«عين بودلير».. معرض يكشف وجوهًا أخرى للشاعر غير التي اختزلها «أزهار الشرّ»
ارتبط اسم الشاعر الفرنسي شارل بودلير بمدينة باريس، وكان أحد نجومها الأساسيين في القرن التاسع عشر، بل هو أحد الذين أطلقوا الحداثة في سمائها، ومنها إلى أماكن عدّة في العالم. وإذا كان كاتب «أزهار الشرّ» معروفًا بصفته شاعرًا، فهو أيضًا مارس النقد الفني وجعل منه نوعًا أدبيًّا قائمًا بذاته، وعبّر عن رؤية فنية عميقة جعلت منه أحد الذين أرسوا الأسس الأولى للنقد الفني في فرنسا. وهذا ما يكشف عنه المعرض المقام حاليًّا في باريس وعنوانه: «عين بودلير». ولقد امتلأت شوارع المدينة بملصقات تحمل صورته ونظرته الجانبية النافذة ملغيةً الفاصل الزمني الذي يفصلنا عنها.
«عين بودلير» ليس أول معرض يخصصه متحف فرنسي للشاعر. ففي عام 1968م أقام «متحف القصر الصغير» معرضًا بعنوان: «شارل بودلير» بمناسبة مرور مئة عام على وفاته، وقد كشف وفرة الكتابات التي تناولت الشاعر ونتاجه الشعري والنقدي على السواء، وتحمل تواقيع باحثين رصدوا أعمال بودلير وآراءه في الأدب والفنّ، ودوره البارز على الساحة الأدبية والفنية في عصره. كذلك أقامت بلدية باريس في مرحلة التسعينيات من القرن الماضي ومطلع هذا القرن مجموعة من النشاطات التي تبرز وجه الشاعر الناقد، ومنها معرض بعنوان: « بودلير، باريس بلا نهاية» الذي تناول علاقة بودلير الفريدة بمدينته باريس حيث ولد عام 1821م وتوفي عام 1867م.
يأتي المعرض الحالي في «متحف الحياة الرومانسية» ليتوّج سلسلة من المعارض والنشاطات، وهو يقام بمناسبة مرور مئة وخمسين عامًا على وفاة الشاعر، وقد أشرف على تنظيمه وكتابة الكاتالوغ المخصص له مجموعة من المتخصصين الكبار في نتاج بودلير وأدب القرن التاسع عشر وفنونه.
يضم المعرض نحو مئة لوحة ومنحوتة ورسم محفور شاهدها بودلير في بداياته وكتب عنها، ويبيّن كيف أن الإطلالة الأولى له في عالم النشر وفي المشهد الثقافي الباريسي كانت في مرحلة الأربعينيات في القرن التاسع عشر. في تلك السنوات، كتب مجموعة من المقالات والنصوص النقدية عن المعارض الفنية السنوية الكبرى التي كانت تقيمها «أكاديمية الفنون الجميلة» في باريس وتعرف بالصالونات، وأولها صالون عام 1845م، وكان الشاعر آنئذ في الرابعة والعشرين من عمره. ولا بد من الإشارة إلى أن المرحلة التي امتدت من عام 1845 حتى عام 1863م التي عايشها بودلير عن كثب وكتب فيها كناقد شهدت تحولات كبيرة في المشهد الفني الفرنسي، ومنها أفول الحركة الرومانسية وصعود الواقعية وظهور الفنانين الذين مهدوا لما يعرف بالحداثة ومنهم إدوارد مانيه.
باختصار، يتيح المعرض لزواره الاطلاع على الأعمال الفنية التي تأملها وكتب عنها الشاعر، ويذهب أبعد من ذلك فيقدم بانوراما عن أحوال الثقافة في زمن تأسست فيه مفاهيم جديدة عن الجمال والإبداع قلبت رأسًا على عقب المفاهيم الكلاسيكية المتوارثة منذ عصر النهضة الإيطالية في القرن السادس عشر التي التزم بها الفنانون بصورة عامة طوال قرون.
روح دولاكروا
لقد توقف بودلير عند الفنانين الفرنسيين المجددين والتقليديين المعاصرين له، فكتب عنهم وعبّر عن إعجابه ببعضهم، وعدم رضاه عن بعضهم الآخر. وكان لأوجين دولاكروا 1798-1863م مكانة خاصة في قلبه ونتاجه. هذا الأخير، كما هو معروف، من أبرز ممثلي التيار الرومانسي والاستشراقي في الفن، وهذا ما ينعكس في لوحاته الشهيرة في متحف «اللوفر» ومنها «الحرية التي تقود الشعب» التي رسمها عام 1830م، ولوحة «نساء الجزائر» التي رسمها عام 1834م. أعجب بودلير بروح دولاكروا وأجواء الدراما والحلم والوله المهيمنة على أعماله، وتحدّث عن تفجّر الألوان عنده كما في لوحة «صيد الأسود» المنجزة عام 1854م، حتى إن هذه الألوان تسربت إلى قصائده فلم تعد الألوان محصورة في اللوحات بل حاضرة في القصائد أيضًا. ألم يقل: «قط لم تدخل في النفس، عبر قنوات العيون، ألوان بهذا الجمال وبهذه الكثافة»؟
أراد بودلير أن يكون دولاكروا شقيقه الروحي، كما أراد أن يحتل في المشهد الأدبي المكانة التي احتلها دولاكروا في المشهد الفني. فهذا الفنان، بحسب تعبيره، هو «زعيم المدرسة الحديثة في الرسم، وهو الفنان الأكثر خصوصية في الأزمنة القديمة والأزمنة المعاصرة».
من الجوانب التي يكشفها المعرض أيضًا اهتمام بودلير بفناني الكاريكاتير الذين عكسوا برسومهم الساخرة الهموم المعاصرة وأزمات مجتمعاتهم، وكانوا لسان حال المظلومين والبؤساء في صراعهم ضد الطغاة والفاسدين. منذ عام 1845م، بدأ بودلير بكتابة نص عن فن الكاريكاتير وقد صدر في كتاب عام 1855م، ثم تبعه كتاب ثانٍ عام 1857م، وهو العام الذي صدر فيه ديوانه «أزهار الشر». كتابان عن فناني الكاريكاتير في فرنسا وفي إسبانيا، ومنهم الفنان الإسباني غويا والفرنسي أونوريه دومييه. ونشاهد لهذا الأخير في المعرض لوحة أنجزت عام 1850م، وتمثل مجموعة من القضاة والمحامين بالقرب من قصر العدل وهم على شكل شخصيات سوداء بشعة تضع أقنعة على وجوهها. في هذا الإطار، يحيّي بودلير الفنان دومييه الذي سخر برسومه من الشخصيات السياسية التي تخدع الشعب المسكين وتستغله.
بودلير غير راضٍ
عاش بودلير في مدينته باريس الجزء الأكبر من حياته القصيرة، وكان غير راضٍ عن التحولات الكبيرة التي عرفتها المدينة؛ بسبب الثورة الصناعية، والأشغال التي قام بها محافظ المدينة البارون جورج أوجين أوسمان في زمن الإمبراطور نابليون الثالث. لقد هدمت أحياء بكاملها بسبب عدم نظافتها ورائحتها الكريهة واحتضانها الثورات الشعبية. استبدلت بالشوارع الضيقة والصغيرة جادّات واسعة ومضاءة ونظيفة، وشيّدت الأبنية الفخمة من الحجر الأبيض، وفُتحت الحدائق العامة. بالإضافة إلى ذلك، جُهّزت باريس بنظام صرف صحي، وزُرعت فيها الأشجار على طول الشوارع والجادّات.
لقد شهدت المدينة في ذلك الزمن تطورات اجتماعية وسياسية ومدنية أعادت تشكيل فضائها وتكوين مخيلتها. وقد عبّر بودلير في كتاباته عن جدلية الهدم والبناء، فهو عايش تشييد المدينة الحديثة وأفول المدينة القروسطية. كتب قائلًا: «إنّ باريس القديمة لم تعد موجودة». ومن مدينته استوحى الشاعر ديوانه «سأم باريس» ذلك أنّ الحياة الباريسية، بالنسبة إليه، غنية بالموضوعات الشعرية الرائعة، وهو تارة يعبر عن إعجابه بالتطور التقني ومظاهر الحداثة، وتارة أخرى يعبّر عن كرهه لها. أي أن موقفه عكس تناقضاته الشخصية العميقة الحاضرة في شعره التي تتكامل فيما بينها، وتمثّل تناقضات النفس البشرية ذاتها.
أهمية معرض بودلير في العاصمة الفرنسية اليوم أيضًا أنه يكشف عن وجوه أخرى للشاعر غير التي اختزلته في ديوانه الشهير «أزهار الشرّ»، لا سيّما أنه مبدع لنتاج أوسع مفتوح على الحداثة التي مهّدت لها مجموعته الشعرية «سأم باريس» التي طُبعت بعد رحيله، وخصوصًا مواقفه النقدية التي تقدّم صورة رائدة لنتاجات عصره الأدبية والفنية والموسيقية، هو الذي كان مسكونًا بِـ«فرح الاحتفاء بالحدث الجديد»، وهو أحد ممثّلي مرحلة تاريخية آفلة لكنها تبقى، حتى يومنا هذا، التعبير الأنقى للحداثة.