بواسطة فتحي أبو النصر - صحافي يمني | سبتمبر 1, 2018 | نصوص
-1-
ما الذي يتبقى من الوطن، حين يتحول نصفه إلى قتلى؛ ونصفه الآخر إلى قتلة؟!
عالقون في وطن عالق.. بانتظار الصفعة المعتمة، أو الطعنة العملاقة، أو السجن الدرامي، أو الطلقة غير الطائشة. نتخبط في هذا الخراب اللانهائي، ونلقي التحية على العابرين بقلب سليم، بينما يتدلى الخوف من عيوننا الفارغة ووعثاء الأمل قد أصابتنا ولم نتعافَ من الحرب والحب بعد.
هكذا لا أستسيغ القصائد الغليظة يا أمي، بل أتحيز للقصائد النحيفة مثلي لأنها تستطيع الهرب.
لذلك سأحرس عوائي الأليف قدر المستطاع، ومن أجل عينيكِ سأحاول أن أغني وأنا أعرف جيدًا أن الأغنية ستتحول إلى مزحة مستفزة، لكن الحال سيكون أفضل من أن يتحول كل هذا الصمت المكوّم داخلي في نهاية المطاف إلى ورم مميت لن أقوى عليه.
-2-
كحة لا تتوقف عن المشي وأقدامٌ تسعل.
أغنيات تتعفن ومنفضة سجائر خائرة وتزهو.
أخبار الحرب تلطخ أرواحنا بمنتهى الجرأة والشغف في هذا الليل السوريالي المخبول، وتلك الضحكات المتجمدة على الجدار البارد نسيها الأصدقاء القساة وغادروا دون أن يعرفوا ما الذي يجب أن نفعل بالضبط أمام هذه الوحشة الفسيحة.
قليلًا ويمتزج السهو بتأملاتنا النافرة ليتحشرج العشق في تصوفنا المهجور وتصاب الوسائد بلهفة التآويل المتدلية من الأعماق، بعدها سينحدر الطيش إلى ما تبقى من سهر في نوافذ المدينة المنكوبة ليعود خلسةً بالأسى الجميل والهازل الذي تعودنا عليه.
-3-
«ضيقة هي الأحلام»، والوطن -كعادته- ليس على ما يرام. وجثث الأصدقاء تترنح في الحكايات المهملة. وجثتي تحقق توازنها الغريب بهذا الشعور المتوتر لتجليات العبء الأقسى.
ونصغي للعزلة الفارغة؛ فتتسع ظلالنا في الموسيقا البعيدة، ثم نشعر بالخوف من الأشياء الصغيرة للعاشقين؛ فيمنحنا الأمان تبادل الشجن مع مجهولي الهوية.. نحن الذين سنعتذر أكثر مما ينبغي عن الصراخ الرطب الذي وجهناه لبعضنا البعض، وهو الأمر الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه من فظاعات الاقتتال الشهي، وجنازات الريح والغبار!
بواسطة فتحي أبو النصر - صحافي يمني | ديسمبر 27, 2016 | الملف
لا تتوقف محنة أقلية اليهود في اليمن، التي لا يتجاوز عدد أفرادها اليوم 200 نسمة؛ فمنذ بضعة أسابيع وجماعة «أنصار الله- الحوثيين» تحتجز الحاخام يحيى يوسف؛ حاخام اليهود اليمنيين للتحقيق معه، تحت مسوّغ تهريب مخطوط قديم للتوراة إلى إسرائيل قبل أشهر. وكانت سلطات دولة الاحتلال الإسرائيلية أعلنت في مارس الماضي، أنها نقلت 19 يهوديًّا من اليمن إلى الأراضي المحتلة، ضمن ما أسمتها بـ«عملية سرّية ومعقدة» قامت بها «الوكالة اليهودية» شبه الحكومية، معلنة أنها بهذه العملية تختتم «المهمة التاريخية» المستمرة لإحضار يهود اليمن إلى هناك . وحينها كان لافتًا بالطبع ظهور رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وهو يستقبل بحفاوة آخر القادمين إلى تل أبيب من أقلية يهود اليمن، كما استعرض ما جلبوه معهم من لفائف توراة يُعتقد أن عمرها يراوح بين 500 و800 عام، على حين يرى متخصصون أن عمرها أبعد من ذلك بكثير، وأما بحسب مهتمين بتراث وتاريخ اليهودية في اليمن؛ فإن أقلية يهود اليمن تفضح كثيرًا مغالطات صهيونية، إضافة إلى التباسات جغرافيا التاريخ اليهودي نفسه، التي لا تزال محيّرة وملغزة حتى اللحظة.
لقد دانت اليمن باليهودية مبكرًا، وتعدّ من أعرق البلدان التي عرفت الأديان السماوية الثلاثة التي قامت على معنى التوحيد، وبالتأكيد تحوي أسرارًا توراتية لم تتعرض للتحريف بعد، أما مخطوطة التوراة الغامضة التي كانت في حوزة المغادرين إلى إسرائيل مؤخرًا، فهي بالتأكيد ركن من أركان المسألة اليهودية في مهد العرب الأول؛ فما بالكم بالأطروحات التي تعدّ اليمن هي «مهد اليهودية» ولم تهدأ منذ زمن المؤرخ الكبير كمال الصليبي، الذي زلزل الكثير من المعتقدات الراسخة في المسألة اليهودية ومسرحها الوهمي الذي كُرِّس زُورًا؛ في رأيه. والحال أن المصادر الموثوقة أفادت بأن سلطات الأمر الواقع الانقلابية في صنعاء، لا تزال تَعتقل على خلفية تلك العملية أيضًا عددًا من موظفي المطار.
ويؤكد مثقفون يمنيون في بيانٍ لهم حول الحادثة أن «الحاخام اليمني اليهودي قد عانى كأبناء دينه فرض الإقامة الجبرية والتهديد بالموت من ميليشيا أنصار الله، ويُحَقق الآن معه، وهو رهن الاعتقال؛ لأنه يرفض مغادرة وطنه اليمن».
بحسب البيان: «جرى –ويجري- التنكيل منذ أزمنة متطاولة باليهود اليمنيين في عهود الظلام والقهر.. كما رفع الأنصار شعار «الموت لأميركا والموت لإسرائيل.. اللعنة على اليهود»؛ وهو الشعار المنقول حرفيًّا من الحرس الثوري الإيراني، ولا ينطبق بحال على الوضع اليمني». وهؤلاء يتفقون على أن «اليهودية ديانة توحيد حكمت اليمن في الدولة الحميرية الثالثة، وظل اليهود عرضة للإذلال والإهانة والتمييز في فترات مختلفة»، لكن «تهجير اليهود العرب في البلدان العربية قد أسهم في تحقيق المؤامرة الاستعمارية، ورفد الحركة الصهيونية بطاقات ومبررات ودعاوى لا يزال النظام العربي والتمييز والاستعلاء يغذّيها في المشرق العربي كله، ويستفيد الصهاينة -قادة التمييز العنصري في فلسطين- من هذه الممارسات القبيحة.
بنيامين نتنياهو عند استقباله وفدًا من يهود اليمن
أقلية كتومة بتاريخ ملتبس
معلوم أن يهود اليمن أقلية تكاد تتلاشى نهائيًّا؛ فعددهم الآن لا يتجاوز مئتَيْ فرد كما أسلفنا. على أن لهم خصوصية ثقافية تتمايز من بقية اليهود حول العالم. والثابت أن خطة البساط السحري التي نفذت في نهاية أربعينيات القرن الماضي؛ مثلت أعلى تجليات عمليات التهجير المنظمة من شمال اليمن سابقًا. أما في الجنوب فقد «أشعل متظاهرون ضد قيام إسرائيل النارَ في مساكن اليهود ومحلاتهم التجارية ووكالاتهم في عدن في تلك الفترة، تحت سمع وبصر الاستعمار البريطاني الضالع في مخطط التهجير للوفاء بوعد بلفور».
اليوم يمكن القول: إن الإسرائيليين يدركون أن تراث أقلية يهود اليمن الديني والثقافي أشد أصالة من أي جماعة يهودية أخرى في العالم؛ إذ إنهم موجودون في اليمن منذ ما قبل الميلاد، ورغم صنوف التداعيات التاريخية المختلفة حافظوا على خصوصيتهم على نحو مدهش.
أكثر اليهود تدينًا!
في عام 2002م قام معهد الدراسات السامية وكلٌّ من شركة كارنجي وقسم الدراسات الشرقية في جامعة بريستون، برعاية ندوة بحضور 250 مشاركًا من أجل تقييم حالة العلاقات العربية الإسلامية- اليهودية في اليمن، ومن ثم التوصل إلى تقييم العلاقات العربية الإسلامية على العموم مع اليهود، سواء في القرون الماضية أم في العصر الحاضر، حضر الندوة ممثلون عن: المعهد اليمني للديمقراطية، ومركز التراث والأبحاث اليمني، ومركز الإسلام والديمقراطية، ومتحف اليهود اليمنيين، ومركز شلوم للأبحاث، وكذلك علماء ومفكرون من: جامعة بريستون، والجامعة المفتوحة بإسرائيل، وجامعة كولون بألمانيا، وجامعة نيويورك، وجامعة صنعاء. الندوة تطرقت للعلاقات العربية– اليهودية في اليمن عبر مختلف المجالات؛ من التفاعل السياسي، وجملة التقاليد والعادات -في الغناء والرقص والعمارة والمهن المختلفة- في الموروث اليمني.
وبحسب الباحث أفرايم أيزاك -وفق دراسة له عن مركز الجزيرة للدراسات- فإنه: «إذا كان المسلمون اليمنيون أكثر المسلمين تدينًا، فإن اليهود اليمنيين أكثر اليهود تدينًا».
وكذلك تبقى «اليمن مادة قيمة للدراسة حيث نأخذ منها الدروس والعبر عن الجهود التاريخية لليهود والمسلمين في السعي لتحقيق توازن جزئي لتعايش ثقافتين مختلفتين من خلال الاحترام والتفاهم المتبادل بالرغم من وجود الحواجز الثيوقراطية». هذا الباحث يؤكد في دراسته «اتصافَ يهود اليمن بأنهم أناس عصاميون كادحون استطاعوا أن يحافظوا على التراث اليهودي عبر العصور حتى في أحلك الظروف، كما أنهم كانوا حرفيين مهرة؛ مما أكسبهم إعجاب وتقدير المسلمين». وفي رأيه: «مثلت اليمن وإثيوبيا الأرض المقدسة الأسطورية لمملكة سبأ، وتشهد على ذلك آلاف النقوش والتماثيل والأعمدة والجدران العتيقة، والمدن المبنية بأسلوب مذهل، والمعابد والحصون والسدود، مما يدل على غنى الموروث الثقافي والاقتصادي لحضارة ما قبل الإسلام».
بل «يتفرد اليهود اليمنيون بأشياء عديدة، فهم يمثلون أنموذجًا مصغرًا لليهود العرب في الشرق الأوسط بقيمهم وثقافتهم التي تتجلى في ملبسهم ومأكلهم وتقاليد الزواج والموسيقا والعديد من أنماط الحياة الدينية والعامة التي تشابه نمط الحياة العربية. وكأغلب الجماعات اليهودية الأخرى حافظ اليهود اليمنيون على أدق تفاصيل الشريعة والتعاليم اليهودية القديمة، بل إنهم الفئة اليهودية الوحيدة في العالم التي تقرأ الكتاب المقدس لليهود مع تلاوة مسموعة للترجومة الآرامية وفقًا لتقاليد الكنيس اليهودي القديم وكما وردت في التلمود؛ يتلو أولادهم الكتاب المقدس في أربعة اتجاهات في محيط دائري، بينما يتلوه كبار السن عن ظهر قلب. وتتميز تلاوتهم بأن نطقهم يرجع على الأقل إلى عهد العصور الوسطى؛ فبحسب علماء الأصوات الذين درسوا أصواتهم فإن أسلوبهم الخاص في النشيد واتساق أصواتهم تعود إلى عهد موسيقا الكنيسة القديمة وكترنيمة «جيرجوريان»، وكلتاهما متأصلة في موسيقا الشعائر القديمة للهيكل في القدس».
إبداعات الأقلية
الشاهد أن يهود اليمن برعوا وتفننوا في صناعة الخنجر اليماني الشهير بـ«الجنبية»، وفي الإبداع منقطع النظير في صياغة الفضة والذهب والتطريز والأزياء، وفنون الحدادة والنجارة والعمارة والإيقاعات وصك العملة قديمًا. بل إن الأكثرية المسلمة لا تضاهي إبداعات أقلية اليهود في هذا الجانب. وعلى وجه التحديد يعدّ اليهود الذين من أسر يمنية أبرع الموسيقيين والمطربين في إسرائيل والأكثر حفاظًا على خصوصيتهم الثقافية اليمنية في الإيقاعات والألحان.
والواقع أن اليهود تركوا بصمة تأثيرية قوية في فن الغناء اليمني، بينما يعد التراث الغنائي هو الأساس الفعلي لتعايش اليمنيين جميعًا على رغم الهويات الدينية المتشابكة. ثم إن الموسيقا عابرة للديانات.. إلا أن الإشكالية تكمن في أن إسرائيل تعمل جاهدةً لتقديم الموسيقا اليمنية على أنها تراث يهودي، مع أنها نتاج بيئتها الاجتماعية الثقافية «اليمن». والحاصل أن غالبية يهود اليمن في إسرائيل يصرون على الاعتزاز بتكوينهم اليمني وهويتهم المتراكمة؛ فهم يقيمون متاحف للموروثات الشعبية اليمنية العريقة، كما يحافظون على تقاليد اليمن وثقافتها الشعبية والأكلات والأزياء ذات المزاج اليمني في غالب مناسباتهم داخل إسرائيل.
وتنتشر في اليمن الأغاني التراثية التي يؤديها الفنانون اليمنيون اليهود بطرق حديثة على رغم الحظر الرسمي، كما تنعكس في أدائهم الأحاسيس الاستثنائية بالإيقاعات اليمنية بما يؤكد متانة ذاكرتهم الجماعية ولوعتهم الدرامية الاغترابية لفراق الوطن، بل إن بعضهم يشارك في مسابقات فنية عالمية حاملًا علمَ اليمن وليس علم إسرائيل. وعلى مدى قرون لطالما منع الأئمة الذين تناوبوا على حكم الشمال الغناءَ والطرب، بينما لم يكن سوى اليهود من يُقْدِمون عليه؛ مما جعلهم أشد الذين صانوه من الاندثار.
من ناحية أخرى: لعل أشهر يهودي ذاع صيته من الناحية الثقافية والفكرية الشاعر والحاخام موري شالوم شابازي الشهير بسالم الشبزي، الذي سكن مدينة تعز في القرن السابع عشر، وكان يحترمه المسلمون قبل اليهود حتى أصبح اسمه كالأسطورة في عموم اليمن، رغم ذلك لا تزال الكثير من أفكاره مبهمة بحيث لم تدون ولم تصل للقراء، كما التصقت به سمعة البركات الإلهية وخصوصًا الاستشفاء من الأمراض، لكنه كان يسعى للتعايش الخلاق بين الإسلام واليهودية، كما كان كاتبَ أغانٍ، وتميز بالشعر الشعبي باللغتين العربية والعبرية. ويؤكد مهاجرون أن مخطوطات أعماله نُقلت إلى إسرائيل. وهو اليوم من أهم الرموز هناك، حتى إن إسرائيل أطلقت اسمه على أحد الشوارع، كما يتردد بشدة أنها أرادت نقل رُفاته إليها لكن السلطات اليمنية لم توافق. وأما أول امرأة يُعمل لها نصب تذكاري في إسرائيل فهي الفنانة اليمنية اليهودية الكبيرة عفراء هزاع.
عبرية مختلفة عن بقية يهود العالم
إنهم ريفيون بوعي مسالم ومتسامح، يمضغون القات كبقية اليمنيين، وهم أهل ذمة في حماية القبائل بحسب العرف العشائري والديني، لا يتحملون أي أعباء كالحروب وغيرها، كما يُصنفون جماعةً محمية عند وقوع النزاعات، وخصلات شَعرهم هي ما يميزهم من المسلمين، وهم محافظون بحسب الحياة الريفية اليمنية شديدة الشرقية والالتزام. على أن الأطفال منهم يتعلمون العبرية والتوراة والزَّبور فقط منذ وقت مبكر، بينما يقف مستواهم التعليمي عند هذا الحد؛ إذ لا يحبذون التعليم الرسمي المتضمن لمواد إسلامية، إلا أن بعضًا من شباب الأقلية اليهودية يحصلون على فرص تعليم من جمعيات ومنظمات يهودية مهتمة بأحوالهم وأوضاعهم البائسة، وغالبًا يهاجرون إلى أميركا لذلك الغرض.
يقول متخصصون: إن لهجتهم العبرية مختلفة عن بقية يهود العالم، ولهم تراتيل مختلفة عن اليهود المزراحيين والأشكيناز أيضًا. وبحسب متخصصين لا توجد رؤى علمية من جانبهم تسرد كيفية تشكُّل تاريخهم في البلاد. وللتذكير أقول: إنه مع بداية ظهور جماعة الحوثي، وتصاعد ثقافة الكراهية التي حملتها لليهود وإسرائيل، بات وجود يهود آل سالم هناك أكثر خطورة يومًا بعد يوم، ثم مع تصاعد شعار الحوثيين المتضمن عبارةَ: «اللعنة على اليهود»، إضافة إلى سيطرة الجماعة عسكريًّا في المحافظة بعد حروب عدة أقدموا في عام 2007م على ترحيل أقلية يهود آل سالم الذين لا يتجاوز عددهم 80 مواطنًا ومواطنة من صعدة إلى العاصمة صنعاء.
والواقع اليوم أنهم يعانون انتقاص مواطنتهم؛ فقبل أعوام قُتل يهودي على يد مواطنه المسلم المتطرف الذي أقرَّ بجريمته تقرُّبًا إلى الله؛ لأن اليهودي رفض الدخول في الإسلام. وقبل أعوام أيضًا حاول يهودي ترشيح نفسه في الانتخابات المحلية فوجدوه ميتًا في حادث غامض. والمؤكد أن عددًا من نسل اليهود المهاجرين يزورون اليمن كسياح بجوازات سفر أوربية أو أميركية -حسب معلومات موثوقة- تهربًّا من التحريض القائم ضدهم والمواقف الرافضة للتطبيع مع إسرائيل. جدير بالذكر أن موقف أقلية اليهود في اليمن من الاحتلال الصهيوني واضح وحاسم بحيث يتمسكون بتعاطفهم مع فلسطين، بل إن بعضهم يؤمنون ببطلان قيام إسرائيل أساسًا، ولذلك لم يفضلوا الهجرة رغم ظروفهم الصعبة.
بواسطة فتحي أبو النصر - صحافي يمني | أغسطس 30, 2016 | الملف, كتاب الملف
ماذا بوسع القصيدة أن تفعل وهي تواجه تفاصيل الحرب المتلاحقة؛ من تشرد وفقدان وخراب وهلع ورجاء ويأس؟! ثم ما الذي يتبقى من الوطن، حين يتحول نصفه إلى قتلى؛ ونصفه الآخر إلى قتلة؟! لقد أثخنت الحرب يوميات الشعراء في اليمن، كباقي الفئات المجتمعية؛ وهي الحرب الدؤوبة التي فاقت المخيلة، كما تنطوي على واقعية سريالية ذات مفارقات صادمة وعجيبة، لم يتحملها العقل، بقدر ما أثخنت العاطفة.
وعلى سبيل المثال، أعرف شاعرًا تشرد كلاجئ في أربع محافظات هو وعائلته.. وآخر طالته ثلاث رصاصات آثمة وسط العاصمة من بلاطجة، والأرجح بسبب آرائه، فيما أجرى ثلاث عمليات في ثلاث دول.. وآخر قطعت الميليشيات راتبه ومصدر دخله الوحيد، فقرر ترك المدينة والعودة إلى قريته علّه ينجو.. وآخر وقعت قذيفة عشوائية على منزله وما زال يسكن فيه متصالحًا مع كل هذا العبث.. وآخر غادر اليمن لمدة وجيزة كما قال، ولم يستطع العودة منذ عام ونصف؛ لأن الحرب دمرت منزله وتشردت عائلته وهو بعيد لا يملك قيمة تذكرة العودة.. وآخر قُتل شقيقه في انفجار انتحاري؛ لأنه كان موجودًا في مكان الحادث بالصدفة، وحتى اللحظة لا يزال ممسوسًا لشدة وقع الحادث على ذهنه.. وآخر زادت حالته النفسية سوءًا؛ لأنه يخضع لعلاج عصبي لا يتاح بسهولة من جراء الحرب.. وآخر انضم للمقاومة.. وآخر انضم للحوثيين.. وآخر فقد مصدر رزقه؛ لأنه يعمل في صحيفة قرر الانقلابيون إغلاقها.. وآخر صار يبيع منتجات غذائية مهرّبة على أحد الأرصفة ليسدّ رمقه.
وهكذا.. على نحو فجائي وصلت اليمن إلى مصاف اللحظتين العراقية والسورية الأكثر مرارة عربيًّا، فيما تملشن وتعسكر كل شيء حول اليمنيين على نحو طائفي ومناطقي بغيض.
ثم ها نحن في خضم اللحظة المارقة التي صارت مملوءة بالحقد والهوس والخيبات واللاتسامح واللاعقلانية. والحال أن معظم الخطابات في ظل التجاذبات السياسية والعنفية الحادة، لا تهمها فكرة الوطن والمواطنة للأسف، ما بالكم بالإبداع والتجريب. كما أن اللغة من الطبيعي أن تأتي هشة وخاوية إلا ما ندر.
السخط هوية للشاعر
فحيث تدور المعارك منذ نحو عامين في كل الجهات؛ صارت العزلة أحيانًا -وغالبًا السخط- هوية الشاعر اليمني الحديث، إضافة إلى المثقف الذي يحترم ذاته والأكثر حساسية، كأقل احتجاج ضد ما يجري.
ووسط هذه التغريبة وأهوالها المزدوجة، يعيش الشاعر اليمني خاصة والمثقف عامة.. في خضم الصراعات المعقدة القائمة اليوم، يحاول المثقف الموضوعي جاهدًا الانحياز إلى ما يمثل جامعًا وطنيًّا، والتموضع داخل حلم المدنية والعدالة والقانون.
الحاصل أنها الهزة الأشد عنفًا في المجتمع اليمني التائق للتغيير. كما طالت اللغة ومحمولاتها. لذلك فإن التفاؤل تقابله امتيازات التشاؤم بما تحمله هذه الامتيازات من إدانة مثلى للواقع. لكن هل ستكون النهاية كما تخيلها الشاعر أحمد العرامي مثلًا:
«آخر رصاصةٍ في حوزةِ الحرب
ستقف حائرةً بين قاتلين،
هكذا يمكن للكلاب المشردة
شنق حزن الأمهات في الهواء»!
أما ونحن في صميم الحرب، فيمكننا أن نجد خلاصة اللاشيء أيضًا بمحاذاة كل الأشياء، تمامًا كما في قصيدة «هدنة» لجلال الأحمدي:
«هذه الليلة
يمكن للدموع
أن تصطاد فرائسها بسلام
يمكن لأغنية معطوبة
أن تدور وحدها بالشوارع
دون أن يعتقلها حاجز
أو أن تلاحقها الكلاب
والعتمة على غير العادة
تفتح حصانًا للنسيان
وآخر للقبلة
كل الأشياء تبدو بليدة
وغامضة
لا منتصر
ولا مهزوم
حتى إن البنادق مع قتلاها
تنام
جنبًا إلى جنب
بعد أن توقفت
عن السعال»
غير أن الأحمدي يبدو مكللًا أكثر بالتهكم واللوعة معًا، كما في نص آخر:
«تمنّيتُ لو أكتب لكِ عن الحرب
لكن كيف أكتب صوت الرصاصة!
حشرتُ لك جثثًا كثيرةً
لكنّكِ لا تقرئين!
تريدين أن تعرفي كيف تبدو رائحة الجنود
افتحي حقائبكِ
إنها تشبه التّعب والذكريات الجريحة».
على حين أن الشاعر أوراس الإرياني ما زال يصرخ ببوهيميته الحنونة وصرامته الساخرة:
«بينما كنت أجهز قلبي للحب أضعت رأسي.
بعد كل قصيدة كتبتها إليك أعد أصابعي.
عندما وضعت أذني في قلب المطر
سمعته يتحدث عن الحرية ويئنّ».
أوراس الأرياني
فارس العليي
نبيلة الزبير
محمد اللوزي
يبقى «الشهداء أقل ضحايانا، نحن الضحية ﻻ الراحلون» كما يقول الشاعر فارس العليي، ويضيف :«ربما ذهبت القصائد أحيانًا لأداء لعبة الغموض عندما تنحذف من شعرية الإحساس الدائم بأنك شاعر ومكون لموقف ينحاز دائمًا للخفة، ﻻ أدري كيف أشعر الآن على نحو مخاتل يحفز إيقاع سلوك عامل بلدية أو فلاح مهمل للأرض ويشعر بلا جدوى الاستمرار في الاعتناء بها».
شعور بلا جدوى الشعر
ويتابع العليي: «إنه شعور يلخص اعتقاد إمكانية أي شعرية داخلية، شعور عابث مغمور بالضياع وشعور بالقلق واللاجدوى من الشعر وأن ﻻ وظيفة يمكن أن يرتبها في الوجود الإنساني، سوى المواقف غير المكتملة لجمل وعبارات تتنافر في الجمال بما لا يفضي بدلالة تقول على وجه التحديد شيئية، وطالما تستمد الحداثة الشعرية بصورتها الحالية هذه الفوضى والعشوائية والتسارع المحموم للنقائض حد تلاشي الإشارات وتوهجاتها الفجائي، فإن الصورة المنعكسة من الاضطرابات العملية لتقدم العالم نقوم نحن الشعراء بتكريسها في النصوص بصورة تعقيدية تنال مما تبقى من هوامش بالإمكان الإمساك عندها برأي يأخذ مكانه في العالم».
لكنه يستدرك: «لست ضد هذا إنما أشعر بالامتعاض من التأويل والأسلوبية وإصرار التفكيكية على تشتت الوجود، والتلقي المقرفص ونحن هناك في السريالية غائطين حينًا وجافين دون قطرة واقعية لتبليل ريق فجائعنا من تخوم لا معقولة وتفوق التصور والاحتمال».
ومن ناحيتها تتأسف الشاعرة والروائية نبيلة الزبير، على تحول أصدقائها إلى أطراف وخصوم، «لكن الأكثر إيلامًا أن يكون في أصدقائك من هم أطراف وخصوم بالمؤازرة… أنا لا خصم لي سوى من يباعد بيني وبين وطني… وطني يتسع لهم جميعًا، ووطنهم يضيق بي!». وتضيف: «لكثرة أعداد القتلى والموتى التي تشهدها أيامنا هذه تعذر علي القيام بواجب العزاء أولًا بأول. فليعذرني المحزونون وليتقبلوا حزني. كذلك؛ لكثرة جرائم الحرب وسرعة تواليها بات يتعذر إدانتها أولًا بأول».
أما الشاعر محمد اللوزي فهو يؤكد لفوضى ذاته الرائعة:
«لم تكن شاعرًا
بقدر ما كنت أعمى
تتحسس ما تراه من كرنفالات
بيدين معزولة عن العالم
ولا تفقه مما لمسته شيئًا.
بالغت فيما ترى
حتى إنك رأيت الشيء قبل أوانه
ورأيت فيه ضده
تفحصته بيديك وهلة أخرى
ورميت في البئر أصابعك.
لم تكن غرابًا
أو زئيرًا يطارد غزالة
وكنت بمعزل عنك
ناهيك عن أنك تحسب الجميع أعداء
بما فيهم لثغة الراء حين تنطقك».