مشاجرات الهوّة «السكوونك»
ميلي أيتها الروح صوب النسيم المباغت، اعبري تنّورك الوجودي، ضعي قدميك الحافيتين على جمر الحياة، كأنك آخر جواد سيصهل ويقفز قبل القيامة.
– حسنًا، كيف صرت بهذا الطريق؟
– تواطؤ الحياة.
– إذًا أردت دربًا وعلقت بآخر؟
– علقت بالهباء.
يرمي الشاعر عينيه في الجوّ كالمأخوذ، يشعر أن زوبعة تغلي في صدره، لا ليست زوبعة، بل أزل مبهم، شيءٌ كوحشٍ شديد الضراوة يربض داخله، ويحكّ صدغيه في قلبه. قلبه الذي يستحيل شيئًا فشيئًا جُحرًا لعقارب الحزن. من يشبهه من، وكأنه خرج على الناس من مقبرة، أو سقط من كوكبٍ مهمَل!
يفكر الشاعر: الله! لو أدري مِمّ خُلق السهاد!
من الشتائم، أم من الحِدّة! أدري أن حياةً كاملة تؤلمني، تؤلمني في جسدي كله. أقلِّب عيني في النواحي، أهشّ العدم، أقفز في بِرْكة الخفاء، فتنبت زنبقةٌ بجوار حائط.
في عرائس ألبير كامو أنه «عندما تصوح زهور الشاي، تتحول أزهار العلّيق إلى اللون البني، الأشياء جميعًا تتبادل الأماكن، وهناك دائمًا ما يذهب، ودائمًا ما يجيء، تختفي لتأتي في مرة أخرى في موسمها، وحتى تلك الأيام الرائعة المخيفة، حين تصفو الريح الباردة خلال غابة الصنوبر، يكون حفيف الأوراق المتساقطة متهالكًا في الحديقة كلها، حينذاك تأتي أغنية أخرى، تجربة جديدة، حكاية».
– ماذا عن الزنابق، أهنّ شُهْل؟
– الضواري شهباء.
هكذا تتشاكل روح الشاعر كجدول، تترك هياجًا عالقًا في الوادي، ويومًا ما ستنمو على فقدانه قرية.
يرخي الشاعر عضلات قلبه؛ أريد لمحتي الخاطفة، أن أتسرّب في عتمة الفناء.
قل ما بنفسك، لا تستطيع، إنك في الجحيم، مليء بالريبة والأعين التي تخافك وتخافها. إنك في الجحيم.
حيوان بورخيس
كتب مرة نزيه أبو عفش عن حيوان خورخي بورخيس، نقلًا عن كتابه «حيوانات خرافية» كان يحكي عن حيوان غريب، يدعى «السكوونك» حيوان خجول وعاطفي، حزين وشديد الانطواء، له فرو نادر ودموع معطرة، ولأنه خجول وحزين فهو يمضي حياته كلها مختبئًا بين أغصان الأشجار، لا يفعل شيئًا غير أن يبكي ويبكي، وهكذا يتمكن الصيادون من تعقب آثار دموعه العطرة، تحت قمر الليل، وعندما يحاصرونه، وتغدو نجاته مستحيلة، فإنه يواصل البكاء حتى يذوّب نفسه إلى دموع، الشاعر هو ذلك الحيوان.
إن الشاعر يبكي فقط من ضيق الخطوة، من القِلّة، من الأيام وهي تصير كومةً خرِبة، لا يدري كم بقي في حوزته من هِزّة، فيستغرق في الإنصات والعدّ. لا يدري ما الذي بقي في كفّ العالم ليعطيه إياه، لكنه يحدّق مليًّا في زنديه المقشعرّين.
– لم تتكيّف بعد؟
– لم أقبل العالم، لا فائدة مني. صدري مرقط، وأعرف أنه لا طائل من هذا الغَبَش، لا منتهى لأَسَاي، ووحشي الذي لم يُروّض ينهشني.
– أهو شهيقٌ هذا أم رائحة!
– بل أضحك كطفل مخبول، كبيتٍ لم يعد مأهولًا بغير الخدوش في بابه والنوافذ، ومقاعد الخلْب اليابس.
يمشي الشاعر دونما جهة وهو يسأل هذه الهداهد والينابيع والنسوة، لأي سلالة تعود؟ للشعر!
يمشي ويملأ أواني لا تحصى، وكلما مرّ بحقلٍ سقاه، وإذا ما تعب جلس على التل، وراح يتأوّه؛ لن يحزم الزمن متاعه، لن يجد مكانًا ليذهب إليه. سيبقى كالأبدية في قلب فتاةٍ كبرت، وهي لا تعرف كيف تلبس نعليها. في روح صبيٍّ يرمقُ قلبَه من بعيد.
إذا مات الشاعر
– يموت الشاعر؟
– يضع يديه في أكمامه بخجل، ثم يسكت للأبد.
خوزيه ساراماغو في كتابه «ذاكرة الأشياء الصغيرة»، علّق تحت صورته القديمة، وهو يقف واضعًا يديه بداخل جيوبه: «جيوب البنطلون هي مخبأ الخجولين».
حسنًا، إذا مات شاعرٌ في مكان ما من هذا الوجود، ماتت في مكانٍ آخر شجرة، وتساقطت أوراقها قبيل الفجر. إذا مات شاعرٌ انطفأت نجمةٌ، وتخاصم حبيبان، وضاع خاتمٌ، وأصبحت الدنيا أقلّ..
إذا مات شاعرٌ أُوصدت نافذة، وبكت خلفها الفتاة والسقف والوسادة، وإذا مات شاعرٌ تنسى القهوةُ المواعيد، ويعتذر الطلّ من الزهرة، ولا يلتفت الصبح إلى وجه الحمامة، والحمامة لا تقف على طرف السور، ويمرّ الغروب متثاقلًا ومقطبًا حاجبيه.. وإذا مات شاعرٌ غصّ بنغماته الناي، ويرجع الشتاء أشد كآبة!
في القرى.. لا ينام الشاعر في الليل، يبقى كالظمأ يحرس البئر والحزانى، ويقسم للجافلين أن لن يفزعهم، وأن لن يحول ما بينهم وبين الدلو..
وفي القرى أولَ ما يتمتم طفلٌ بالأغنيات والشعر تأتي الغيمة، وتتمايل السنبلة، وترى النساء تلك الليلة أحلامًا غريبة، ويستيقظن وفي أكفهنّ الحنّاء. أول ما يولد الشاعر.. تصيح الباخرة، وتتسع الأرض أكثر. وأول ما يولد شاعرٌ.. تسهر الحقول ويفرح الكهول، أمّا الظّلمَة فيحدقون في وجوه بعضهم، ولا يجدون في أفواههم ألسنة!
في القرى إذا مات شاعرٌ.. نامت الصغيرات خائفاتٍ، وصرخ الجفاء، وتقافز الجدب والكراهية، واشتكت الموسيقا من الوحشة، وقالت الهموم في وجه الخلائق: إنكم الآن وحدكم!
الشعراء يذهبون واحدًا واحدًا دون أن يخبرونا ما هو الشعر، دون أن يخرجوا من صدورهم الورقة الأخيرة التي تركوا فيها السرّ، وكيف كانوا يقولون الكلام.. وما هو ذاك الإشعاع الحارّ الذي يلوّن الكلمات، ويضيئها كما تفعل الكهرباء.. يذهبون واحدًا واحدًا إلى هناك، حيث الموت نصّهم الكبير، النص الذي يلقنوننا إياه، يرمونه على ملامحنا، ثم يخرجون بهدوءٍ وحزنٍ، قبيل الفجر دومًا، كما يجدف الغريب الواقف على حافة القارب بصمتٍ وجلال.
أما شاعر أميركا الخارق بيلي كولنز فقد قال: «إن الأطفال يولدون شعراء بالفطرة، ولكن عندما يصلون سنّ البلوغ فإنهم يفقدون الشعر، أو ينزع منهم نزعًا. الأسوأ من ذلك؛ من يبدؤون في كتابته».
يا للسكوونك!