الجمهور والكوميدي وجهًا لوجه.. مفارقات المضحك لدى شارلي شابلن
استعاد رائد السينما الصامتة، الفنان العالمي الكوميدي الإنجليزي الشهير شارلي شابلن (1889- 1977م)، في سيرته الذاتية «قصة حياتي» التي ترجمها كميل داغر عن الفرنسية، وصدرت عن المركز الثقافي العربي، لحظة استثنائية ضمن لحظات أخرى مثيرة وفارقة، أوردها في سياق حديثه عن عرضه التمهيدي لأحد أفلامه، الذي جرى احتضانه في صالة من صالات إحدى المدن الأوربية، حيث تم العرض بشكل خفي ومن دون إعلان؛ لأنه اعتقد أن عمله لم يكن طريفًا بالقدر الذي كان يُعِدّ له هو وزملاؤه في الكواليس قبل عرضه، في أثناء إقامتهم تجارب متكررة في مرحلة المونتاج، فانتهى إلى قناعة مفادها أن الفلم ليس ممتعًا ولا مثيرًا.
وفي ضوء هذا المسار، نلفي شابلن يقدم إشارة مباشرة يستعيد فيها لحظة جمعته بالجمهور، وتحمل تصوره الخاص –ككوميدي- للجمهور ونظرته إليه في إطار علاقته به، إذ يعبر في هذا الصدد عن الأزمة التي انتابت حالته النفسية، وهو يتوجس مفترضًا كيف سيزداد قلقه إذا ثبت أنه أخفق، ثم انتقل بعد ذلك إلى وصف نفسية جمهوره، وشرح ما له من مواقف وردود الفعل في أثناء عملية التلقي، يمكن أن تكون أحيانًا حاسمة ولها تأثيرها الخاص في الحكم على الفلم وفكرته، حكمًا قد يمسي إما إيجابيًّا أو سيئًا.
وعن ردة فعل الجمهور المحتملة، يستعيد شابلن ما اختمر في ذهنه من تصورات ورؤى بصدد جمهوره، قائلًا: «انقبضت معدتي فجأة. جلست يائسًا، بانتظار بداية الفلم. كان الجمهور يبدو عاجزًا عن التعاطف مع أي شيء يمكنني أن أقدمه له، وكنت قد بدأت أشك في الفكرة التي كنت أكونها عن أذواق الجمهور ورد فعله إزاء الكوميديا (…)، وتبادرت عندئذ إلى ذهني الفكرة المريعة، بأنه يمكن أن يخطئ كوميديٌّ أحيانًا خطأ ذريعًا في تصوراته للكوميديا. كم أستفظع عروض الافتتاح! كان يمكن للمرء أن يقرأ على الشاشة: «شارلي شابلن في فلمه الأخير (الغلام). وعلت في القاعة صيحات إعجاب، وتصفيقات مبعثرة. وقد أقلقني رد الفعل هذا، وذكرني بمفارقة غريبة: ربما كانوا ينتظرون الكثير، وسيصابون بالإحباط؟» كما يقول هو نفسه.
إحساس بالتوجس
وإذا تأملنا إحساس شابلن بالتوجس والقلق في ظل المحنة المريعة والشديدة التي تصور أنه سيواجهها في أثناء عرضه التجريبي لأحد أفلامه أمام الجمهور، فإنه لا يخرج في الغالب عن معنى كونه إحساسًا عامًّا ومشتركًا يتقاسمه كل الممثلين الفكاهيين، من مخرجين ومؤلفين وغيرهم من رواد الكوميديا، كما أنه لا يتعدى كذلك نطاق الدور الذي يجب أن تؤديه الفكاهة في حالة تأكيدها ميثاق التلقي، في إطار علاقة الممثل الكوميدي بالجمهور الذي لا يخلو حضوره من سلطة وجدلية، يضرب لهما الفنان الكوميدي ألف حساب، حيث يقض الارتباك والحيرة والتوجس مضجعه، ولا ينتهي شعوره بالقلق أو التخفيف منه إلا ساعة نهاية العرض، كزمن نهائي يستقر فيه رأي الجمهور وحكمه الإيجابي على العمل الذي يعبر عنه من خلال التصفيقات والصيحات والضحك، والتفاعل بمختلف أشكاله وأساليبه التي تفيد معنى التواصل الإيجابي، والمشاركة الفعالة مع العمل، وتقبله وفهمه وتذوقه والإعجاب به، ولا يرتاح بال المبدع الكوميدي إلا عندما يطلق «الضحك» كعلامة على إصابة الهدف كما ينبغي؛ لأنه العقد الذي يربطه بداية مع الجمهور حين يشركهم في إبداعه الحامل في عنوانه تسمية «الفكاهي» أو «الكوميدي» كصفتين للتصنيف الذي يبني عليه الجمهور توقعه وأفق انتظاره، بمثل ما يهتدي بواسطته الكوميدي لقياس درجة نجاح عمله من عدمه.
وإذا كان الإحساس بالقلق والتوتر شيئًا عامًّا ومشتركًا بين رواد الكوميديا في السينما والمسرح، لما للجمهور من خطورة بات يستمدها فيما له من سلطة غدا يمارسها في حضوره خلال العرض الكوميدي، بشقيه المسرحي والسينمائي؛ فإن شابلن نراه حالة خاصة إلى حد ما من بين هؤلاء، ذلك أن التوتر والقلق يظلان ملازمين له في كل عرض تمهيدي أو افتتاحي جديدين لأحد أفلامه، إذ يحدثنا في هذا المجرى عما يحسه من قلق، وما ينتابه من سخط وغضب على الناس والعالم من حوله، في أثناء وجوده في إحدى هذه اللحظات الحرجة التي يمقتها، من ناحية كونها تشكل له تحديًا شاقًّا يبدو فيه كَمَنْ يجتاز امتحانًا عسيرًا.
أما المفارقة التي اندهش لها شابلن، وأزالت ما استبد به من قلق وخيم عليه من وجوم، فقد حدثت خلال لحظة جمعته بالجمهور في صالة أقيم فيها عرض الافتتاح لفلمه «الغلام» الذي أنتجه سنة (1920م)، حيث شتتوا ذهنه بتصفيقاتهم المبعثرة في بداية متابعتهم ومشاهدتهم للفلم، وهو ما أزعجه في أوان تقديمه، معتقدًا أنه سيخيب ظنهم؛ لكنهم في لحظة معينة أبدوا ردة فعل إيجابية تجاه العرض كسرت أفق انتظاره وتوقعه السلبي من جمهور غامض، لا يخلو حضوره من تأثير أصابه بارتعاب شديد بثّ في نفسه اضطرابًا، وهذا دفعه لكي يبدي شكًّا ضمنيًّا، عما تخيله سابقًا من رؤى وتصورات تخص أذواق الجمهور وانطباعاته، وعمّا كونه الجمهور بالمقابل أيضًا من مواقفه بصدد الكوميديا.
هكذا إذن، أزيل شعور شابلن بالقلق، وتحول فجأة إلى إحساس بنوع من الرضا والارتياح، خلال تفاجئه بردة الفعل الإيجابية التي انعكست على العرض، عندما أثار مشهد لافت اهتمام الحاضرين، وأدركوا معناه المفارق بفهمهم، فانفرجت له أساريرهم، ثم تفجرت ضحكاتهم، وتعالت صيحاتهم مع كل لقطة من لقطات المشهد، وهكذا استمر الضحك في المشاهد اللاحقة إلى حدود نهاية الفلم.
«الغلام» أنموذجًا لتجليات المُضحِك
إن من بين ما يثيرنا بدورنا في استرجاع حديثنا عن هذا المشهد، هو الجانب المضحك ضمنه، الذي تعد الأشياء أبرز موضوعاته الرئيسة؛ لأنها اتخذت في الفلم وضعًا غريبًا، حين استعملت عكس الدور الذي صنعت لأجله، وفي سياقات مفارقة، وهو ما أضفى على المشهد طرافة، في الوقت الذي تحوّلت فيه الأشياء إلى مثار للضحك. وفي هذا الإطار يقدم لنا شابلن صورة للأشياء التي أدت دورها بالمعكوس في مشهد وصفه قائلًا:
«تتخلى أم عن طفلها، تاركة إياه في سيارة ليموزين. ثم يأتي من يسرق السيارة ويترك الطفل في الأخير قرب مزبلة. وعندئذ أظهر في شخص شارلي. فتنفجر الضحكات، وتزداد شيئًا فشيئًا. كان المشاهدون قد فهموا المزحة! مذاك، لم يعد للأمور إلا أن تسير سيرًا حسنًا. لقد اكتشفت الطفل وتبنيته. وقد ضحك الناس حين رأوني أخترع أرجوحة نوم مكونة من قماش كيس قديم، وكانوا يصيحون ويزمجرون وهم يرونني أطعم الطفل بواسطة إبريق شاي على فمه حلمة. وانفجروا وهم يشاهدونني أحدث ثقبًا في تقشيش كرسي قديم وأضعه فوق وعاء للتبرز. وفي الواقع، لم يتوقفوا عن الضحك طيلة الفلم» (قصة حياتي).
المضحك في المشهد نابع من الطابع الخيالي الذي تم إضفاؤه على الأشياء التي جرى قلبها على عكس صورتها، ثم استعمالها في غير محلها كما هو معهود، وهو ما جعلها تتخذ وضعًا غريبًا، شوش علاقتنا بها كما شوّه صورتها الأصلية، بحكم فقدانها وظيفتها الأساسية المألوفة التي تمارسها في الواقع. وهكذا صار المشاهد ينظر إلى الكرسي وقد أحدث في وسطه ثقب، ثم أحيل في صورته إلى مرحاض، حين فقد مهمته الأصلية كشيء مخصص للجلوس والاستراحة؛ وقماش الكيس القديم تحوّل بدوره، فأصبح مكان الغطاء النقي أو المهد المريح، بوصفهما أشياء طبيعية معدة للطفل سلفًا لكي يخلد فيهما إلى الراحة والنوم الهنيء؛ أما الحَلمة فقد تغيرت صورتها لتتبدى في رأس الإبريق، كما ناب الإبريق مناب الثدي الطبيعي الذي يتغذى منه الطفل؛ وحلت المزبلة بدورها محل المستشفى أو البيت أو دار الحضانة، لأنها الأماكن الطبيعية للولادة والرعاية والتنشئة السليمة للأطفال. في حين يمثل العثور على الطفل في المزبلة شيئًا يستدعي الغرابة، ويولد في النفس إحساسًا بالامتعاض والاستهجان وعدم تقبل هذا الوضع، على رغم ما قد تحمله اللقطة من إثارة.
إلا أن هذه الإثارة ستزداد عمقًا حين يلمح المشاهد اكتشاف شارلي هذا الطفل، حيث سيكون عاملًا في إثارة مستدعيات الجمهور بشأن شخصية شارلي التي ابتكرها شابلن، والفكرة السابقة التي كوّنها عنه من خلال أفلامه الكوميدية الساخرة والمتهكمة، وهي معرفة لا تتعدى معنى كون هذه الشخصية تؤدي أدوارًا إنسانية بسيطة، لكنها ترمز في الوقت ذاته للسذاجة والبلادة والحمق والبلاهة. غير أنها بالرغم من كونها حالات ترمز للغفلة، فإن الجمهور يتقبلها من شابلن ولا ينظر إليها على أنها عيب في السلوك عندما يجسدها في قالب فكاهي؛ لأنه من جهة أولى فهم اللعبة وتوصل إلى أنها عادية في مجال التمثيل الكوميدي، ما دام الجنون والبلادة والحمق والبلاهة والغباء وغيرها، من الحالات المختلفة التي تغيب فيها جدية الإنسان واتزانه ورجاحة عقله وصرامته، المحيلة إلى عالم الآخر الهامشي، المقموع والمنسي، ليستقر عنده الفهم بالتالي أنها ليست في النهاية سوى حالات مغلفة بظلال العقل، وأنها تنطوي على مغزى ما، يحمل خطابًا مضمرًا ورسالة جدية، تختزل المعنى في صوره المتعددة وأشكاله المختلفة.
معالجة الأمور بالمقلوب
من جهة ثانية يقبلها الجمهور كذلك من شابلن؛ لأنه يأتيها بشكل طريف ومرح، ويستمتع الجمهور أكثر حينما تقدم هذه الشخصية على معالجة الأمور بالمقلوب، في نوع من السذاجة وعدم المبالاة وعدم الوعي بالمغامرة إلى حد المخاطرة بمصير الآخر؛ ونتيجة لذلك فنحن نضحك من عيوبه التي ندركها ولا يدركها هو، ونراها ولا يراها عن نفسه. يضحكنا شابلن لأن ما يقوم به من أفعال وما يزاوله من أعمال وما يسند إليه من أدوار ومهام، لا يأتيها في الغالب كما يأتيها الناس عادة على وجه سليم. فإذا دخل أحدهم من الباب خرج شابلن من النافذة، وإذا قام أحدهم جلس شابلن أو افتعل سقطة غير إرادية. السقوط والصلابة الآلية والمطاردة والركض السريع والتدحرج والدوران بصفة مستمرة، وغيرها من الحركات التي تظهر الإنسان في أوضاع غريبة، تمثل نماذج للحالات المميزة لطابع المُضحك عند شابلن. منطق شابلن في عرض المشاهد هو إظهارها بلا منطق، معكوسة ومقلوبة، شابلن يسير دائمًا عكس التيار، وحين يبادر إلى فعل ما أو أداء دور ما، فإن ذلك يصدر عنه بلا عقل أو تفكير، وأعماله في سائر أفلامه قائمة على مبدأ عدم التدبير، كأنه يقول لنا: إن التدبير السليم للأشياء في مكان آخر غير هذا؛ إنه يحثنا على إعمال الذهن لكي نفهم أفكاره، ونرتبها حتى نراها في مرآتها السليمة الصحيحة التي ينبغي أن تظهر عليها في الواقع، لا في صورتها المعكوسة المشوهة.