التنوير و«ثنائيّة» المشرق والمغرب في مشروع الجابري
تحتلّ مسألة التنوير في الفكر العربيّ المعاصر مركزًا محوريًّا يؤكّده تقاطعها مع سائر شروط النهضة والتحديث. ومصطلح التنوير يكاد يكون مرادفًا للعقلانيّة، التي اعتبرت نمطًا تفكيريًّا يضمن تجاوز التخلّف وعوامل الشدّ إلى الوراء؛ مثل التعصّب، والظلاميّة، والإيمان بقوى معرفيّة تلغي التفكير المنطقيّ الاستدلاليّ. غير أنّ الزاوية التي نُظِر منها إلى هذه المسألة كانت تختلف من مفكّر عربيّ إلى آخر، وبخاصّة من مشروع فكريّ إلى آخر، وذلك وفق المقاربات المنهجيّة و»الأيديولوجيّة» المعتمدة. فقد انطلق عددٌ من المفكّرين من حقيقة القصور الذي يشهده «العقل العربي» أو «العقل الإسلامي»، وراحوا يبحثون في الأسباب التاريخيّة والإبستمولوجيّة التي جعلت هذا القصور مزمنًا، وتسبّبت في فشل النهضة العربيّة وفي تعمّق التبعيّة للآخر. ومن اللّافت للانتباه أن نجدهم متّفقين على العودة بجذور هذا القصور إلى حِقَبٍ مضت، حقب النشأة والتطوّر والجمود التي شهدها العقل العربي الإسلامي.
ويعدّ مشروع محمّد عابد الجابري في هذا الصدد من أبرز المشاريع الفكريّة نظرًا إلى طابعه الشموليّ الذي اتّخذ نسقًا ذا بنيةٍ واضحةِ المنطلقات والنتائج، ونظرًا أيضًا إلى قدرته على إثارة الإشكاليّات المحرجة، واستثارة القارئ عبر استدراجه إلى المشاركة في الفعل النقديّ الذي انبنى عليه. ومجادلة هذا المشروع من خلال نقاط عديدة منهجيّة ومعرفيّة، لا يمكن بأيّة حال أن تمسّ قيمته في نقد «العقل العربيّ»، بل على العكس من ذلك تدعمه عن طريق التفكير معه وإثرائه بالمساءلة والحوار. وفي هذا المقال سنكتفي بمجادلة المعيار الجغرافي – الثقافي الذي بنى عليه الجابري مشروعه النقديّ الذي أسند إليه دورًا لا يُستهان به في تحديد عوامل التنوير العربيّ وعراقيله.
صرّح الجابري في أكثر من سياق بأنّ العقلانيّة مفتاح التنوير، واعتبرها -إلى جانب الديمقراطيّة- شرطَي النهضة العربيّة المنشودة. وراح يبحث في مدى حضورها في الأنظمة الفكريّة التي كوّنت -ولا تزال- العقل العربي، معتقدًا أنّ ذلك الحضور هو الذي يمكن أن يؤسّس لعقلانيّة عربيّة منفتحة على مكتسبات الحضارة الإنسانيّة من ناحية، ومتجذّرة في تاريخ الأمّة وهويّتها من ناحية ثانية؛ لأنّه –حسب رأيه- «لا سبيل إلى التجديد والتحديث إلا من داخل التراث نفسه وبوسائله الخاصّة وإمكانيّاته الذاتيّة»، وذلك بتوظيف «وسائل عصرنا المنهجيّة والمعرفيّة». (بنية العقل العربي: المركز الثقافي العربي، 1991م، ص568).
غير أنّ مشروع الجابريّ رغم قيمته في فهم الثقافة العربيّة فهمًا جديدًا، ظلّ خاضعًا في جانبٍ منه لنزعة أيديولوجيّة؛ ففيه تداخلت المعايير الإبستمولوجيّة العلميّة، والمعايير (الجغرا-ثقافيّة) في علاقتها بالانتماء الجغرافي للمفكّر. وكنّا نعتقد أنّ هذه المعايير قد ولّت مع ما ولّى عهده من مواقف تقليديّة، حاربها الجابري نفسه دون هَوادة. إنّها المعايير التي أنتجت فكرة المفاضلة بين المشرق والمغرب: أيّهما يتقدّم على الآخر داخل الإطار الحضاريّ الواحد الذي يجمعهما. وهنا يحقّ لنا أن نسأل: كيف يحقّق التنويرَ مشروعٌ يقسّم أنظمة العقل العربي وفق معايير قديمة أنتجتها ظروف سياسيّة لا علاقة لها بالفكر وبالإبستمولوجيا؟ وكيف يستقيم أن ننسب إلى جهةٍ ما كاملَ العقلانيّة، وننسب إلى الأخرى كامل اللّاعقلانيّة، رغم ما يجمع بينهما من سياق تاريخيّ واحد، واختيارات ثقافيّة واحدة؟
المنهج الإبستمولوجي في قراءة الخطاب:
لقد استفاد الجابري من الرصيد الهامّ الذي حقّقته الفلسفة الغربيّة الحديثة –بحكم اهتماماته الفلسفيّة- في مستوى تحليل الفكر العربيّ الإسلاميّ ومنتجاته الفكريّة؛ فقام بتطبيق المنهج الإبستمولوجي في قراءة الخطاب، معتبرًا أنّنا في أشدّ الحاجة إلى عمل من هذا القبيل بهدف تبيّن الأسس المعرفيّة والمنطقيّة التي قام عليها الفكر العربيّ، وخصوصًا النجاح في حسن استثمار الجوانب العقليّة المميّزة في تراثنا والداعمة لمسار حداثة عربيّة. وصرّح بأنّ مشروعه «نقد العقل العربي» قائم على «تحليل الأساس الإبستمولوجي للثقافة العربيّة التي أنتجت العقل العربيّ». (تكوين العقل العربي: المركز الثقافيّ العربي، 1991، ص33). وذلك بهدف الكشف عن نوعيّة الآليّات العقليّة التي تمكّن من اكتساب المعرفة –انطلاقًا من مبادئ وقواعد محدّدة- وهو ما يؤسّس مفهوم «النظام الفكريّ – Epistémè». وتوصّل إلى بلورة ثلاثة أنظمة هي: البيان، والبرهان، والعرفان. وسنتوقّف عندها بعض الشيء؛ لأنّ دواعي تحديدها ومعايير توزيع الحقول المعرفيّة بينها هي التي ستكشف عن معايير المفاضلة بين المشرق والمغرب، التي كانت توجّه من الداخل كامل المشروع الفكريّ الذي أسّسه الجابريّ.
أدرج الجابري ضمن نظام البيان نصوص العلوم عربيّة المنشأ؛ وهي: الفقه، والكلام، والنحو، والبلاغة. (تكوين العقل العربي، 96- 133؛ بنية العقل العربي، 13- 248). وتتمثّل خصائص هذا النظام في أنّ «عمليّة التفكير محكومة دومًا بأصل؛ أي أنّ العقل البيانيّ فاعليّة ذهنيّة لا تستطيع ولا تقبل ممارسة أيّ نشاط إلا انطلاقًا من أصل معطى [نصّ، أي الكتاب والسنّة] أو مستفاد مـن أصل معـطى [ما ثبت بالإجماع والقياس]». (بنية العقل العربي، 113).
إذن ليس للعقل من دور في هذا النظام إلا الاستدلال على صحّة النصّ أو استثماره؛ لذلك هو محدود الفعالية ولا دور له إلا في حسن الاتّباع. والخطابات الممثّلة لهذا النظام لا تخرج عمّا أنتجه أعلام من المشرق، هم سيبويه والشافعي والقاسم الرسّيّ والجاحظ وابن الأنباري والسيرافي وأبو الحسن الأشعريّ وابن جنّيّ والتوحيدي والقاضي عبدالجبّار، وأبو الحسين البصريّ والسكاكي، والقائمة طويلة. لا يكشف تتبّعها عن أسماء مغربيّة إلا نادرًا. وكان حكم الجابري على هؤلاء أنّهم جانبوا العقلانيّة؛ لأنّهم خضعوا لسلطة مرجعيّة لا تعدو أن تكون «عالم الأعرابيّ» في شبه الجزيرة. (بنية العقل العربي، 248).
النظام الثاني هو العرفان: ويتمثّل في أنّ الحصول على المعرفة «لا يكون بالعقل ولا بالحسّ، بل بالكشف؛ وهو ما يُلقى في القلب إلقاءً عندما يرتفع الحجاب بينه وبين الحقيقة العليا». (تكوين العقل العربي، 374). فالعرفان إلغاءٌ للعقل. (بنية العقل العربي، 379). وتمثّل هذا النظام كلّ التيّارات العرفانيّة، الصوفيّة منها والشيعيّة، بروافدها الأجنبيّة الشرقيّة. وكان الجابري صريحًا في الإعلان عن وقوفه موقفًا نقديًّا من «العرفان»، من منطلق تحليله العقلاني المستنِد -كما قال- إلى «الإيمان بقدرة العقل على تفسير كلّ الظواهر تفسيرًا يعطيها معنى معقولًا»، ومن منطلق إيمانه «بقدرة العقل على تفسير ما يسمّيه العرفانيّون: الكشف». (بنية العقل العربي، 374- 375). ويؤكّد أنّ الكشف العرفاني هو «أدنى درجات الفعالية العقليّة». (بنية العقل العربي، 378)، وأنّ أعلامه لا يتجاوزون حدود المشرق، من قبيل إخوان الصفا والكليني والقشيري والهجويري وابن عربي، (نشأ في الأندلس وعاش في المشرق)، والطوسي وغيرهم. وعندما ذكر ضمن هذا النظام عَلَمًا مغربيًّا هو الشيعيّ القاضي النعمان، عرّفه بفترة انتمائه إلى المشرق مع المعزّ لدين الله الفاطمي مؤسّس القاهرة. (بنية العقل العربي، 321)؛ حتّى يحافظ على الصورة الناصعة لعقلانيّة مغربيّة كما سنرى.
النظام الثالث هو البرهان: يعرّفه الجابري بأنّه «يتأسّس بوسائله الخاصّة التي هي العقل وما يضعه من أصول، وليس له سلطات مرجعيّة خارجة عنه». (بنية العقل العربي، 416)، وبأنّه يقوم على «منطلقات منهجيّة وتصوّريّة مستمدّة من الحقل المعرفيّ العلميّ لذلك العصر (أي العصر القديم)؛ بل لكلّ عصر… مثل الاستنتاج والاستقراء والسببيّة». (بنية العقل العربي، 552). لكنّ العقل في نظام البرهان المشرقي ظلّ مُفرَغًا من محتواه العقليّ الإبداعيّ؛ لأنّ العقل فيه لا يعدو أن يكون شكليًّا، ولم يبتعد كثيرًا عن وظيفة خدمة البيان والعرفان، حسب استثمار الفلاسفة المشارقة له، مثل الكندي والفارابي وابن سينا وغيرهم.
العقل العربي وخيبة الأمل
إلى هذا الحدّ من تحديد أنظمة العقل العربي بحقولها المعرفيّة وأعلامها «المشارقة»، يُصاب القارئ بخيبة أمل في هذا العقل العربي الذي عمل وفق أنظمة تصادر العقل أو هي تحدّ من فاعليته وإبداعه المعرفيّ. لكن فجأة ينبعث أملٌ فريدٌ من نوعه، مصدره المغرب والفكر المغربيّ؛ فخارج النظم الثلاثة المذكورة، وفي سياق تفكّكها، يقدّم الجابري فكرًا مغربيًّا – أندلسيًّا تجاوز مآزقها الإبستمولوجيّة وأسّس عقلًا «برهانيًّا خالصًا»- حسب عبارته. ويتمثّل هذا العقل في منطق استدلال عقليّ صِرْف. كان هذا مع ابن حزم وابن باجة وابن رشد والشاطبي، ومع ابن خلدون بخاصّة. هؤلاء عنده هم «أعلام التجديد في الثقافة العربيّة الإسلاميّة في المغرب والأندلس»، برز الواحد منهم «كمَعْلَمة من معالم لحظة النقد التجاوزي»، حسب قوله. (بنية العقل العربي، 541). فابن رشد يمثّل قمّة ما وصل إليه العقل العربي في ميدان الفلسفة، وابن خلدون يمثّل أوج الفكر التاريخيّ والاجتماعي والسياسيّ في الثقافة العربيّة الإسلاميّة، والشاطبي يمثّل قمّة ما وصل إليه العقل العربي في ميدان الأصول». (بنية العقل العربي، 538). وهؤلاء جميعًا «يقعون على مستوى واحد من النضج العقلاني، وعلى درجة واحدة في مجال التجديد والإبداع العقليّين». (بنية العقل العربي، 538). ومن هنا يهيِّئ الجابري الفكرَ المغربي لتمثيل الحلقة العقليّة الأولى التي يمكن أن نربط معها اليوم أواصر التواصل في مجال التنوير العربيّ.
كان هذا صريحًا في قوله: «ما ننشده اليوم من تحديث للعقل العربي وتجديد للفكر الإسلامي يتوقّف ليس فقط على مدى استيعابنا للمكتسبات العلميّة والمنهجيّة المعاصرة -مكتسبات القرن العشرين وما قبله وما بعده- بل أيضًا ولربّما بالدرجة الأولى يتوقّف على مدى قدرتنا على استعادة نقديّةِ ابن حزم، وعقلانيّةِ ابن رشد، وأصوليّةِ الشاطبي، وتاريخيّةِ ابن خلدون، هذه النزوعات العقليّة التي لا بدّ منها إذا أردنا أن نعيد ترتيب علاقتنا بتراثنا بصورة تمكّننا من الانتظام فيه انتظامًا يفتح مجالًا للإبداع، إبداع العقل العربي داخل الثقافة التي يتكوّن فيها». هذا ما بدا للجابري كفيلًا بتوفير «الشروط الضروريّة لتدشين عصر تدوين جديد في هذه الثقافة»، وذلك عن طريق «استعادة العقلانيّة النقديّة التي دشّنت خطابًا جديدًا في الأندلس والمغرب». (بنية العقل العربي، 552). ولا يخفي في هذا المستوى مفاضلته الصريحة بين هذه «المكتسبات» العقلانيّة المغربيّة وما اعتبره «تداخلًا تلفيقيًّا مكرّسًا للتقليد في عالم البيان، وللظلاميّة في عالم العرفان، وللشكليّة في عالم البرهان». وحمّل هذا التداخل التلفيقيّ المشرقيّ مسؤوليّةَ الأزمة التي تردَّى فيها الفكر العربي ولم يخرج منها إلى اليوم. (بنية العقل العربي، 558- 559).
هو ذا مشروع الجابري وفق توزيع (جغرافي – ثقافي): حظُّ المشرق فيه: نظامان غاب فيهما العقل أو كان حضوره فيهما ضعيفًا، وهما: البيان، والعرفان. ونظام عقلانيّ النزعة لكن غلبت عليه الشكليّة وغاب الإبداع وهو البرهان. أمّا حظّ المغرب من العقلانيّة النقديّة المبدعة فهو وافر، كما رأينا. غريبٌ هذا التوزيع الخاضع لفكرة قديمة مدارها المفاضلة بين جهتَيْ حضارة واحدة وثقافة واحدة وسياق تاريخيّ واحد. إنّه إعادة إنتاج لموقف سياسيّ افتتحه العبّاسيّون عندما خرجت من نفوذهم مناطق الغرب الإسلامي: الأمويّون في الأندلس، ودول خارجيّة أو شيعيّة في شمال إفريقيا. ومفاده أنّ الشرق أفضل من الغرب «الخارج عن الشرعيّة». وردّ المغاربة الفعل فقلبوا المفاضلة. إذن هو موقف مرتبط بالسياسة ومقتضياتها الظرفيّة، ولا علاقة له بالمعرفة وآليّات إنتاجها؛ فالبيان والعرفان موجودان في المشرق مثلما هما موجودان في المغرب. ولأنّ السياق لا يسمح بالتوسّع نكتفي بالإشارة إلى أنّ البيان في صيغته المالكيّة كان مسيطرًا على الإنتاج الثقافيّ في المغرب، وقاد الإمام سحنون حملته ضدّ المعتزلة بنفس الطريقة التي قاد بها ابن حنبل وأضرابه هذه الحملة في المشرق، والعرفان الشيعيّ في المغرب عُرِف مع الفاطميّين قبل انتقالهم إلى المشرق (مصر). والبرهان موجود في المغرب مثلما هو موجود في المشرق، بل لعلّه هناك أوضح حضورًا في مرحلة التأسيس، مع القدريّة أوّلًا، ثمّ مع المعتزلة، ومع قسم من الفلاسفة. ونعتقد أنّ إثارة الجابري لإشكاليّة المفاضلة رمت بظلالها على المعايير الإبستمولوجيّة التي اعتمدها في توزيع العلوم والحقول المعرفيّة داخل الأنظمة الثلاثة. فعند التدقيق في النماذج التي اعتمدها في الاستدلال على مادّة كلّ نظام نتبيّن تعمّده السكوت عن النماذج التي تخالف منطق توزيعه، أو تعمّده التأويل المتعسّف لبعض منها؛ لحملها على دعم مشروعه المحمول مسبقًا على مناصرة المغرب. ولنقدّم الأمثلة التالية لأنّ السياق لا يسمح بالتوسّع كثيرًا:
علم الكلام الاعتزالي في بداياته -أي مع عمرو بن عبيد ومع واصل بن عطاء والنَّظَّام والعلاّف والجاحظ- لا يمكن أن يُدرج في النظام البياني؛ لأنّ آليّات التفكير المعتمدة فيه ومنطق ترتيب مصادر المعرفة مباينة لما هو موجود في النظام البياني: ففي الوقت الذي يضع فيه علماء الكلام العقل في الصدارة محكّمين إيّاه في فهم النصّ وتأويله وفق منطق عقليّ، يضع الفقهاء النصّ في الصدارة، مؤخّرين العقلَ إلى المرتبة الرابعة باعتباره خادمًا لحقائق «النصّ» ليس أكثر. وعلم الكلام في بداياته مشرقيّ.
الجابري يقع في الخلط
ما أوقع الجابري في هذا الخلط بينه وبين الفقه أو أصول الفقه في آليّات إنتاج المعرفة، هو عدم انتباهه إلى خصوصيّات الخطاب الكلاميّ في مرحلته الأولى -أي قبل الحدث «الأشعريّ»- وهذا ما جعله يقحم علم الكلام ضمن النظام البيانيّ، جنبًا إلى جنب مع علم الفقه وأصوله. لقد اقتصر الجابري على المفهوم المتأخّر لعلم الكلام الذي أحدثه الأشعريّ، عندما خرج على المعتزلة وأوجد صيغة سنّيّة «نصّيّة» لهذا العلم بأن جعله خادمًا لحقائق الشريعة مدافعًا عنها ضدّ «أصحاب البدع». ونتبيّن من خلال ما وصلَنا من نصوص تمثّل هذا الخطاب أنّ مفهوم العقل عند المعتزلة الأوائل يخضع لنفس الآليّات الفكريّة التي حدّدها الجابري لدى بعض مفكّري الغرب الإسلاميّ مثل ابن باجة وابن رشد.
في المقابل، لا يمكن التسليم بأنّ كلّ الأعلام المغاربة الذين وضعهم في خانة العقل، أو في النظام البرهانيّ «الخالص» -كما قال- هم كذلك. ويكفي أن نقف بعض الشيء عند ابن حزم وابن خلدون؛ فمفهوم العقل عند ابن حزم هو ما خدم النصّ، ولا يمكنه حتّى القيام بعمليّة القياس. وهو يرى أنّ الواقع –واقع المسلمين- عليه ألا يتغيّر حتّى يبقى وفيًّا ومتطابقًا مع التشريع المكتمل والنهائيّ الذي أنزله الله. وما دور العقل إلا الوقوف على الأحكام الموجودة بالضرورة في «النصّ». ويؤكّد ابن حزم في مسألة المرجعيّة التي يجب أن توجّه فعل الإنسان، أن لا «حُسنَ» ولا «قُبحَ» إلا ما علّمنا الله، مخالفًا بذلك المعتزلة في مفهومهم للحسن والقبح العقليّين؛ لذلك فإنّ مكان ابن حزم هو «البيان» وليس «البرهان الخالص» وفق توزيع الجابري. أمّا ابن خلدون فإنّ كلّ ما ذكره الجابري في شأن عقلانيّته هو من باب الإسقاط والتوظيف الأيديولوجي الصريح؛ فهو خطاب لا يتجاوز –من حيث نوعيّة دلالاته ومن حيث آليّاته الفكريّة- ثوابتَ النظام البيانيّ؛ بل إنّه الخطاب الوحيد الذي نجح في رفع الثوابت «النصّيّة» التي يكرّسها نظام البيان، إلى درجة القانون الاجتماعيّ والتاريخيّ. وقد درسنا هذا الجانب في كتابنا «حفريّات في الخطاب الخلدونيّ: الأصول السلفيّة ووهم الحداثة العربيّة» (سوريا، دار بترا، 2008م)، ولا يمكن التوسّع فيه أكثر لضيق المقام.
لذلك كان حرص الجابري المسبق والواضح على جعل ثقافة الغرب الإسلامي عنوانَ العقلانيّة اللازمة اليوم لفعل التحديث، وراء سكوته عن مؤشّرات العقلانيّة في المشرق، داخل الفكر السنّيّ، أو الاعتزاليّ المبكّر، أو الفلسفيّ؛ ووراء تأويله الحداثيّ المسقط على نصوص مغربيّة مثل نصوص ابن حزم والشاطبي وابن خلدون. لقد قام في هذه المسألة بالذات بعمليّة تطويع للمادّة المعرفيّة حتّى تستقيم مع موقف أيديولوجيّ مسبق.
إنّ مجادلة الجابري في قراءته لنصوص الثقافة العربيّة، دليل على قدرة هذه القراءة على الاستحواذ على القارئ، لكن بطريقة لا تسلبه حريّة التفكير؛ فهي مبنيّة أساسًا على «العقلانيّة النقديّة» وعلى فعل الإبداع، وبقدر ما تنقد تقبل النقد. لقد توصّل صاحبها من ورائها إلى التنبيه إلى الشروط الإبستمولوجيّة اللازمة لفعل التنوير العربي، وهي الشروط التي لا تزال في حاجة إلى الكثير من المراجعات النقديّة، لعلّ في صدارتها مراجعة الثنائيّة البالية مشرق- مغرب. ثمّ أَلَمْ يقل ابن خلدون في هذه الثنائيّة: «ليس بين قطر المشرق والمغرب تفاوتٌ بهذا المقدار الذي هو تفاوت في الحقيقة الواحدة»؟ ألم يكن أولى بالجابري -وهو الذي يعلي عقلانيّة ابن خلدون- أن يتّبعه في هذا الموقف؟!