الطريق إلى حلب
لا يعرف الطيارون الذين يلقون الصواريخ والبراميل المتفجِّرة على قلب حلب وأطرافها أيَّ وقع لاسم هذه المدينة في المتخيل والوجدان العربيين. مدن قليلة في عالمنا العربي تحتفظ برنين الذَّهب الذي لحلب. أقدم مدينة مأهولة على وجه الأرض (الألفية السادسة ق. م). أخت الشام وجارة الموصل. ثالث أكبر مدن السلطنة العثمانية بعد إسطنبول والقاهرة. الشهباء. همزة الوصل الحضارية بين المتوسط وبلاد الرافدين. نهاية طريق الحرير. مقصد الشعراء والمتصوفة. لا أعرف كيف تلفظ حلب بالروسية. ربما مثل الإنجليزية: ألبّو. لكن هل ألبّو مثل حلب؟ هذا الحرف الحلقي المهموس الذي يبدأ به اسم المدينة. حلب ليست ألبّو؛ لأنها في هذا الاسم تتجرد من آلاف الأغاني والقصائد والقدود والآهات التي تصعد، في هذه الحال، من القلب لا من الحلق. لم يتغير اسم حلب كثيرًا في نطق الأقوام التي سكنت هذه الحاضرة وكتابتها، فهو عند السومريين والأموريين حلابا، وعند الآشوريين حلبا، وعند الحيثيين حلباس، وعند المصريين حرب (الراء في الهيروغليفية قد تُقرأ لامًا) وعُرفت عند السلوقيين بيروا، والرومان بيرويا. ويبدو أن خلفاء الإسكندر المقدوني أطلقوا عليها هذا الاسم تيمنًا بمسقط رأس والد قائدهم في بلاد اليونان، فيما قام الرومان بتغيير نطقه قليلًا. أما ألبّو، النطق السائد اليوم، في الإنجليزية، فقد خُلِع على المدينة أيام الانتداب الفرنسي.
ورغم تقلب الغزاة والأطوار الحضارية التي عرفتها المدينة عبر تاريخها الطويل الذي لم يشهد انقطاعًا ظلت الأقوام التي سكنتها تناديها باسمها، حتى عندما غيرته تمامًا، كما حدث في العهود اليونانية والرومانية والبيزنطية، عادت المدينة إلى اسمها الأول مرة أخرى، مثلما هي الحال مع العرب الذين يشاطرون أقوامها «السامية» السابقة جذورًا إثنية ولغوية. لخلفاء الإسكندر السلوقيين سببهم في تسمية المدينة باسم من بلادهم. إنها العادة التي يدأب عليها المستوطنون، في أماكن بعيدة من أوطانهم الأولى، إلى تسمية هذه الأماكن بأسماء مدنهم السابقة.. هذا إضافة إلى عامل آخر يتعلق بالسلوقيين الذين تميزوا من الغزاة الآخرين بجلبهم استيطانًا بشريًّا من قومهم، أو الموالين لهم، في ركابهم. إنهم لا يكتفون بالاحتلال العسكري بل يدعمونه بالاستيطان.
ليس هناك شاعر عربي تلقاه أمامك عندما تتحرك في الجغرافيا العربية مثل المتنبي. فإن كنت في الكوفة تجده يتحدّر من هناك، وعندما تذهب إلى حلب يكون قد سبقك إلى مجلس سيف الدولة الحمداني، وإذا عرَّجت على لبنان ففلسطين وصولًا إلى الفسطاط (القاهرة) تسمع صوته يمدح ويهجو ويذم الزمان ويعلل نفسه بالأماني، بل يرفعها فوق العالمين الذين يسألونه: «ما أنت في كلِّ بلدةٍ، وما تبتغي؟ وما أَبتغي جَلَّ أن يُسْمَى».
الاسم الذي كان في ذهني عندما زرت حلب، المرة الأولى، في الثامنة عشرة من عمري هو المتنبي. فهو اسم مدرسيٌّ تتلقاه على مقاعد الدرس. أما سيف الدولة فتراه في معالم المدينة، حديقتها الشهيرة، وفي مواقف حافلات، ومكتبات، وبقاليات إلخ. إنه أكثر الأسماء شيوعًا في المدينة الحاضرة. كأنَّ حلب لا تزال في حوزة الحمدانيين، فإلى جانب حلب الشهباء يقترن اسم حلب بسيف الدولة، ومع هذا الاسم يحضر، حُكْمًا، المتنبي وأبو فراس، الشاعر الكبير، جوال الآفاق، وغريمه الفارس، والشاعر صاحب القصيدة الغزلية الشهيرة «أراك عصي الدمع»، وحاكم مدينة منبج في عهد ابن عمه سيف الدولة.
الأعلام في حلب أو المتعلّقة بها، على مدار ألفياتها الست، يستحيل أن تحصى. ما بقي منها في أسفار التاريخ يحتاج إلى حصر وتعداد طويلين.