طريقة «جديدة» في النضال؟
ليست ظاهرة «منظمات المجتمع المدني» أو «المنظمات غير الحكومية» جديدة تمامًا. فعمر «الاتحاد الأميركي للحريات المدنية» يقارب مئة عام (1920م)، ومنظمة عالمية كـ«العفو الدولية» مثلا، التي ينتمي إليها 7 ملايين شخص، تجاوز عمرها نصف قرن (1961م)، وهي مُمأسسة ومهيكلة بصرامة.. وقس على ذلك الكثير سواهما. بل إن الصليب الأحمر الدولي يعتبر منظمة غير حكومية. وتحوز أكثر من منظمة من هذا القبيل صفة رسمية، لعل أهمها عضوية المراقب أو المستشار في مختلف هيئات الأمم المتحدة، وفي أطر إقليمية رسمية أو تخصصية أخرى، بل في العلاقة مع الحكومات في أكثر من بلد. وهي بالطبع تختلف عن الجمعيات الخيرية، وإن كانت هذه الأخيرة هي نفسها جزءًا من «المجتمع المدني».
انفجار للظاهرة
ما حدث في العقدين الأخيرين تجاوز الجانب الكمي في هذا المجال إلى بروز مفهوم جديد طاغٍ يفترض أن هذا الشكل من التنظيم هو الإطار النضالي الأمثل أو الأكثر جاذبية للناس وقدرة على تحريكهم، وكذلك على التأثير في السياسات العامة. صحيح أنه حدث تكاثر مذهل في أعداد هذه المنظمات، كبيرها وصغيرها، الدولي منها والمحلي، المتابع لعنوان عام كالحريات المدنية مثلًا أو لقضية تخصصية بذاتها كحماية الصحافيين أو مناهضة العنف ضد النساء، بل تشكلت منظمات تطالب بحقوق محددة مباشرة أو بإلغاء بنود قانونية في بلد بعينه… إلخ، وهي منظمات يمكنها أن تتلاشى عند تحقيق مطلبها. وهناك تنوع في أدوات الظاهرة نفسها. فعلى سبيل المثال، «آفاز» Avaaz وهي الأجدد على الساحة الدولية (2007م) تعرّف نفسها كإطار لنشاط على الإنترنت (أون لاين) يمكنه أن ينظِّم تحركات على الشبكة في قضايا عامة كالمناخ (وهي لعبت دورًا فعليًّا في المفاوضات حول المناخ وشاركت في قمته منذ سنتين ونيف في باريس، وهو دور لم يكتف بتنظيم العرائض المليونية والاستعراضات المميزة في المكان).
وقد مثّل «المنتدى الاجتماعي العالمي» (World Social Forum) الذي ولد في عام 2001م كأكبر تجمع (سنوي بالأصل، ثم صار ينعقد كل سنتين، مع تغيير في أماكن انعقاده، ومع منتديات وسيطة، مكانية أو اختصاصية) لمنظمات المجتمع المدني في العالم، لموازاة هيئة مدنية هي الأخرى، لكن نخبوية، كانت سبقته بثلاثة عقود، هي «المنتدى الاقتصادي العالمي» (World Economic Forum، أو ما يعرف بـ«قمة دافوس» السنوية). وهدف المنتدى الاجتماعي إلى بلورة تعريف آخر للعالمية مناقض لتعريف منتدى دافوس الذي يمثِّل عالم الأعمال وكبرى الشركات، (وإن كان يُعلن أن هدفه هو عقلنة «العولمة»)، فتبنى شعار «هناك عالم آخر ممكن». وتُجسِّد المنظمتان العملاقتان حال العالم اليوم.
كان عقد المنتدى الاجتماعي يمثل محاولة للتجميع بعدما خبا وهج الأحزاب، وذلك للإجابة عن معضلة تجزئة الموضوعات التي تخص منظمات المجتمع المدني -وبالتالي تناثر هذه الموضوعات وفقدانها كثيرًا من عناصر قوتها وتأثيرها- وإن كان المنتدى حافظ على «الأفقية»، من دون قيادة رسمية (على الرغم من الوزن الكبير للنقابات، وهي عماده). تفترِض الأفقية أنها وسيلة لتكريس انعدام الهرمية والبنية التنظيمية التي ترافقها، والالتزام بحرية كل نشاط وهيئة، وبالإدارة الذاتية. ويكتفي المنتدى بإصدار بيان ختامي يمثل التوافق المتحقق حول أكثر الشؤون إلحاحًا في العالم، ويؤكد مبادئ وقناعات ومواقف أريد بها، علاوة على تحقيق التجميع في تلك اللحظة، تعويض نقطة ضعف أخرى (كثيرًا ما اعتُبر أنها تُنْقِص من فعالية عمل منظمات المجتمع المدني وتميّع طبيعة المشكلات التي تتصدى لها)، وهي غياب التصور والتحليل الشاملين، والاكتفاء برصد ظواهر بعينها والقتال حولها بلا سند تحليلي لأصلها وفصلها وقواها وأعدائها ومصالح الأطراف المتصارعة حولها… إلخ. وبالتالي وبالطبع، انعدام المقاربة البرنامجية الموحدة التي كان معتادًا عليها في الأمميات الحزبية.
ولكن تلك «العيوب» و«النواقص» تحديدًا هي من سمات العصر، حيث صارت مختلف البنى هي نفسها سائلة ومعها العلاقات الاجتماعية ومؤسساتها، وصار رأس المال زئبقي، بلا مالك حصري، ولا طبقة شغيلة متمركزة في مكان محدد وحول عملية إنتاجية متسلسلة، بل صار بعضه يقوم على أنشطة تجري من ألفها إلى يائها في العالم الافتراضي.. ولكان الوضع سيكون غريبًا لو بقيت وسائل مواجهة المشكلات الناجمة عن هذا العالم الجديد متحجرة. ومع ذلك، فحين تفشل حراكات أو تواجِه ما لا طاقة لها به، يقال بسرعة: بسبب غياب التنظيم وبسبب غياب البرنامج… إلخ. أي يحدث ارتداد إلى أفكار ومفاهيم وأساليب الحقبة السابقة. وهو ما عِيب على حراكات «الربيع العربي» على سبيل المثال، وقيل إن «حركة 6 إبريل» الشبابية التي (قد تكون) من أطلق شرارة الاحتجاجات في مصر، هي ظاهرة هلامية، وإنها لم تكن تعرف الخطوة التالية ولا كانت قادرة على تأطير الدينامية المنفلتة، وكان من السهل على السلطة -أو «الدولة العميقة» حين انهار الحكم ومعه جهاز السلطة المتين، أي وزارة الداخلية بكل ما تمثل- إرباك الحراك وإبطاله وإفشاله، ما بين قمع واحتواء وتلاعب.
تهمٌ، ما بين الحق والباطل الذي يلتصق به
لمدة طويلة، اتُّهمت هذه الأطر وأفكارها بأنها «سهلة»، يمكن للسلطات وللجهات المعنية بها كافة التعامل معها من دون تشنج، أو حتى تجاهلها لو شاءت، باعتبار أن أساليبها لا تتعدى عادة العرائض أو الوقفات الاعتراضية، وأنها ليست لا جماهيرية ولا خطرة، وأنها تُغلّب ممارسة بعض الضغط أو الـ«لوبيينغ»، وأن إثارة مسألة حقوق الإنسان مثلًا (عمومًا أو بأي من فروعها) قد حلت محل إثارة مسائل التفاوتات الاجتماعية وحقوق أكثر حدة تكشفها هذه التفاوتات. أي أن نشاط جمعيات المجتمع المدني عمومي بما فيه الكفاية في مقارباته، بحيث يُضيّع «العدو» وأصل العطب، بل إنه يشبه المقاربات الخيرية التي لا تستفز أحدًا. ولعل ذلك لم يعد دقيقًا في كثير من الحالات والأماكن على السواء، وبالأخص في بلدان منطقتنا وتلك التي تشبهها، حيث صارت السلطات تتوجس من أي تجمع مطلبي مهما كان لينًا؛ لأن الحدود الفاصلة بين نشاطاته وبين ما هو «سياسي» لم تعد واضحة، ويمكن لبعضه أن يهز استقرار السلطة إن لم يصل بسرعة إلى ما يمكن أن يبدو تهديدًا لها.
وهناك تهم أخرى: سهولة الاحتواء من قبل السلطات بحكم جزئية المطالب، مهما عظمت، وما يبدو أنه منسوب عالٍ من الوصولية، حيث هي أطر يسهل «بروز» محركيها على الساحة العامة من دون كلفة كبيرة ولا مخاطر جمة، ومن دون تناقض مأزوم بين منطلقاتهم ومصايرهم (كما هي حال المناضلين السياسيين، الراديكاليين حتى الإصلاحيين). وكثيرًا ما يشار إلى تجارب انتهت بحمل «أبطالها» إلى مناصب ترضيهم، واعتُبر ذلك وسيلة «للتسلق» («مشروعة» أحيانًا تحت سقف ما يقال له تجاوزًا «المصعد الاجتماعي»، ووجود بنية حركية وليس متخشبة)، أو هي في الوقت نفسه دليل على وجود أصلي للقابلية على استيعاب هؤلاء من قبل أصحاب النفوذ أو السلطة. يبقى ذلك -إلا ما هو متطرف منه- في إطار آليات تبلور النخب الجديدة ضمن منظومة مجتمعية بعينها، وهي هنا آليات لا تعتمد على الوراثة انطلاقًا من العائلة أو على الثروة، ولا على تجدد محصور في هذا الوسط، بل على اختراق لمرتبة النخبة بواسطة أدوات جديدة (في البلدان التي «تحترم نفسها»، غالبًا ما يجري هذا التجديد للنخب بفضل التعليم والاستحقاق).
هذا النمط من التسلق يصح في بلادنا خصوصًا، لكنه يجري في كل مكان، وإن اختلفت الميكانيزمات والأدوات، ما بين تأهل يوفره هذا النوع من النضال للترشح إلى مختلف الأطر التمثيلية، وبالتالي الفوز بالانتخابات (بناء على انحياز لتيار أو لمطالبات)، أو العمل كمستشارين لأصحاب نفوذ «متنورين».. ما لا يعني بالطبع أن جميع أبناء هذه الظاهرة ينطبق عليهم الأمر، فكثير منهم يجدون اليوم أنفسهم في المعتقلات وليس في البرلمان ولا إلى جانب زعيم أو وزير.
هناك أيضًا ما يُلحظ بقوة. إذ تنتهي هذه الأطر إلى تشكيل شريحة اجتماعية «منفصلة» عن المجتمع، ولو أنها تعمل في وسطه. الصفة ترتبط بسؤال التمويل، وهو متشعب: فالجمعيات قد تبدأ تطوعية وذاتية التمويل أو هي تطلب من مؤيدي حركتها ومطلبها إسنادها. ولكنها سريعًا ما تواجه متطلبات تخص العمل نفسه ولا تعود هذه الموارد كافية، فتبحث عمن يمكنه تمويلها، وتجد في طريقها جمعيات أخرى كبيرة، دولية وإقليمية ومختصة، وبعضها تابع لوزارات أو سفارات، وهي جميعًا لديها شروط وضوابط وآليات لاختيار من يستطيع تمويلها. والخطوة التالية هي تفريغ أشخاص من الجمعية حين يُقبل التمويل فيصبحون موظفين ويتكاثرون (كما كان حال المتفرغين الحزبيين الذين يخرجون من أعمالهم ليصبحوا «موظفين في الحزب» ويتحول الحزب، كجهاز أو كمؤسسة، وديمومته ورفاهه… إلخ، إلى مركز تفكيرهم وجهدهم وليس القضية التي يناضل من أجلها، ويصبحون عبئًا إذ يميلون لتأبيد حال بعينها وتجنب النقد والتغيير).
والخطوة الثالثة هي إرضاء ميول الممولين ليستمروا في المنح. والخطوة الرابعة هي التأقلم مع «إعلانات» المانحين، وما يهمهم تمويله، وذلك بغض النظر عن الأولويات التي تعتقد هذا الجمعيات أنها الأكثر إلحاحًا.. وفي نهاية المطاف تصبح هذه الجمعيات أدوات تنفيذية لتلك البرامج المقرة في أماكن أخرى وفق وجهات نظر أصحابها ومصالحهم أيضًا. يحكى (والله أعلم!) عن وجود مئة ألف ناشط وناشطة في هيئات المجتمع المدني الفلسطيني مثلًا في الضفة الغربية وحدها والقدس، وهذه شريحة اجتماعية هائلة الحجم ويسود فيها نمط عيش خاص بها لا علاقة له كثيرًا بحال سائر أبناء المجتمع، وهي تستقطب الأفضل تعليمًا والأذكى والأشطر!
هذه اللوحة قد تفسر تهمة «الارتزاق» الملتصقة بجمعيات المجتمع المدني في منطقتنا، حيث هيئات الرقابة المالية والضوابط ضعيفة للغاية. تليها تهمة خدمة أجندات خارجية.. فيذهب الصالح بجريرة الطالح، ويسهل على السلطات منع كل شيء عبر تحريم الحصول على أي دعم مالي من الخارج، أيًّا كان هذا الخارج.. وهو ما تنوي إسرائيل مثلًا تطبيقه وفق قانون صار إقراره في مراحل متقدمة، بغاية ضبط الجميع تحت سقف سلطتها وإجبارهم على تلقي التمويل من صناديقها المختصة ووزاراتها، وهو قانون سيطول جمعيات فلسطينيي 1948م ومشاريعهم الثقافية والإعلامية، كما المشاريع الإسرائيلية نفسها التي يقوم بها مناهضون لسياسات تل أبيب وكانوا يتجنبون طلب تمويلها لهم.. وهي واحدة من مخططات مكافحة فكرة المقاطعة وحركتها (BDS) وإسكات النقد.
الحراك المدني في لبنان
يلي ذلك قمع كل شيء على أساس مشروعية الارتياب بهؤلاء «الجواسيس» بل معاملتهم بمقتضى ذلك. حتى في بلدان من منطقتنا، كلبنان مثلًا الذي ينخفض فيه بشدة منسوب القمع ويسود تساهل قانوني ورسمي واجتماعي حيال تلك التهم نفسها، وتقاليد من محاكاة الغرب في كثير من الأمور، و«حرية» مجتمعية تتعايش في نطاقها ممارسات يحظرها القانون ويجرد عليها أحيانًا حملات قاسية (كالمجاهرة بالمثلية الجنسية مثلًا التي تسببت أحيانًا في اعتقالات جماعية وفحوص طبية مذلة، في حين تنتشر في الوقت نفسه جمعيات للدفاع عن حقوق المثليين وتنجح في الحصول على أحكام قضائية تعتبر المثلية «ممارسة طبيعية» (حملة تابعتها ورافعت فيها «المفكرة القانونية» مع جمعية «حلم»)، مقدمة تفسيرًا مغايرًا للمادة 534 من قانون العقوبات الذي يعتبر «كل مجامعة على خلاف الطبيعة» جريمة جزائية تؤدي بالمدان فيها إلى الحبس حتى السنة.. وقد صار متداولًا أن المادة القانونية نفسها ستلغى، ولن يُكتفى باعتماد تفسيرها الجديد. كما خاضت «جمعية كفى عنفًا واستغلالًا» (من بين برامج متكاملة ومتنوعة تشمل الأطفال والمستخدمات في البيوت والاتجار بالنساء.. إلخ) حملات ضد العنف اللاحق بالنساء ولمناهضة الأحكام المخففة على مرتكبي ما يقال له «جرائم الشرف». وهي لقيت أصداء إيجابية بشكل عام، مخترِقة للطوائف والمناطق والطبقات الاجتماعية، وكان ذلك ملحوظًا في التغطية الإعلامية. كما جعلت القضاة أكثر تشددًا في أحكامهم. ولكنها نجحت خصوصًا في تحسيس الرأي العام حيال العنف ضد النساء بكل أشكاله، وهو ما لم يعد يجرؤ الكثيرون على المجاهرة بتبريره أو الاستخفاف به. وهذا يثير نقطة في غاية الأهمية تتعلق بدراسة موضوعة «القناعات العامة» وسيروراتها باعتبارها ليست جامدة، ورصد متى تصادف حملات من ذلك النوع «اللحظة» المناسبة لتُحدِث الانقلاب فيها (وفق قانون فيزيائي في الأصل، يلتقط كيفية انتقال التراكم الكمي إلى التغير النوعي).
كما أن هناك موضوعات أخرى لم تشق الطريق نفسه، مثل حملة «جنسيتي حق لي ولأطفالي» وهي في الأصل إقليمية، تخوضها في لبنان عدة جمعيات. وهي تمكنت من الحصول على وعود انتخابية قبيل الانتخابات التشريعية الأخيرة مايو 2018م، إلا أنها تبدو وقد تبخرت، وعادت المسألة لتدخل في أَتُون الصراعات المذهبية والسياسية، بغض النظر عن المبدأ والحق. بل هناك جمعيات تواجه صعوبات في خوضها لمطالب تبدو بريئة، ولكن تقف خلفها مصالح متنفذين، كما كان حال «حرش بيروت» الذي تَطلّب تأهيله وفتحه معارك كبيرة ومديدة خاضتها جمعيات نشأت لتلك الغاية وساندها خبراء بيئيون ومهندسون… إلخ، ليس بسبب الاستهتار بحق الناس في التنزه فيه (رفاهية فائضة عن الحاجة!!) فحسب، بل كذلك لوجود قضم له أو تعديات عقارية عليه من الخاصة ومن البلدية.. وهناك التعديات على الأملاك البحرية التي لا تنجح الجمعيات في إبطالها، ومنها مثلًا حالة شهيرة هي، كما يبدو، مصادرة لـ«مرفأ الدالية» للصيادين في بيروت لتحويله إلى منتجع سياحي («الحملة الأهلية للحفاظ على دالية الروشة» سَمّت ذلك «نهبًا»).. والأمثلة في هذا المجال (كما في سواه!) لا تحصى.
من يحق له هنا الاهتمام بـ«الشأن العام»؟
الحصول على المعلومات التي تهم منظمات المجتمع المدني لتتمكن من العمل الجدي بحسب ميدانها أصعب في منطقتنا، حيث تُعتبر المعلومة سرًّا ثمينًا غير متاح إلا للخاصة أو لأجهزة الأمن والمخابرات، أو حيث المعلومة غير متوافرة أصلًا بسبب الفوضى العارمة وعدم الهيكلة، والتزوير العمد للواقع، إلا أنه يمكن في نهاية المطاف وعلى الرغم من ذلك، تكوين ملفات عن مسائل مثل الاعتقال أو الإخفاء القسري -وهي الأشد حساسية- أو مسائل الفساد، وإخراجها إلى العلن بفضل الانتشار المهول لوسائل التواصل الاجتماعي ومحدودية قدرة السلطات على الرقابة والملاحقة أو حتى الحجب. وهذا ينطبق على منظمات غير حكومية كبرى ودولية، حتى عندما لا يكون وجودها مجازًا في البلاد، ولكنها تعمل بفضل تقنيات تقاطع المعلومات و«حفر الجبل بالإبرة»، بمهنية بعيدة عن الارتجال والهواية. وتنطبق إلى حد بعيد السمات ذاتها على منظمات محلية عديدة. ونذكر هنا كمثال منظمات مصرية أغلقتها السلطات (إن لم تحلّها أصلًا، وما أكثرها).. منها: «مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب» الحائز على سمعة عالمية قوية، وكان يركز على العناية الطبية والنفسية بالذين خضعوا للتعذيب عند اعتقالهم، أو بضحايا ممارسات منتشرة اجتماعيًّا كختان البنات (الذي يُعرِّفه المركز كـ«تشويه للأعضاء التناسلية للإناث»)، وفي هذا السياق، وبسبب التطورات في أوضاع البلد، وجد «النديم» نفسه يُصدر بيانات دورية بمنطق قانوني عن أرقام الضحايا، وهو ما جعل السلطات تعتبره تجاوزًا لصلاحياته التأسيسية، فأجاز لها منعه من العمل وختم مقره بالشمع الأحمر.
والمثال يوضح في حقيقة الأمر الهامش الضئيل المتاح للحفاظ على التعايش بين هذا النمط من التدخل المدني في الشأن العام وبين الممارسة السلطوية. فما أسهل أن تتخذ هذه الأخيرة قرارًا بمنع النشاط أو حتى باعتقال النشطاء وتوجيه تهم مغلّظة لهم، ولا سيما أن فصل السلطات يعاني الأمرّين في بلداننا، واستقلال القضاء معطى مجازي، ولعبة التوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية ملغاة، وهو ما يعني الانكشاف التام لأنشطة هذه المجموعات، بلا مرجعية حامية أو حتى قدرة على مراجعة قرارات الحكومة. وهو ما يؤدي إلى اختلالٍ مظهره الأساسي سرعة اندراج أي نشاط في «السياسة» بما هي هنا اصطدام بالسلطات وكذلك اندفاع إلى مناهضتها.
وهذا يثير سؤالًا آخر عن مدى إقرار الحكام بوجود حق للناس في الاهتمام بـ«الشأن العام»، بطريقة مستقلة تخصهم في تعريفه واختيار مجالاته وتعيين مطالبهم بخصوصها. افتراض وجود هذا الحق (أو الحرية)، وافتراض أنه يمكن ممارسته بلا خضوع للوصاية السلطوية أو تدخل منها، يتضمن بعض السذاجة. فالمنطق هنا هو أن ذلك يستولد سلطة شعبية موازية أولًا، مهما كان وزنها، ومجموعة ضغط تتوسل تأييد الناس ثانيًا، وهو شكل من أشكل التنظيم حتى لو كان رخوًا. وكم شاهدنا مجموعات تتشكل للاهتمام بمسائل لطيفة وناعمة مثل نظافة الطرقات مثلًا أو أطفال الشوارع، فتجد نفسها مضطرة للبدء من عند رضا الحاكم وإلا شملتها الشبهات. فهل يمكن أن تنشأ فعلًا منظمات مجتمع مدني في ظل سلطات أبوية ووصائية، أو تسلطية وقمعية، وهي على كل حال متعالية أو مذعورة؟ ثم إن الشأن السياسي هو فعلًا جزءٌ من الشأن المدني العام، فما الحدود بين المشروع والممنوع؟ ولعل هذه النقاط هي ما يجعل منظمات المجتمع المدني في أكثر من بلد من منطقتنا (مع ملاحظة التفاوتات، وهي كبيرة) ضعيفة إجمالًا.
قد تُفسِّر هذه الحال بعض أسباب الصعوبة الملحوظة في تحقيق تغيير في التوافقات الاجتماعية أو ما يمكن تسميته القناعات العامة. وهذه ليست مجرد «أفكار»، بل هي ترتبط بالطبع ببنى راسخة كما بمصالح يبدو أصحابها مستعدين لأي شيء من أجل حمايتها. هنا أيضًا، وفي الشروط المذكورة، تبدو المعادلة مختلة لغير صالح المنادين بالتغيير أيًّا كانت درجته أو موضوعاته. لا متنفَّس إذًا.. أليس ذلك أحد أسرار العنف القائم، علنيًّا كان أو كامنًا؟