القلم.. في عصر الصف الضوئي والرسائل الخلوية أداة التدوين الأولى تخوض معركة البقاء أمام تسارع طفرة الأتمتة والثورة التقنية
في حالةٍ من الصدمة الذهنية، تذكّرَتْ أن آخر قلم رأتْهُ كان قبل شهرين.. كان ذلك عندما طلبت منها صديقتها قلمًا؛ لتوقِّع على ورقة مالية.. فأجابتها: على الفور.. لكنها حين فتحت حقيبة الكمبيوتر وجدت كل شيء إلا القلم.. لتفتش وصديقتها المنزل -المليء بالإلكترونيات- للبحث عن قلم، في المكتب، والمطبخ والأدراج، وغرف النوم، وحتى في السيارة، ولكن دون جدوى، فقررت أنها تنعي حياة القلم في عصر الكمبيوتر… هذه القصة ليست من قبيل المبالغة، فقد ورد فحواها في مقالٍ حزين تحت عنوان: «مات القلم» للكاتبة والصحفية الأميركية إيلين واينستين في صحيفة «نيويورك تايمز» في يوليو 2014م.
من منا لم يصادفه نفس هذا الحدث! مع فارق سبب غياب القلم الذي بات هامشيًّا في حياتنا المشغولة حدّ التشويش بما حولنا وبما في أناملنا من عصف الرسائل الخلوية والصف والضوئي. لكن هل هذا كافيًا لأن يغادر القلم قائمة أدوات تواصلنا وتبادل أفكارنا وتدوين يومياتنا؟! قبل الإجابة عن هذا السؤال في هذا العمل الصحفي سنعرّج على مفردة القلم مكانةً، وتطورًا صناعيًّا وباختزال يغني عن التفاصيل الكثيرة التي لا يتسع لها هذا المقام.
«القلم».. أداة التدوين الأولى والقاسم المشترك الأسمى مكانةً في الثقافات الإنسانية المختلفة، ليس لأنه ارتبط بفك المدارك المعرفية لطفولتنا في المدرسة فحسب، بل لارتباطه الأزلي بتنوير الأجيال التي تعاقبت على مرّ الحياة البشرية، ليصير القلم بناء على هذا المعطى نبراس الذاكرة، وميلاد تاريخ التدوين، وما لم يدونه القلم كان يسمى بـ«ما قبل التاريخ». غير أن نزول القرآن باللغة العربية وانتشار الإسلام وتأسيس دولته شكّل نقطة التحول المحورية باتجاه تطور صناعة الأقلام عند العرب والمسلمين؛ ليكونوا هم أصحاب الريادة الأولى في البُعْد النظري والتجريبي لاختزال أدوات المقلمة التي كانت تتألف من تفاصيل كثيرة جدًّا إذا تعطلت أو تغيبت واحدة من هذه الأدوات تعثرت وظيفة الكاتب. ورغم سباق الخلفاء والولاة على صنعة هذه الأقلام المختزلة لفسيفساء المقلمة، إلّا أن المحبرة والريشة والقلم المصنوع من القصب وآلية الغمر في المحبرة ظلت زمنًا طويلًا(1).
دوافع التطوير
لعل أبرز دوافع مساعي التطوير الحرفي والصناعي لوسيلة الكتابة «القلم» هو تعليم الصغار للقراءة والكتابة؛ إذ كانت أدوات الريشة والمحبرة واللوح الخشبي والدواة، صعبة بالنسبة لهم؛ لذا ظل العقل الإنساني باحثًا عن وسيلة كتابية تكون خفيفة على الطفل ويكون أثرها المكتوب قابل للكشط على غرار الأصابع الطباشيرية أو الفحمية. فكان اكتشاف الغرافيت عام 1500م، بــــــ(إنجلترا) هو بداية التفكير باستخدام هذه المادة المشابهة للرصاص في تعليم الصغار الكتابة(2) بما يسمى قلم الرصاص الذي بدأ إنتاجه في ألمانيا عام 1662م. وفي عام 1795م اكتشف «نيكولاس جاك» طريقة لخلط مسحوق الغرافيت مع الطمي، وتشكيل هذا الخليط في شكل أعواد تُحرَق في فرن حراري «أتون» وباختلاف نسب خلط الغرافيت إلى الطمي تختلف درجة صلابة الأعواد. وفي عام 1812م صنع النجار الأميركي «ويليام مونرو» من «كونكورد» بولاية «ماساشوستس» أول قلم رصاص خشبي أميركي، وفي عام 1858م حصل «هايمن ليبمان» على أول براءة اختراع، بإضافته ممحاة إلى طرف القلم(3). وفي عام 1890م أعطى صانعو أقلام الرصاص منتجاتهم أسماء وعلامات تجارية خاصة بها، وميَّز كل صانع أو منتج أقلامه الرصاصية -المصنوعة من خشب الصنوبر أو الأرز الشرقي الأحمر في ولاية «تينيس» والأجزاء الأخرى بجنوب شرق الولايات المتحدة- بألوان تميزه عن غيره(4). وفي مطلع القرن العشرين، ظهرت الأقلام الملوّنة، وعودها مصنوع من أصباغ، ممزوجة بالصلصال، والأصماغ.
قصة التحول الكبير
«في أحد أيام 1884م كان أحد عملائه يتأهب للتوقيع على طلب عقد تأمين ذي قيمة كبيرة. ولحظة التماسه مقلمته -المكونة من ريشة ومحبرة سهلة الحمل- أغرق طوفان المداد الوثيقة، مغضبًا العميل، الذي أحال الصفقة إلى وكيل منافس، ليترك رجل الأعمال الأميركي «لويس أديسون ووترمان»، مهنته كبائعٍ لعقود التأمين، متجهًا لاستخدام مواهبه الطبيعية الميكانيكية في اختراع قلم حبر عملي يستطيع توزيع المداد في انسياب مستمر، ومنفذ ضابط لسيل الحبر، يحركه الكاتب ويوقفه حسب حاجته. ولكي يضمن ووترمان فيضًا منتظمًا من الحبر، استخدم الخاصية الشعرية، وهي خاصية السوائل الطبيعية في الانسياب إلى أعلى في الأنابيب الضيقة ضد الجاذبية الأرضية، لتبقى نظرية ضبط المداد بالخاصية الشعرية تستخدم في كل أقلام الحبر حتى اليوم(5)، وفي عام 1888م سجل الأميركي «جون لاود» براءة اختراع قلم الحبر الجاف ذي السن الكروي بنمطه الجديد، ليصل هذا النوع إلى أوج الشهرة في عام 1945م، غير أن الأمور انقلبت رأسًا على عقب، حين انخفض ثمن هذا النوع من الأقلام من خمسة عشر دولارًا إلى خمسة عشر سنتًا نظرًا لما كان يحدثه القلم من بقع حبرية في الورق(6). وفي عام 1949م اكتشف المجري «فران سيخ» التركيب السري الذي فك به أزمة قلم الحبر الجاف، ولمع اسمه بعد ذلك الاختراع، إلا أن الشاب «باتريك فراولي» -من سان فرانسسكو- تمكن من اختراع حبر يسمى «سيخ الجديد» ليمد به قلم الحبر الجاف منهيًا مشكلة البقع، ليتجه التطوير الصناعي نحو التفنن في شكل القلم بما يوافق ثقافة الكتابة، حيث استشعرت الشركات المصنعة لسباق الثراء والتفاخر بالقلم كرمز للكتابة والتنوير والشهرة، لتتنافس في مضمار صناعة الأقلام الفاخرة والثمينة المرصعة بالذهب والفضة، والأحجار الكريمة(7).
طلائع العصر التقني
في عام 1889م دوّن الكاتب القانوني السيّد «واريل» ملاحظات عدة بشأن مستقبل القلم قال في إحداها: «تسود إشاعات كثيرة في السنة الحالية تفيد بأن آلة تدعى «الآلة الكاتبة» سَتحلّ مكان الناسخ. وقد رأيتها تعمل بنفسي، والشخص الذي يطبع عليها سيدة أخبرتني أنها تستطيع طباعة 40 صفحة في ساعة واحدة فقط» ويعلق مؤلف كتاب تاريخ الكتابة الرسام البريطاني دونالد جاكسون الذي أورد هذه الملاحظات، متسائلًا عن الزحف الأهم الذي اجتاح مساحة وخارطة الحاجة إلى القلم طوال اليوم: ماذا سيقول السيد «واريل» بوجود أجهزة الهاتف والآلات الكاتبة وطرق معالجة الكلمات إلكترونيًّا والحواسب الآلية التي تستطيع من خلال لمس أحد مفاتيحها أن تنتج (2000) حرف مطبوع في الساعة الواحدة؟ يبدو أن الفاعلية المتزايدة للأشكال الميكانيكية من الاتصالات ستقلص الحاجة الماسّة إلى الكتابة السريعة (الخربشة) التي نقوم بها اليوم، فنحن لم نعد نتحدث بالحرف الواحد كما كان يفعل أسلافنا الأوائل، لكننا جميعًا نشعر بأداة الكتابة، وبنوع الإشارة التي تصنعها هذه الأداة وأثرها في سلوكنا من حيث آلية الكتابة نفسها. أما «ألفرد فيربانك» فقال في هذا الشأن: إن الكتابة باليد كانت «نظامًا حركيًّا يقتضي اللمس»، وفي الحقيقة إن الإحساس بالقلم والإحساس بالورقة وسيلان الحبر تؤثر جميعًا على الطريقة التي نعبر فيها عن مشاعرنا وأفكارنا(8).
هكذا عبّر هواة وعشاق الكتابة -الذين صار القلم جزءًا من إلهام أفكارهم- عن مخاوفهم، من تلاشي دور القلم، في طفرة الكتابة الرقمية التي بدأت في منتصف القرن الماضي. لكن مجيء هذا التطور وسط مستوى عالٍ من ثقافة الكتابة بالقلم، دفع مصنعي الأقلام إلى مجاراة الأتمتة ليأخذ القلم تعريفًا أجد، حيث ظهر القلم الإلكتروني، الذي يستخدم في الكتابة كأي قلم عاديّ ولكن عندما تقوم بكتابة الكلمات فإنَّه يقوم أوتوماتيكيًّا بتسجيل الشرح وتخزين ملفات صوتية داخله، وعند الانتهاء من الكتابة يمكنك الاستماع إلى ما قمت بكتابته بالصوت.. وفي العقدين الماضيين ظهر القلم الرقمي الخاص بالهواتف الخلوية حيث ركز هذا الاختراع على أن تكون الأقلام أكثر دقة فتساعد على الرسم والكتابة، غير أن تقنية اللمس أنهت جميع الأقلام الإلكترونية، وفي نفس الوقت قلّصَت كثيرًا الحاجة اليومية للقلم العادي إلى أدنى مستوياتها(9).
القلم ومعركة البقاء
بالعودة إلى القصة المختصرة -في مقدمة هذه التناولة الصحفية- التي نعت فيها الكاتبة الأميركية «إيلين واينستين» حياة القلم في عصر الكمبيوتر. لكن تلك القصة بما حملته من نعي حزين، اشتملت على دلالة ضمنية لم نشر لها في المقدمة. وهي أن مجريات بحث الصديقتين عن القلم بتلك الطريقة، عكست مؤشرًا قويًّا على أهمية الحاجة للقلم، لتؤكد أن طفرة الكتابة الضوئية والرقمية، وبلوغ ثورة الأتمتة داخل غرف النوم، وانبلاج تقنية الرسائل المكتوبة خلويًّا، وغيرها من العوامل لم تنه حضور القلم في قلب العصر، بل ظلّ وسيبقى متربعًا على عرش الذاكرة كذبال معرفي لا ينطفئ، محافظًا على مكانته في ثقافة العامة والخاصة والنخبة كرمز ثقافي إنساني. وفي هذا المضمار يؤكد الشاعر الأميركي «روبرت كاندل»، أحد رواد القصيدة الرقمية في الولايات المتحدة، أنّ الكتابة ليست سوى ضرب من التقنية، متسائلًا –في نظريته حول كتابة الشعر إلكترونيًّا- عن أي الاتجاهات سوف تتحوّل تقنيات الكتابة الحديثة في مجاراة عصر الإعلام الرقمي؟ وهل ستنتقل أدوات الكتابة الإبداعية، نتيجة لهذا التحوّل في حال وقوعه، من عوالم الحبر إلى إحداثيات «النقاط الضوئية» محقّقة نقلتها النوعية من طواعية القلم إلى غواية الحرف الإلكتروني على الشاشة؟
وأكد كاندل بناء على تلك التساؤلات أن فعل الكتابة الإلكترونية لن يلغي أصالة الخط على الورق وخصوصية الكتابة بالقلم(10) وهذا الحكم الثقافي، يؤكد أن الحداثة والتطور الصناعي والتقني والكهروضوئي في أدوات الكتابة مثل الآلات الكاتبة لا يلغيان القلم بل سيظل جزءًا من هوية الإنسان وذاكرته وإكسسواره المعرفي. وتبنَّى رجل الأعمال الأميركي «بيك»، أحد صانعي الأقلام الأسطورية تحت عنوان: «قاتل من أجل كتابتك». وأكدت «بام ألين» خبيرة محو الأمية والناطقة بلسان الحملة، أن الكتابة بالقلم تساعد الطفل على تنمية حس الهوية. وأجرت «مولر» -باحثة في قسم علم النفس في جامعة برنستون- دراسة لافتة، عنوانها: «القلم أقوى من الكمبيوتر»(11).
أما مجلة «علم وحياة» الفرنسية فنشرت تقريرًا علميًّا تحت عنوان (لا! لم يمت) أكدت فيه أن النظام التربوي الفرنسي يتمسك –على عكس النظام الأميركي- تمسكًا شديدًا بالورق والقلم في المدرسة، مشيرة إلى أن العلماء أخضعوا (76) طفلًا في سن الحضانة، لاختبار قدراتهم على القراءة والكتابة، فصلوهم إلى فئتين، الأولى عليها أن تتعلم الحروف بكتابتها، والثانية بطباعتها على لوحة الكمبيوتر. وبعد أربعة أسابيع، اختبروا قدرة كل من الفئتين على القراءة. لقد تعرف الأطفال على الحروف التي كتبوها باليد، أفضل من الحروف التي طبعوها.
وهذه الدراسات تؤكد ديمومة الحاجة التعليمية أو حاجة التحصيل المعرفي للقلم. بالإضافة إلى ضرورات الاستخدام اليومي في الجانب المالي مثلًا لكتابة شيك، والإمضاء عليه أو إرسال بطاقة بريدية خطية لما لها من معانٍ ودلالات تحتل وجدان الإنسان. أو الإمضاء على معاملات العمل الإداري والتجاري. ناهيك عن كون القلم صار بمنزلة البصمة الحديثة لكل شخص؛ إذ إن خط كل إنسان عبارة عن بصمة تحدد هويته، مفضية إلى معرفة صاحب القلم، كما يمكن للخط الكشف عن: (الفروق بين الجنسين، والعمر، والحالة النفسية، والصحة العامة، والأدوية والعقاقير، والوراثة، والمستوى التعليمي، والبيئة، والمناخ، والوظيفة، والموروث الشعبي، والتطور التكنولوجي، ومستويات ممارسة الكتابة(12). وهذه الحقيقة الملازمة لعلاقة الشخصية بالقلم من الناحية السلوكية أثبتها عِلم «الغرافولوجي»، المَعنيّ بتحليل الشخصية من أشكال الخط، ويعتمد كغيره من العلوم السلوكية على الملاحظة. ويستند هذا العلم إلى حقيقة علمية تقول: إن ما يكتب على الورق ليس اليد، ولكن أعصاب اليد التي تأخذ أوامرها من المخ، فما نراه على الورق هو حركة الجهاز العصبي التي تظهر بأشكال محددة على الورق، ومن هنا يبدأ في فك شفرة هذه الأشكال، ودلالاتها من الناحية السلوكية والانفعالية والتعبيرية لدى الشخص، بمعنى أدق شرح «سمات الشخصية».
————————————
هوامش:
1) تقدم العرب في العلوم والصناعات.. صـ 214.
2) مجلة القافلة –القلم- ملف خاص، د. فكتور سحاب- العدد (6) المجلد (63)، نوفمبر/ديسمبر 2014م، صـ94.
3) المصدر نفسه (4) صــ96.
4) موقع مكتبي الإلكتروني. بوابات كنانة أونلاين – الموضوع: تاريخ القلم الرصاص. الرابط:
http://kenanaonline.com/users/Almarakby/posts/298487
5) امسك أدواتك وانطلق لتتعلم، مقال مطول: الرابط :
http://www.mexat.com/vb/showthread.php?t=409379
6) المصدر نفسه.
7) المصدر نفسه.
8) المصدر نفسه، ص25.
9) منتديات ستار تايمز- أثر التكنولوجيا المعاصرة على القيم الجمالية، د. إياد محمّد الصقر: http://www.startimes.com/?t=28666285
10) المصدر نفسه.
11) المصدر نفسه (4) ص98.
12) مقالة مطولة عن برنامج تحليل الشخصية عن طريق خط اليد للباحث جابر محمد بيومي، الرابط:
http://saihat.net/vb/archive/index.php/t-5421.html