحة غابش: ديوان «بمن تلوذين يا بثين»، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة 2002م،ص 35.
(11) إبراهيم اليوسف: صالحة غابش والاشتغال في قلب الحداثة الشعرية، جريدة الخليج الثقافي،تصدر عن لمؤسسة دار الخليج للصحافة والطباعة والنشر عدد، 26/10/2010م .
(12) صالحة غابش: ديوان «بمن تلوذين يا بثين»، ص 14.
(13) المصدر نفسه ص 65.
(14) صالحة غابش: ديوان فضائي والأجنحة، منشورات الدار المصرية اللبنانية، القاهرة 1998م، ص 34.
(15) البرناسية Le parnassisme ou le Parnasse: مذهب أدبي فلسفي لا ديني قام على معارضة الرومانسية من حيث أنها مذهب الذاتية في الشعر، وعرض عواطف الفرد الخاصة على الناس شعرًا واتخاذه وسيلة للتعبير عن الذات.. بينما تقوم البرناسية على اعتبار الفن غاية في ذاته لا وسيلة للتعبير عن الذات، وهي تهدف إلى جعل الشعر فنًّا موضوعيًّا همه استخراج الجمال من مظاهر الطبيعة أو إضفاؤه على تلك المظاهر، وترفض البرناسية التقيد سلفًا بأي عقيدة أو فكر أو أخلاق سابقة. وهي تتخذ شعار «الفن للفن».
(16) سعاد الصباح: امرأة بلا سواحل، قصيدة: للأنثى قصيدتها، وللرجل شهوة القتل، دار سعاد الصباح للنشر والتوزيع، الكويت، 1994م، ص61.
(17) سعاد الصباح: لآلئ الخليج، مختارات شعرية بالعربية والألمانية. ترجمة د. عدنان جواد الطعمة. ط1/ ماربورغ، 1995م، ص 81.
(18) نزار قباني: «الله والشعر»، مجلة «الآداب» البيروتية، عدد 4، إبريل 1957م، ص 2 .
(19) سعاد الصباح: لآلئ الخليج، ترجمة د. عدنان جواد الطعمة، ص 123.
(20) المصدر نفسه ص 138.
(21) زكية مال الله، ديوان: أسفار الذات، الأعمال الكاملة، ج 2، المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث، قطر، 2006م.
(22) بنظر حمادي، عبد الله . البرزخ والسكين، دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع، ط3، الجزائر،2002م، ص 5.
(23) زكية مال الله، ديوان: مرجان الضوء، مركز الحضارة العربية،ط1، القاهرة، 2006م، ص 64.
(24) ألبيرس، ر. م . الاتجاهات الأدبية الحديثة، ترجمة جورج طرابيشي،ط3، منشورات عوبدات، بيروت / باريس، 1983م، ص 126.
(25) زكية مال الله، ديوان: من أسفار الذات،
(26) حمادي، عبدالله . البرزخ والسكين، ص 6 .