إشكالية التنوير في العالم العربي
إن لفظ إشكالية يعني أن ثمة قضية يقال عنها: إنها صادقة، ومع ذلك فإنها تبدو كاذبة. وإذا كان الصدق والكذب متناقضين، فمعنى ذلك أن الإشكالية تنطوي على تناقض.
والسؤال إذن: أين يكمن التناقض في التنوير؟
كان للفيلسوف الألماني العظيم كانْت الذي يقف عند قمة التنوير في القرن الثامن عشر مقال عنوانه «جواب عن سؤال: ما التنوير؟» (1784م)، ويمكن إيجازه في شعاره القائل: «كن جريئًا في إعمال عقلك». وقد كان يقصد به أن لا سلطان على العقل إلا العقل نفسه. وترتب على ذلك القول بأن قياس مدى التنوير مردود إلى مدى سلطان العقل.
وتأسيسًا على ذلك يمكن إثارة السؤال الآتي: أين تكمن أزمة العقل فى إشكالية التنوير؟
في نوفمبر من عام 1978م انعقد في الجزائر «مهرجان ابن رشد» بتنظيم من الجامعة العربية والحكومة الجزائرية، وإذا بأبحاث المهرجان، في معظمها، تُضعف من شأن العقل عند ابن رشد. مثال ذلك بحث الدكتور عبدالكريم خليفة رئيس مجمع اللغة العربية الأردني إذ يقول: إنه يجب إخراج الصراع الفلسفي بين الغزالي وابن رشد من مجال البحث الفلسفي الرصين؛ لأنه ينطوي على نبرة انفعالية، في حين أنه كان الصراع التاريخي الذي حدد مسار العالم العربي في اتجاه الأصولية الدينية التي تبطل إعمال العقل في النص الديني، وبالتالي في النصوص الأخرى أيًّا كانت.
أما زكي نجيب محمود فيطمس معالم التأويل عند ابن رشد؛ إذ يرى أن ابن رشد لا يلجأ إلى التأويل إلا للضرورة، حتى هذه الضرورة إن وجدت إنما تدلل على أن ظاهر الشريعة يؤيد ما نذهب إليه من تأويل، وبذلك يقضي زكي نجيب محمود على التفرقة التي يجريها ابن رشد بين المعنى الظاهر والمعنى الباطن للنص الديني. أما ألبير نادر فيذهب إلى أبعد مما ذهب إليه زكي نجيب محمود؛ إذ يرى أن من يقر بسلطان العقل فإنه سرعان ما ينزلق إلى التشكيك في الوحي.
تنويريون عرب يجتمعون في باريس
في مارس من عام 1980م اجتمع في باريس أربعون عضوًا من مشاهير مفكري العرب لتأسيس «حركة تنوير عربية». وكانت فكرة التأسيس هذه قد راودت أسرة تحرير مجلة «الطليعة» القاهرية في عام 1979م. والمفارقة هنا أن ذلك الاجتماع التأسيسي كان هو الأول والأخير، أي أنه قد أصيب بالفشل.
والسؤال إذن: لماذا فشل؟
وأجيب بسؤال: لماذا انعقد ذلك الاجتماع في باريس ولم ينعقد في أي بلد عربي، وبخاصة أنه يدعو إلى حركة تنوير عربية؟
بنبرة تشاؤمية يمكن القول: إن أسرة تحرير مجلة الطليعة لم تعثر على بلد عربي يقبل استضافة مؤتمر عن التنوير. وبنبرة تفاؤلية يمكن القول: إن اختيار باريس كان مردودًا إلى أنها عاصمة النور، حيث بزغت فيها حركة تنويرية في القرن الثامن عشر من فلاسفة التنوير، من أمثال ديدرو ودالامبير وروسو وفولتير ومونتسكيو. أما أنا فمنحاز إلى النبرة التشاؤمية؛ لأن التساؤل يظل قائمًا: لماذا لم تقبل الدول العربية استضافة مؤتمر التنوير؟ للجواب عن هذا التساؤل أستعين بحوار دار بين اليسار المصري وتوفيق الحكيم في يناير 1975م. وفي ذلك الحوار كان رأيي أن أوربا قد مرت بحركتين للتنوير: «تحرير العقل»، و«التزام العقل بتغيير الوضع القائم».
أما الدول العربية ومن بينها مصر فلم تمر بهاتين الحركتين. وقد وافق توفيق الحكيم على هذا الرأي، ثم استطرد قائلًا: لقد ارتددنا إلى الوراء من بعد العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين؛ بسبب الرجعية الدينية الخرافية التي لا تتفق مع جوهر الدين، ولكنها تتستر باسم الدين لتلغي دائمًا دور العقل. انظروا كمثال لمهرجان الملابس في الجامعة. إنهم يقولون: هذا زي إسلامي، وذاك زي غير إسلامي. وهنا تذكر توفيق الحكيم المقالات التي كان يكتبها في عام 1939م بمناسبة صراعه مع السلطة الدينية. ومن هنا دعا إلى ضرورة نشر العلمانية في التفكير وفي المنهج العلمي.
إلا أن هذا الصراع الذي تحدث عنه توفيق الحكيم كان سابقًا على زمانه؛ ففي عام 1834م أصدر رفاعة رافع الطهطاوي كتابًا عنوانه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» جاء فيه أنه ترجم اثنتي عشرة شذرة لمفكري التنوير الفرنسي، ومع ذلك وضع شرطًا لقراءة هذه الشذرات، وهو التمكن من القرآن والسُّنة؛ لأنها محشوة بكثير من البدع، وبها حشوات ضلالية مخالفة لسائر الكتب السماوية، يقيمون على ذلك أدلة يعسر على الإنسان ردها. واللافت للانتباه ههنا أن مخطوط كتاب «تخليص الإبريز» كان به فقرات حذفها رفاعة قبل نشر كتابه. ومن هذه الفقرات المحذوفة فقرة تتحدث عن إثبات علماء الإفرنج لدوران الأرض حول الشمس.
والشيخ علي عبدالرازق في كتابه المعنون «الإسلام وأصول الحكم» أنكر الخلافة الإسلامية بدعوى أنها ليست من الخطط الدينية ولا القضاء، ولا غيرها من وظائف الحكم ومراكز الدولة، إنما كلها خطط سياسية صرفة لا شأن للدين بها، إنما تركها لنا لنرجع فيها إلى أحكام العقل. وكانت النتيجة محاكمته أمام هيئة كبار العلماء بدعوى أن كتابه يحوي أمورًا مخالفة للقرآن الكريم والسُّنة النبوية وإجماع الأمة، ومن ثم صدر الحكم بإجماع الآراء بإخراج الشيخ علي عبدالرازق من زمرة العلماء، وطرده من كل وظيفة لعدم أهليته للقيام بأي وظيفة دينية أو غير دينية.
واللافت للانتباه ههنا أن كتاب الشيخ علي عبدالرازق قد صدر بعد عام من إلغاء الخلافة الإسلامية في تركيا في 3 مارس 1924م. ومن هنا يمكن القول بأن قرار هيئة كبار العلماء بطرد الشيخ علي عبدالرازق يتضمن ضمنيًّا انحياز هؤلاء إلى الخلافة الإسلامية. وكل ما هو حادث من إرهاب تثيره حركات إسلامية أصولية مثل حركة الإخوان المسلمين وحركة داعش وحركة النصرة وغيرها، إنما هو من أجل إعادة الخلافة الإسلامية، ليس فقط في الدول الإسلامية، إنما أيضًا في جميع الدول الموجودة على كوكب الأرض.
وإذا كانت الأصولية تعني إبطال إعمال العقل في النص الديني، فالأصولية ضد التنوير الذي هو إعمال العقل، ليس فقط في مجال الدين، إنما أيضًا في جميع مجالات الحياة الإنسانية.
الخروج من الأزمة
والسؤال بعد ذلك: هل في الإمكان تأسيس تيار تنويري للخروج من أزمة التنوير؟
جوابي بالإيجاب، بشرط أن يستند هذا التيار التنويري إلى تأسيس رشدية عربية لمواجهة الأصوليات العربية، على أن تكون مكونات هذه الرشدية على النحو الآتي:
إن للنص الديني معنيين أحدهما ظاهر والآخر باطن.
مشروعية إعمال العقل في النص الديني للكشف عن المعنى الباطن، وهو ما يسمى بالتأويل، وتعريفه عند ابن رشد أنه: «إخراج اللفظ من دلالته الحقيقية – أي الحسية – إلى حقيقته المجازية».
عدم تكفير المؤول بدعوى خروجه عن الإجماع. وفي هذا المعنى قال ابن رشد: «لا يقطع بكُفر مَنْ خرج على الإجماع» في كتابه المعنون «فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال».
الدخول في علاقة عضوية بين الرشدية العربية والرشدية اللاتينية حتى يزول التوتر الحاد بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، ومن ثم تتوارى عبارة «تصادم الحضارات» التي روَّج لها صموئيل هنتنغتون في كتابه المعنون هكذا في عام 1997م؛ إذ التفت إلى ظاهرة جديدة بزغت في السبعينيات من القرن الماضي، وهي الأصوليات الدينية التي أحدثت تغييرًا في موازين القوى في البلدان الإسلامية من انحياز إلى الحكومات الغربية إلى معاداتها بعد ذلك. ومن هنا أثار هنتنغتون السؤال الآتي:
هل المؤسسات الكوكبية وتوزيع القوى، وسياسات واقتصاديات الدول في القرن الحادي والعشرين هي التي ستشيع القيم الغربية، أم أن الأصولية الإسلامية هي التي ستشيع قيمها المستندة إلى إبطال إعمال العقل على نحو ما ارتأى الفقيه ابن تيمية من القرن الثالث عشر؟
الرأي عندي أن التنوير، أو بالأدق إعمال العقل بجسارة، هو محور التغيير المقبل. ويترتب على ذلك نتيجة حضارية هي أن العالم العربي ليس في إمكانه إزالة إشكالية التنوير إلا بالالتزام بقيم التنوير. إن هذا الالتزام لن يكون ممكنًا إلا بإحياء فكر ابن رشد بديلًا عن ابن تيمية. وهذه هي مفارقة العالم العربي.