منعطفات الرواية العربيّة. . منذ النكسة حتى احتلال العراق .. يمنى العيد
يُحدِّد العنوان لمنعطفات الرواية العربيّة، موضوع البحث، زمنًا تاريخيًّا يقع بين العاميْن ١٩٦٧ و٢٠٠٣م، أي بيْن هزيمتيْن هما هزيمة الجيش المصري أو ما عُرِف بالنكسة، وهزيمة الجيش العراقي أو احتلال العراق، ما يعني أنَّ العنوان يُضمر الإشارة إلى علاقةٍ بين الأدب والتاريخ، أو إلى أثرٍ يتركه الواقع التاريخي في الأدب الذي هو هنا الرواية. ولئن كنتُ هنا، لست معنيّة بدراسة التاريخ، فإنّي أحدِّد سؤال الموضوع، على النحو الآتي:
ما الأثر المرجعي الذي تُحيل إليه الرواية العربيّة (لدى القراءة) على تشكُّلها بنية روائيّةً فنيّة؟ أو بصيغة أخرى: كيف نرى روائيّة الرواية العربيّة بين النكسة والاحتلال، أي بين حدثيْن متفجِّريْن وكارثيين، أصابا بلديْن عربيّين كان للرواية العربيّة فيهما نتاجٌ ملحوظ، وترك هذان الحدثان أثرهما في الكتابة الروائيّة العربيّة بشكل عام؟
لقد كان الروائيّون العرب، المبدعون بشكلٍ خاصّ، هم أوّل مَنْ أدرك أنَّ التقاليد الروائيّة السابقة (أو تقاليد الرواية الواقعيّة البسيطة) لم تعد قادرةً على التعبير عن هذا الواقع التاريخي الجديد. هكذا طرح صنع الله إبراهيم سؤاله: «كيف أعبِّرُ عن الواقع، كيف أكتب»، مفصحًا عن هاجسه في إيجاد الشكل الملائم، لكن، على أساس أنْ تكون لحظة الكتابة، وكما يضيف «تفسِّر وتبرِّر وتسمح بفهم الواقع وإمكانيّة تغييره في الوقت نفسه»(١). وهكذا قال عبدالرحمن منيف: إنَّ مسعاه هو أن يكتب رواية لها «ملامحنا ونكهتنا الخاصّة». أي: رواية تقول، فنيًّا، حكايتنا بما هي حكايةٌ لها تاريخيًّا وعلى أرض الواقع خصوصيّتها(٢). وما قاله صنع الله إبراهيم وعبدالرحمن منيف، وسعَيَا إلى تحقيقه فيما كانا يكتبانه من أعمال روائيّة، هو ما سعى إليه معظم الروائيّين العرب في تلك الحقبة الزمنيّة.
ويمكننا، في هذا الصدد، تمييز مسعييْن بارزيْن لانعطافة الرواية العربية:
مسعى أول تمثّل، بدايةً، ولدى بعض، فيما عُرف بالتجريب الذي عنى تجاوز تقاليد السرد الروائي السابقة، الواقعيّة، التي ميّزها ورسَّخها نجيب محفوظ في ثلاثيّته أواخر النصف الأول من القرن العشرين.
مسعى ثانٍ تمثّل، لدى بعض آخر، في الانتقال بالواقعيّة من بساطتها إلى حداثتها. لكن، لئن كان المسعى الأول نزع بتجريبيّته لأنْ تبقى، هذه التجريبيّة، مفتوحة على التنوّع والتعدّد والاختلاف، فإنَّ المسعى الثاني مال بواقعيّته الحداثيّة إلى ترسيخ تقاليد فنيّة للسرد الروائي العربي ترتبط بخصوصيّة التاريخ وحكايات الواقع المعيش.
المسعى التجريبي – التحديثي
لعلَّ من اللافت أنْ يكون نجيب محفوظ الذي أرسى قواعد الرواية الواقعيّة العربيّة هو من أوائل، إنْ لم يكن أوّلَ من كسر هذه القواعد في روايته «ميرامار»(٣) التي صدرت في عام النكسة نفسه، أي في عام ١٩٦٧م، وكان ما حكت عنه هذه الرواية بمنزلة استباق يشير إلى الفساد الذي أدَّى إلى النكسة. ويمكن القول: إنَّ رواية «ميرامار» تشكّل نموذجًا رائدًا لبنية التشكُّل الروائي العربي الساعي إلى اختلافه وتميّزه حداثيًّا على أساس مِنْ تعامله مع واقع الثورة الناصريّة والمأزق الذي آل إليه هذا الواقع قُبيْل الهزيمة. ولعلّ أول ما يلفتنا في رواية «ميرامار»، وباعتبار بنية الشكل، هو التخلّي عن قواعد الرواية الواقعيّة التي انبنت عليها الرواية العربيّة في بداياتها حتى نهاية النصف الأول من القرن العشرين، وقد وُصفت هذه القواعد بالتقليديّة، ووُصفت واقعيّتها بالواقعيّة البسيطة، وأحيانًا، بالكلاسيكيّة. وقد تمثّلت هذه القواعد التقليديّة، وبخاصّة فيما يتصل بزمن السرد، بالسّياق الخيْطي المتّسق وفق مقتضيات العُقدة وحبكتها والحل/ النهاية. ففي «ميرامار»، الساعية، تجريبيًّا، إلى حداثتها، أي إلى ما يخوّل لها التعبير عمّا آل إليه واقعُ الثورة، قبيْل النكسة، يتعدّد الرواة السارِدون للحكاية، ويتقطّع زمن السَّرد، بدل الحكاية الواحدة ثلاث حكايات تُروى من وجهات نظر مختلفة، تخصّ مقتل سرحان البحيري وكيل حسابات شركة الإسكندريّة للغزل. ثلاث حكايات للحكاية الواحدة، يتناوب عليها ثلاثة رواة شباب هم من أركان الثورة الناصريّة، وذلك لا لمعرفة القاتل وحلِّ عُقدة الرواية وصولًا بها إلى نهايتها، شأن السرد في رواية الواقعيّة البسيطة، أو الكلاسيكيّة/ التقليديّة، بل لمعرفة المقتول، سرحان البحيري، وما يعنيه بشخصيّته وبسلوكه وبفكره. أي بصفته، لا الفرديّة، بل بصفته رمزًا من رموز الثورة الناصريّة، ويختزن أكثر من دلالة.
يؤدّي انعطاف رواية «ميرامار» الحداثي أكثر من وظيفة دلاليّة:
– تعدّد وجهات النّظر للحدث الواحد على قاعدة تعدّد الرواة والمنظور المختلف.
– الإيهام بحياديّة المؤلِّف الضمني الذي يتّخذ صفة الراوي الشاهد. بدل أنْ يقف خلف البطل شأنه في الرواية الواقعيّة البسيطة، أو الكلاسيكيّة التقليديّة، رواية الصوت الواحد.
– التعريف برموز الثورة الثلاثة، رواة الحكاية، بصفتهم مسؤولين وقيّمين على مؤسّسات الدولة، ومتّهمين مفترضين بقتل زميلهم، سرحان البحيري، أحد نزلاء بنسيون ميرامار المقيمين فيه.
– توسيع مجال السّرد الدّلالي الذي يكشف عن خيانة رموز الثورة وانتصارهم المزيَّف لها.
– الكشف عن مأزق نظام العلاقات الاجتماعية في زمن الثورة الناصريّة، وصياغة المعادلة بين الفاعل وفعله، أو بين السبب والنتيجة. كأنَّ سؤال الرواية ليس إلّا جوابًا عن سؤالٍ آخر سابق ومطروح عن فشل الثورة. والرواية نسيج لإنتاج معرفةٍ تكشف عن الوجه الحقيقي لرموز الثورة الذين يستغلّون مؤسّسات الدولة التي يديرون شؤونها لتحقيق أحلامهم الخاصة… وهي بذلك تودّ أن تقول: إنَّ أصحاب الثورة يقضون على ثورتهم، وإنَّ المقتول هو قاتل نفسه، والفاعل ذاتيّ، داخليّ. إنَّ الدراما التي يعيشها المقيمون في بنسيون ميرامار هي، في الرواية، دراما العلاقة بين الثورة برموزها المتعدّدة، والشعب برمزه الواحد زهرة. يمكن القول: إنّ التحديث الذي سعى إليه نجيب محفوظ في هذه الرواية تمثّل بشكلٍ أساسي في تعدّد الرواة، وفي الحكاية المرويّة على قاعدة كسر الزمن الخطّي، وفي الراوي الشاهد. إن هذا المسعى التحديثي خوَّل له نقل سبب النكسة من فاعلٍ إلى فعلٍ تَعدَّدَ فاعلوه، وهو بتعدُّد فاعليه يحيل إلى الأخلاق (سرقة سرحان البحيري المصنع، وطموحات حسني علام الإقطاعي وحنينه إلى زمن ما قبل مصادرة أراضيه) أكثر ممّا يحيل إلى السيّاسة، أو إلى السلطة ورأسها. كأنّ الرواية بذلك استشرافٌ للنكسة التي رفض بعدها الشعبُ المصري تخلّي عبدالناصر عن رئاسة مصر. وكأنَّ هذا الاستشراف هو نهايةٌ لروايةٍ لا خاتمة لها، نهايةٌ مفتوحة على أكثر مِن احتمالٍ مرهونٍ بوعي الناس وبقدراتهم على التغيير. يتنوّع التجريب، وهو في تنوُّعه كان يبدو بمنزلة بحثٍ عنْ أساليبَ وتقنيّات جديدة تكتسب بها الروايةُ القدرة الفنيّة على رواية حكاية الـ«نحن»؛ ذلك أنَّ الرواية العربيّة، كما أرى، فنٌّ جديد في أدبنا وثقافتنا، يبدو معه الواقع الاجتماعي التاريخي الذي لم يتشكل في طبقاتٍ بمنزلة الحوض البديل لما فسَّرَ نشأة الرواية الغربيّة (الثورة الصناعيّة، تكوّن طبقة برجوازيّة، وثقافة تتعدّد وتتنوّع حقولُها المعرفيّة)، فالتجربة الروائيّة العربيّة تعيش مراحلها الأولى ساعية إلى اكتساب ملامحها الخاصّة وهويّتها الفنيّة الحديثة، من دون الانزلاق إلى تقليد حداثة الغرب.
وباعتبار التنوّع التجريبي أقدِّم المثاليْن الآتيين:
رواية السؤال (١٩٧٩م):
في هذه الرواية(٤) يتوسّل غالب هلسا شخصيّة ترميزيّة هي شخصيّة السّفّاح المعرَّف بفعله الذي هو القتل. القتل هو هويّته، والجثث: جثّة عبدالعليم، وجثّة الفتاة منى، وجثّة صديق مصطفى، وجثّة الفتاة التي تعمل في شركة الطيران العربيّة… هي الشاهد على هذه الهويّة. يتحوّل السّفّاح، في الرواية، إلى كابوس يداهم مصطفى في مناماته، وتتحوّل المنامات إلى أحلام يقظة تُشعر مصطفى بعجزه عن التحرّر من سلطة الرمز الأبوي المتمثِّل في سلطة التاريخ الماضويّة وسلطة السّياسة الحاكمة. لكن قيام السرد على هذا المستوى الترميزي المتخيّل يعجز عن الاستمرار بسرده على هذا المستوى، أي يعجز عن إبداع مستوى متخيّل كابوسي بديل للعالم المرجعي. فالسرد، كما نلحظ، يبقى حريصًا على العودة إلى عالم الواقع المرجعي، أو على تذكيرنا به، وهذا يضعف وظيفة السّفّاح على مستوى البنية الفنيّة ككل، ويجعلها تبدو اعتراضيّة محدودة الوظيفة، أو طارئة، ثانويّة حتّى لا نقول مستعارة؛ ذلك أنها، أي وظيفة السّفّاح، لا تغيِّر من طابع السرد، أو من واقعيّته، فيما هي توحي لنا بأنّها بصدد الاختلاف عنه، أي عن طابعه، بهدف تغييره.
كذلك يتوسَّل غالب هلسا أحلام اليقظة ليعبِّر، في روايته «ثلاثة وجوه لبغداد» (١٩٨٤م)، عن لا معقوليّة ما يجري في بغداد في ظلّ سلطة صدّام حسيْن؛ وهذا يضفي على السَّرد طابعًا فانتازيًّا. لكنَّ هذه الفانتازيا تبقى مجرَّد طابع لا يتجذَّر به عالَم الرواية ليستقلَّ بمتخيَّله كعالمٍ لا معقول. هكذا تبقى ذاكرة القراءة مدعوَّة لتأويلٍ يعود بها إلى المرجع التاريخي ولا تحملها، هذه الفانتازيا، إلى عالمٍ هو موضوعُ اكتشافها. ومع هذا يمكن القول: إنَّ الالتباس الذي سعى إلى توليده التجريب في هاتيْن الروايتيْن، بتوسُّل شخصيّة السّفّاح وأحلام اليقظة الكابوسيّة، من شأنه أن يؤدّي وظيفة التأويل المفتوح على تعدُّد القراءة واختلافها بدل الوضوح الدلالي الذي وسم الرواية التقليديّة، وركز الدلالة في العُقدة والنهاية. إضافة إلى أنَّ التحرّر من الحبكة والعقدة، من شأنه أيضًا أنْ يتيح لهذا السرد التجريبي إمكانيّة التنويع على إقامة معماره الروائي الفني وفق ما تقتضيه زمنيّة القول وشرطه التاريخي. يبدو التجريب عند غالب هلسا، المطرود من وطنه (الأردن) والمطارَد في أكثر من بلد عربي لجأ إليه، يبدو هذا التجريب بمنزلة بحث عن كيفيّة سرد فنّي قادرٍ على قول المعنى العميق لهذا الواقع التاريخي الذي غدا كابوسيًّا في ظلّ سلطة حاكمة تقمع وتسجن الأدباء الذين يكتبون وينتقدون ويعبِّرون بحُريّة عن رؤاهم ومواقفهم. إنّه همُّ القول وكيفيّته. قول الحكاية، حكايتنا، نحنُ أناس مجتمعاتٍ تعاني الحرمان وعيش حياتها بحُريّة وكرامة، وتسعى، في الآن نفسه، لكي يكون لها روايتها التي وإن كانت تستفيد من تجارب الغرب الروائيّة، إلّا أنَّها تودُّ أنْ تتحرّر من التقليد والمحاكاة للرواية الغربيّة، أي ممّا وَسَمَ الروايةَ العربيّة في النصف الأوّل من القرن العشرين. سوف أقدِّمُ مثالًا آخر على هذا التجريب السردي الروائي، التجريب الذي توسَّل إدراج النصوص المقتبسة، أو المدوَّنات، في المتن الروائي، وقام بتحويل المدوَّنة إلى لعبةٍ مسرحيّة، لأتوقّف، بعد ذلك، عند رواية الحرب اللبنانيّة التي عبَّر بعضها عن انعطافةٍ حداثيّة لافتة كما سأوضح.
رواية شرف ( ١٩٩7م).
في هذه الرواية، يقسّم صنع الله إبراهيم الخطاب الروائي إلى ثلاثة أقسام(٥): في القسم الأول تعتمد الرواية الخطابَ السردي المحدّد، روائيًّا، بقواعد جنسه الأدبي، (التقليدي)، فتحكي حكاية دخول أشرف عبدالعزبز سليمان السجن. في القسم الثاني تترك الروايةُ هذا الخطاب السردي وقواعد جنسه لأوراق الدكتور رمزي بطرس نصيف. هذه الأوراق هي قصاصات صحف ومجلّات ومدوَّنات بخطِّ اليد. تحكي هذه الأوراق، [أو الخطاب/ المدوَّنة، وبضمير الأنا/ الراوي] تجربة صاحبها الدكتور رمزي بطرس، وتنقّله، بحكم وظيفته في شركة، بين عدّة بلدان من بلدان العالم الثالث. يدوّن الدكتور رمزي بطرس ما يطّلع عليه من أسرار الشركات، وما تعقده هذه الشركات من صفقاتٍ تجني من ورائها أرباحًا طائلة، إضافة إلى الخطاب/ المدوَّنة، تتوسّل الرواية، في هذا القسم الثاني، العرض المسرحي، أو مسرح الدمى، الذي يديره الدكتور رمزي بعد أن حوَّل مدوَّنته إلى حوار مسرحي. يجري هذا العرض المسرحي في فناء عنبر السجن، ويقدِّمه السجناء الذين يتولّون لعبة تحريك الدمى، وتقديم العرض بأصواتهم الحواريّة التي تقلّد أصوات أصحاب القبور. تقول: «نحن (أربعين) ألف قتيل سقطنا في حروب ٤٨، و٥٦، و67، و73» ( ص٣٣٩- ٣٤٠). كما تقلّد أصوات الأسرى الذين أجبرهم جنود الاحتلال على حفر قبورهم بأيديهم قبل أن يمطروهم بالرصاص (ص٣٤٠). وكذلك أصوات المعوّقين الذين يسألون «مِنْ أجل أي شيء كانت تضحياتنا» (ص٣٤٣). في القسم الثالث تعود الرواية إلى الخطاب السردي الذي توسّلته في القسم الأول، لتخبرنا بأنَّ الدكتور رمزي أعلن إضرابه عن الطعام بعد أنْ وُضِع في التأديب بسبب العرض المسرحي الذي قدَّمه.
تشكِّل أوراق رمزي بطرس خطابًا مختلفًا لا يَمْتثِلُ لقواعد السرد الروائي المعتمدة في القسميْن الأول والثالث من الرواية. إنَّه، إذا صحَّ التعبير، الخطاب/ المدوَّنة الذي يخترق الخطاب السردي وينقله مِنْ سردٍ مِنَ الذاكرة يقدّمه راوٍ بضمير الغائب إلى قراءة المكتوب (المدوَّنة) بضمير الـ«أنا». يؤدّي الخطاب/ المدوَّنة، أو هذا اللّعب الفنّي، وظيفةً دلاليّة تدعم قول الحكاية؛ إذ تربط مدلولات حكاية عالم السجن، الداخلي، الذي اقتيد إليه أشرف، بعالم أوسع، خارجي، تتوافر له أوراق الدكتور رمزي بطرس، نزيل السجن أيضًا. تُشكِّل عملية التوثيق التي تتّسم بها المدوَّنة، وتتمثل في تقديم معلومات وأسماء أشخاص وشركات وتواريخ وأحداث وحروب وأرقام… مرجعًا لا يحتمل الشّك الذي يحتمله السرد بصفته متخيَّلًا مرويًّا مِنَ الذاكرة. كذلك يتشكّل العرضُ المسرحي، بدوالِّه ومدلولاته، كخطابٍ فنّي مختلف داخلَ الخطاب الروائي. هو حوارٌ مُمَسرَح يحيل، أيضًا، إلى خطاب المدوَّنات كمرجعٍ داخليٍّ له. يتشارك الخطابُ/ المدوَّنة بصفته التوثيقية، والعرضُ المسرحي بصفته الحواريّة، أي الصوتيّة/ السمعيّة، وباعتماده المدوّنة مرجعًا له، في تدمير المتخيَّل الروائي السردي (الواقعي التقليدي) وفي إعادة إنتاجه. لكن إعادة الإنتاج هذه ليست مجرد لعب فني مجاني، بل هي لعب فني موظَّف لدعم الحكاية وتأكيد مصداقيّتها.
هكذا لا تفارق رواية شرف، ببنائها التجريبي هذا، قواعد الرواية الواقعيّة البسيطة وحسب، بل تخلخل علاقة التوافق المألوف بين القارئ والرواية التي اعتاد أن يقرأ. كما تخرّب إمكانيّة التواطؤ بينهما. وبذلك تبدو رواية شرف كأنَّها تضع القارئ في مساحة التغريب، وتطرح سؤالها على مفهوم النوع الأدبي الروائي المتماسك بقواعده المعتمدة سابقًا، لجهة استمرار صلاحيّته لحكاية حكايتنا. تطرح روايةُ شرف سؤالها على الرواية، ونطرح نحن سؤالنا عليها: هل قدّمت هذه التجربة الروائيّة مثالًا حداثيًّا للرواية العربيّة، أم أنها كانت مجرَّد تجربة فرديّة لم تثبت، حتى اليوم، قابليّتها لاحتذاء عامّ؟ جوابًا نقول بأنّ الرواية فنٌّ وليد في الأدب العربي، لا تقاليد لها سابقة، أو موروثة في التراث العربي الأدبي؛ لأنّه لئن كان للعرب تراثٌ سرديٌّ، وكان بإمكان الرواية العربيّة أنْ تفيد منه، فإنَّ علينا، كباحثين ونقّاد، أنْ نميّز بين الفنون السرديّة التي منها الفنُّ الروائي. إن لفنيّة السرد الروائي في تشكّله عالمًا روائيًّا وقواعد وتقنيّات تخصّه وتميّزه بصفته الروائيّة، وتختلف عن فنيّة تشكل عالم المقامات مثلًا، أو عن فنيّة بنية الحكايات الشعبيّة، من دون أنْ يعني ذلك قطيعة بيْن فنِّ الرواية وهذه الفنون السرديّة الأخرى، أو عدم إمكانيّة إفادة الرواية منها. هكذا، فإنَّ الرواية، وبصفتها فنًّا وليدًا، كانت ولا تزال (وربما ما زالت حتى اليوم) تراكم تجربتها وتنوِّع عليها؛ كي تبدع قولها (أو خطابها) الروائي، ومن ثَمَّ تشكِّل، على مستواها الفنّي، تيّارًا يميّزها بانتمائها المجتمعي وهويّتها الثقافيّة. بهذا المعنى لم يكن التجريب هدفًا بذاته بل مسعى لروايةٍ تقول، وعلى مستواها الفنّي المميّز، حكايتها الخاصّة. وبهذا المعنى أيضًا، يمكننا الكلام عن التجريب الروائي اللبناني الذي دعت إليه حكايةُ حربٍ مدمّرة طرحت سؤالها على فنيّة الرواية التي يكتبها اللبنانيّون بشكل خاص، وعلى الرواية العربيّة بشكل عام. فقد كان كلُّ ذلك يحدث في ذلك الزمن الواحد، أي ما بيْن النكسة واحتلال العراق، وفي عالَمٍ يشترك في المعاناة والأحلام ولغة التعبير وثقافة هذه اللغة وأدبها وتاريخها.
التجريب كما مارسه كتّاب لبنانيّون في زمن الحرب
البداية ورواية «طواحين بيروت»، شأن رواية «ميرامار»، تبدو رواية طواحين بيروت لتوفيق يوسف عوّاد (أنجز عوّاد روايته عام ١٩٦٩م، لكنّها نُشرت عام ١٩٧٣م) فاصلةً مهمّة في مسار الرواية العربيّة، هيّأت لتفكيك النواة المركزيّة التي كان ينبني عليها عالمُ الرواية العربيّة متماسكًا في وضوحه، ومتّسقًا في الرؤية والموقف، ومن ثمَّ هيّأت لتحرِّر السرد من مفهوم البطل النمطي الذي ميّز الرواية التقليديّة (رواية الرغيف مثلًا لعوّاد) لا بطل في رواية طواحين بيروت بل انقسام على حدِّ الانتماء الطائفي. لقد فشلت محاولة الطلّاب، حسب الرواية، في تحقيق مشروع يوحِّدهم على قاعدة المواطنيّة، وراح الانقسام يطول شرائح المجتمع اللبناني، كما راح الاقتتال يحفر عميقًا بين الناس، ويباعد بين القلوب العاشقة. تذهب تميمة الطالبة الشيعيّة في اتجاه، بعد أن حاول شقيقها جابر نصّور قتلها، ويذهب هاني الطالب المسيحي في اتجاه آخر. يغادر العاشقان، تميمة وهاني، فضاء الرواية المحتلّ، شأن المدينة بيروت، بشخصيّات أخرى تمارس وظيفة التدمير للنسيج الروائي والمديني الاجتماعي في آنٍ. يغادر العاشقان ولا تنتهي الحكاية التي صارت حكايةً أخرى ترويها أكثرُ من رواية.
فبعد سنتيْن على صدور رواية طواحين بيروت، انفجرت الحرب الأهليّة التي كانت تدمِّر لا عمران المدينة ومؤسّساتها الماليّة والحكوميّة وحسب، بل أيضًا قيمًا ثقافيّة كانت تنبني على أساسها الروايةُ في زمن سابق. عنيتُ قيم البطولة والإرادة ووضوح الموقف والانتماء للوطن. لقد دمّرت الحربُ قيمًا كانت قائمةً في إطار مجتمع مديني يتركّز الصراع فيه على عوامل ماديّة اقتصاديّة، أو مطلبيّة اجتماعيّة. لكنها الحرب الأهليّة التي راح ينهار معها الواقع ويتمزّق المجتمع على حدود الطائفة وأهل الحي والزاروب. وبذلك كان المرجعيّ المجتمعيّ يعاني، هو أيضًا وعلى مستواه، دمارَه الحادّ، المتفجّر، الكلّي، حتى لكأنَّ الكتابة الروائيّة بلا مرجع، أو كأنَّها قائمةٌ في لحظة مفارقة بين الأدبي والمرجعي، وهي بذلك تواجه إمكانيّة ولادتها النوعيّة في الثقافة. في عام ١٩٨١م يُصدر إلياس خوري روايته «الوجوه البيضاء» التي بلورت، وكما يبدو لي، بنيةً روائيّة هي بديلٌ نوعيّ لبنية الرواية السابقة التي سعت رواية طواحين بيروت لتفكيكها من دون أن تبني البديلَ النوعي لها. وكانت أهمُّ الخصائص التي تميّزت بها رواية الوجوه البيضاء تتمثّل:
– في كونها تروي حكايتها في حكايات جاعلةً من زمن السرد أزمنةً لكن بلا تاريخ، كأنّ الزمن يتأبّد لا في معناه بل في حدوثه الذي هو الحرب، وقد بدتْ بلا أفق، بلا نهاية، فـ«الجريمة تنتشر كأنَّها الوباء، الطاعون يأكلنا من الداخل». المتقاتلون «يتلذذون بالقتل، كأنَّ القتلَ شربة كوكاكولا» (الوجوه البيضاء، ص ٤٥، ط مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط، ١٩٨٦م).
– في شخصيّة خليل أحمد جابر الذي رفض عدّ ابنه شهيدًا في مدينة عمَّ فيها القتلُ وصار الرصاصُ، حسب الرواية، يمارس لا وظيفة المقاومة، بل وظيفة الجريمة. الجريمة التي تجول وتقطع أوصال المدينة لتغدو أحياءً معزولة وكيانات مستقلّة في كلٍّ منها قاتل. يعتكف خليل أحمد جابر في غرفته، يمزِّق الجرائد وصوَرَ ابنه، يخرج إلى الشارع ليطرش حيطان المدينة باللون الأبيض وليمحو صور الشهداء، كأنَّه يمحو معنى موتهم، المعنى المزوّر، إنّهم قتلى الاقتتال وليسوا شهداء مقاومة.
توحي شخصيّةُ خليل أحمد جابر لا ببطولتها بل بهزيمتها، وهي بممارستها لمعنى الهزيمة، تبدو وفي إطار عالمها الروائي، شخصيّةً لا واقعيّة. غير أنَّ لا واقعيَّتَها هذه، هي اختلافها الذي يمنحه فنُّ السّرد المتخيَّل صفةَ الحقيقي. على هذا المستوى الفنّي الذي له صفةُ الحقيقي تتأسْطر شخصيّةُ خليل أحمد جابر، أو تكتسب طابع الشخصيّة الواقعيّة السحريّة، وهي بذلك تقول لنا ما لا يقوله الواقع، أو نقرأ فيها ما نعجز عن قراءته في الواقع. إنها الشخصيّة/ الشخص المستقلّ بعالمه، والعالم المستقلُّ بمتخيّله. هذا العالم الذي يحار الراوي ومن خلفه الكاتب الضمني في شأنه، فيتوسّل المشهديّةَ لنشاركه رؤيةَ المروي اللّامعقول، المختلف، فوق العادي، غير المألوف، شبه السحري، المفارق بعالمه المتخيّل عالمَ المرجعي والمستقلّ عنه. ربّما لهذا، وباعتبار هذه المفارقة التاريخيّة، يردّد الراوي، ومن خلفه الكاتب الضمني: «لم نعد نعرف أنْ نروي، لم نعد نعرف شيئًا»، ولينهي هذا الراوي روايتَه مؤكِّدًا: «الحقيقة فأنا لا أعرف». يؤكِّد ذلك، أي: عدمَ معرفته، بعد أنْ ترك السردُ وظيفةَ الإخبار للمشهد، وترك الزمنَ التاريخيَّ النامي للحظويّته الساكنة، وترك الحكايةَ الواقعيّةَ الذاهبة إلى نهايتها لسردٍ لا واقعي متروكٍ لما لمْ نعد نعرف، لحربٍ اختلط فيها كلُّ شيء… تمثِّلُ روايةُ الوجوه البيضاء انعطافةً شبه مفصليّة على مستوى الرواية العربيّة، لكنَّها، تبقى على تميُّزها وأهميّتها، مجرَّدَ محاولة فرديّة. صحيح أنَّ ما كتبه بعضُ اللبنانيّين من روايات في العقديْن الأخيريْن من القرن العشرين اتسمَ بطابعٍ حداثيّ في حكايته عن هذه الحرب، وفي سعيه لبناء عالم متخيَّل سردي يعبِّر، فنيًّا، عن هذه الحرب الأهليّة، ويبدع دلالاتها الفائقة التصوُّر(٦)، إلّا أنَّ هذه التجارب بقيت باختلافها وتنوّعها، دون أنْ تشكِّلَ ظاهرةً روائيّة لها نمطُها الحداثي. شأن رواية أميركا اللاتينية مثلًا (مع ماركيز)، أو شأن الرواية الأوربيّة/ الفرنسيّة ( مع آلان روب غرييه).
وصحيح أيضًا أنَّ إلياس خوري تابَعَ، فيما بعد، مشروعه الروائي التحديثي، إلَّا أنَّ مسعاه في بلورة بنية روائيّة متميّزة بحكايتها وفنيّتها بقي أقربَ إلى التجريب. ففي روايته «باب الشمس» (1998م)، تابع عمله على بنية الشخصيّة الدالَّة على مرجعي تحكي الروايةُ حكايتَه. هكذا ومقابل شخصيّة خليل أحمد جابر المبنيّة في «الوجوه البيضاء» بدلالات الحرب اللبنانيّة الأهليّة، بنى في «باب الشمس» شخصيّة يونس بدلالات النكبة وما آلت إليه القضيّة الفلسطينيّة، إلا أنَّ شخصيّة يونس لم تقارب المستوى الأسطوري أو شبه السحري الذي قاربته شخصيّةُ خليل أحمد جابر في «الوجوه البيضاء»، لتستقلّ مثلها على مستوى عالمها المتخيَّل. لقد بقيت شخصيّة يونس تتأرجح بين رمزيّتها وواقعيّتها متماهيةً مع الراوي حينًا ومعلنةً حضورَه حينًا آخر. ويمكن القول بأنَّ غيبوبة يونس وزيارات الراوي المتعدّدة له بدت أقرب إلى الذريعة منها إلى الوظيفة الدلاليّة المرتقية بالرواية إلى مستوى الواقعيّة السحريّة.
يصعب الكلام عن انعطافة للرواية العربيّة خارج هذا التجريب المفتوح على تنوّعه وتعدده الذي مارسته الرواية العربيّة منذ النكسة حتى احتلال العراق عام ٢٠٠٣م، أو لنقل بأنَّ التجريب كان هو الانعطافة التي نحت إليها الرواية العربيّة في ذلك الوقت من دون الوصول إلى بناء نمط سردي، ذلك أن التجريب عنى الخروج على النمطيّة، كلّ نمطيّة، بغية أن يمارس الكاتب الفرد حريّته في التعبير والخلق والإبداع. إنّها ثورة الكتابة النظيرة لثورة الفرد المأمولة على مستوى الواقع الاجتماعي المصاب بالتسلُّط والقمع والهزائم.
التحديث من منطلق الواقعية
بداية أودّ أنْ أشير إلى أنَّ التجريب لم يحل، وفي الحقبة الزمنيّة نفسها، دون ميل بعض الروائيين إلى اعتماد تقاليد الرواية الواقعيّة في كتابة رواياتهم، وبخاصّة تلك الروايات التي توسّلت التاريخ، أو الماضي لتروي، وببلاغة لغته، عن الحاضر، أشير على سبيل المثال إلى رواية جمال الغيطاني «الزيني بركات» (١٩٧٤م) التي عادت إلى تاريخ محمد بن إياس (١٤٤٨-١٥٢٣م) في: «بدائع الزهور في وقائع الأمور» وحكت عن التعذيب المروّع الذي كان يمارسه كبير البصّاصين الشهاب الأعظم زكريّا بن راضي، ووالي الحسبة الزيني بركات على الفلاحين، لتشي برعب الرقابة والقهر البوليسي في مصر الستينيات. لقد أصدر الغيطاني روايته بعد النكسة كأنّه كان يرى في هزيمة المماليك في مرج راهط في القرن السادس عشر صورةً لهزيمة مصر في يونيو ١٩٦٧م، فيما بعد، أي بعد عشر سنوات، أصدر عبدالرحمن منيف الجزء الأول «التيه» (١٩٨٤م) من خماسيّته «مدن الملح» التي اعتمد فيها السرد الواقعي ساعيًا إلى تحديثه وفق مفهومه للحداثة. فالحداثة كما يرى: تناقضٌ مع الواقع، ورفضٌ للثوابت، وتخريبٌ خلّاق، وبحثٌ مستمرٌّ عن آفاق وصيغ جديدة للعمل الفنّي، لتجاوز ما هو قائم، للثورة على القيود والتقاليد، كلُّ ذلك مِنْ أجل شيء أكثر إنسانيّة وعدالة (٧). في ضوء مفهومه هذا للحداثة المعنيّة بالروح لا بالشكل، كتب منيف رواياته مرتقيًا بالسرد الواقعي إلى ما يشبه الواقعيّة السحريّة المتمثلة، بشكل خاصّ في رواية «التيه» وتحديدًا في شخصيّة متعب الهذّال.
تروي «التيه» واقعًا اجتماعيًّا تاريخيًّا لزمن اكتشاف النفط في شبه الجزيرة العربيّة، زمن التحول والنقلة الحضاريّة. وهي بهذا المعنى، وكما يقول منيف: «رواية الأماكن والأشياء والبشر، بغضّ النظر عن تسمياتهم الفعليّة أو الكامنة، وبغض النظر عن المصائر التي انتهوا إليها» (٨). ليست التيه رواية تاريخيّة، وإن كان منيف قد جعل من التاريخ الاجتماعي وثيقة لهذه الحكاية/ الحكايات تخوِّل له معرفة عاداتهم وتقاليدهم وأجواء عيشهم، وتدعوه، في الآن نفسه، إلى إدراج منطوقاتهم وحواراتهم الشفويّة الخاصّة في المتن السردي الروائي. لقد جاء منيف بهؤلاء الناس إلى عالم الرواية، وجعل من واقعهم الاجتماعي، ومن تقاليد عيشهم ثقافةً مكتوبة، ومن ثَمَّ حضورًا في الذاكرة والحياة. وليست التيه رواية واقعيّة تقليديّة لها مقدّمة وحبكة وخاتمة، بل هي، شأن الزمان والمكان والواقع الاجتماعي آنذاك، روايةٌ مفتوحة على القادم المجهول، بل المستغرَب من قبل أناس وادي العيون. تحفل «التيه» بالمكان وبه يبدأ السرد: «إنّه وادي العيون…». لكنَّ المكان ليس مجرّد جغرافيا، أو إطار، بل هو مكوِّن أساسي من مكوِّنات الرواية، فيه تقرأ الروايةُ متغيّراتِ الواقع، وعلى أساسه يبني المؤلِّف الشخصيّات ويجري توليدُ معرفة بما أصاب أناس وادي العيون من مشاعر الذهول والاستغراب. هكذا، وكما الزمن الذي خضع لمتغيّراتٍ طارئة وقادمةٍ إليه من خارج واقعه المعيش، كانت شخصيّة متعب الهذّال تتشكّل، في الرواية، شخصيّةً خارج المألوف.
وبهذا يمكن القول بأنَّ رواية «التيه» تشكِّل انعطافةً في مسار الرواية العربيّة الواقعيّة، تتمثّل في نقل هذه الواقعيّة من بساطتها إلى ثرائها الحديث، أو إلى المعاصرة بما تقتضيه من بحث مستمر لتحديث أساليب السرد الروائي، لكن، وبالنسبة لمنيف، على أساس أنْ تمتلك الروايةُ «جذورًا في المجتمع» (٩) وقدرةً على زيادة وعينا دون أنْ تضلّلنا. (١٠).
ربما يمكن القول بأنّ الواقعيّة الحديثة هي، كما يبدو لي اليوم، أكثر مِن انعطافة، ربّما هي تيّار تتشارك فيه الروايةُ العربيّة على مساحة العالم العربي وقد تجاوزت حدود نشأتها في مصر إلى معظم البلدان العربيّة إنْ لم يكن إليها جميعًا. وهي بصفتها هذه مدفوعة بطموح إيصال حكايتها إلى العالم مع تأكيد هويّة انتمائها إلى هذه الحكاية. كما يمكن القول بأنّ ميْل هذه الرواية الواقعيّة إلى توسّل الوثيقة التاريخيّة، وإدراج نصوص مقتبسة في المتن الروائي، والسرد بضمير الأنا، واعتماد الكلام المنطوق، أو التعبير الشعبي المحلّي، في الحوار، يبدو بمنزلة تأكيدٍ لهويّة الرواية العربيّة في زمن واقعيّتها الحديثة، أو بمنزلة تنسيب الحكاية المرويّة إلى واقع اجتماعي تاريخي ليس للمتخيَّل السردي الحداثي أنْ يجرِّده من حقيقته هذه، كأنَّ الرواية العربيّة بذلك كانت تستبق الردَّ على هذا النزوع الـ«ما بعد حداثي» الذي شوَّهَ حقيقة الحرب على العراق، وطمس المأساة الإنسانيّة التي تسببت فيها، وبإمكانه أنْ يشوِّه كلَّ حقيقة وبشكل خاصّ ما كان منها منسوبًا إلى اللّغة. يقول بودريار: «بتنا مطالبين بنسيان أيِّ جدل حول مسائل كالواقع أو الحقيقة، وبالتالي نُروَّض للعيش في عالم ما بعد حداثي تتفشّى فيه ألعابُ اللّغة الدوالّ التي تفتقد المدلولات، والأوهام التي لا يمكن تمييزها كأوهام». (١١)
هوامش:
1) انظر مجلة مواقف، عدد ٦٩، خريف عام ١٩٩٢م، ص (21- ٢٣).
2) المرجع السابق، ص٦٨.
٣) انظر: يمنى العيد، الرواية العربية المتخيل وبنيته الفنية، دار الفارابي، بيروت، ٢٠١١م، ص٥٣.
4) للتوسع انظر: يمنى العيد، في معرفة النص، الطبعة الرابعة، دار الآداب، بيروت ١٩٩٩م، ص١٩١.
5) للتوسع انظر: يمنى العيد، فن الرواية العربية بين خصوصية الحكاية وتميز الخطاب، دار الآداب، بيروت، ١٩٩٨م، ص١٩٣.
٦- أشير إلى رواية رشيد الضعيف «فسحة مستهدفة بين النعاس والنوم»، دار مختارات، بيروت، ١٩٨٦م. ففي هذه الروية يبدو الراوي/ الأنا شخصية غير سوية مصابة بالهلوسة الكافكاوية، وقد تغربت عن جسدها الذي تمزق وتفتت شأن جسد المدينة. نقرأ ص٢٢ «توزعني النمل ونقل نتفي إلى كل أنحاء المدينة، فلم يبقَ ثقب في بيروت يعشعش فيه النمل إلا وفيه ثقب مني… فكيف سأستطيع أن أجمع بعضي إلى بعض، وألملم نتفي من ثقوب النمل والفئران والصراصير والأفاعي؟».
٧- عبدالرحمن منيف، الكاتب والمنفى: هموم وآفاق الرواية العربية، دار الفكر الجديد ١٩٩٢م، ص (٧٣- ٧٤).
٨- المرجع السابق ص١٩٧.
٩- بول وست، الرواية الحديثة ص٣١، ترجمة عبدالواحد محمد، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، بغداد ١٩٨١م. أورده عبدالرحمن منيف في: الكاتب والمنفى، مرجع مذكور، ص٧٦، هامش رقم ٦.
١٠ – المرجع السابق ص٧٧، هامش رقم ٧.
١١- أورده كريستوفر نوريس في كتابه: نظرية لا نقدية، ت. د. عابد إسماعيل، بيروت، دار الكنوز الأدبية، ١٩٩٩م، ص١٢.
عناوين
لم يكن التجريب هدفًا بذاته بل مسعى لروايةٍ تقول، وعلى مستواها الفنّي المميّز، حكايتها الخاصّة
يمكننا تمييز مسعييْن بارزيْن لانعطافة الرواية العربية: الأول تمثّل فيما عُرف بالتجريب الذي عنى تجاوز تقاليد السرد الروائي السابقة، والثاني يتمثّل في الانتقال بالواقعيّة من بساطتها إلى حداثتها