تجربة الهايكو في الأحواز
الأحواز بلد عربي لن تجده على الخارطة العربية، أخباره مكتومة، الكتب والجرائد والمجلات لا يسمح بها، ولهذا كان الأدب الفصيح الحديث فيما سبق شبه معدوم، وكانت القوالب الشعبية هي الرائجة والمتداولة، جاءت الشبكة العنكبوتية وفتحت الأبواب على مصراعيها، فتعرَّف الأديب الأحوازي تجربة الشعوب المختلفة، واطلع بفضل هذا التطور على أنماط أدبية جديدة كالقصة القصيرة جدًّا والهايكو وغيرهما من الأنماط الحديثة، وأخذ يزاولها ويتدرب عليها.
الهايكو هو نوع من الشعر اكتشفه اليابانيون، وازدهر بفضل ماتسو باشو (1644-1694م) وهو شاعر ياباني، ومعلم شعر الهايكو الأكبر بلا منازع. يحاول شاعر الهايكو، من خلال ألفاظ موجزة شفافة بعيدة من السرد التعبير عن مشاعر جياشة أو أحاسيس عميقة بعيدًا من الحكمة والتحليل الشخصي للأحداث. ومن الجدير بالذكر أن أشهر قصائد الهايكو تحكي تفاصيل وحالات يومية لكن من زاوية جديدة تجعل الحالة المألوفة جديدة تمامًا على المتلقي. الهايكو قصيدة اللحظة.. التقاط المشهد الذي لا ينتبه إليه العابرون.. وعندما يقرؤون نصك تصيبهم الدهشة ويقولون: «يا الله كيف لم ننتبه لهذا؟!».. الهايكو أشبه بالتوقيعة والإبيجراما.. تجد فيه كل شيء، لكنك تجد فيه روحك أولًا!
في سنة 1949م، مع نشر المجلد الأول من كتاب ريغنالد هوراس بليث (1898-1964م) «الهايكو»، دخل الهايكو بقوة إلى الغرب. كان ذلك المجلد فاتحة جديدة ضمن سلسلة أعماله عن الزِّنْ والهايكو والسنريو، وعن صنوف أخرى من الأدب الياباني والآسيوي. على الرغم من أن بليث لم يتوقع ظهور هايكو أصيل في لغات أخرى غير اليابانية عندما باشر الكتابة في الموضوع، وعلى الرغم من أنه لم يؤسس لأي مدرسة في الشعر، فقد حفزت أعماله كتابة الهايكو بالإنجليزي. ففي آخر المجلد الثاني من كتابه «تاريخ الهايكو»، لحظ أن «آخر التطورات في تاريخ الهايكو هو تطور لم يتوقعه أحد… كتابة الهايكو خارج اليابان، وليس باللسان الياباني».
وصل الهايكو إلى اللغة العربية عن طريق ترجمة نصوص عبر لغات وسيطة كالإنجليزية حتى نهاية التسعينيات، ثم بدأت تظهر ترجمات عن اللغة اليابانية. رغم أن كثيرًا من النقاد العرب لا يعترف بالهايكو العربي كمدرسة شعرية مستقلة، بل فرع من شعر النثر، إلا أن عدد شعراء الهايكو ونواديهم في ازدياد مستمر. والهايكو العربي بات يأخذ مكانته بقوَّة، بعد أن تبنَّته أسماء عربيَّة لامعة سطعت على صفحات التواصل الاجتماعي أو من خلال الصحف والمجلات العربيَّة.
اختلاف الهايكو الأحوازي عن العربي
ربيع الهايكو في الشعر العربي قد انتشر طولًا وعرضًا من المحيط إلى الخليج، وشعراء الأحواز مِن هذا الربيع الهايكوي العربي الذي ينمو ويترعرع ويزدهر يومًا بعد يوم وهايكو بعد هايكو. وإذا كان شعراء الهايكو في البلدان العربية قد تنفسوا هواء الهايكو من خلال اللغة العربية فإن شعراء الهايكو الأحوازيين قد تنشقوا نسمات الهايكو العذبة من خلال نافذتين وليس نافذة واحدة فقط؛ إذ إنهم اطلعـوا على الهايكو الفارسي والهايكو العربي، وهذا بدوره يجعل منهم مجموعة مختلفة قليلًا عن الشعراء العرب الذين يكتبون الهايكو في الوطن العربي. ومن محاسن هذه المجموعة من الشعراء الذين يكتبون الهايكو في الأحواز قدرتهم جميعًا على كتابة هايكو صحيح من حيث البنية والشكل، فلا يخلطون بينه وبين القصيدة القصيرة المتكونة من ثلاثة أسطر، بينما نجد أن هناك كثيرًا من الذين يكتبون بالعربية لا يعرف بالضبط كيف يميزون بين قصيدة قصيرة من ثلاثة أسطر وبين الهايكو.
يكتب الهايكو في الأحواز مستمدًّا مادته من بيئته كما هي في الحاضر، وقد أخذ شعراء الأحواز بحساباتهم عند كتابة الهايكو العربي – أحوازي، النخلة والساقية ولبطة الشبوط في الهور، وقفزة الهامور في البحر، ونقيق الضفادع إلى آخره. فإن الهايكو الأحوازي هو ذلك الهايكو الذي يعكس خصوصية الأحواز كمكان وحياة وأناس وفولكلور؛ لأن الهايكو إذا أهـملَ الخصوصية المحليّة، سيصبح هايكو لا نستطيع تحديد هويته لأن كثيرين من مختلف أنحاء العالم يكتبونه، فهو إذًا هايكو شائع. فلو أخذنا هذا الهايكو لعلي مطوريان من محمرة الأحواز:
شمس المغيب…
سيقان فتيات حقل الأرز
أكثر سمنة
هذا الهايكو مثلًا لو كتبه شاعر عربي من الكويت لا يمكن قبوله؛ لأن الكويت لا يزرع فيها الأرز، فإن هذا الهايكو يعكس خصوصية أحوازية، ولو كتبه الكويتي سوف يشعر القارئ أن الشاعر كتبه ليس بعد تجربة عاشها بل كشيء فكّر فيه وتخيّله.
وفي الهايكو التالي استند توفيق النصاري في شعره إلى المزاوجة المبدعة بين المتضادات، أي العاقل في اللاعاقل بطریقة فنية تؤدي إلی توهج وتألق الهایکو.
القَصَب …
يَكْبرن بصمتٍ
فَتَياتُ القَبِيلة!
یتکون هذا الهایکو من صورتین؛ الأولی: (القصب)، والثانیة: (یکبرن بصمت فتیات القبیلة)، وقد فُصلت الصورتان بثلاث نقاط، وعلی القارئ أن یکتشف العلاقة التي تربط الصورة الأولی بالثانیة. نحن في هذا المقطع أمام مشهدٍ حي یتداخل فیه العنصران «القصب» و«فتیات القبیلة» ویرسم الشاعر لنا بألفاظه الموجزة والبعیدة من السرد صورةً فوتوغرافیة في غایة الجمال. إنّ القبیلة تلعبُ دورًا مأساویًّا في حیاة المرأة وهي التي أدّت بفتیاتها إلی العزلة وأجبرتهن أن یملن إلی الاختفاء في الغرف القبلیة البلهاء، وأن یشعرن بالوحدة ویکبرن بصمت کما یکبر القصب في صمت رهیب من دون عنایة، وبعیدًا من شعور الناس. القصب ینبت وینمو ویعیش بعیدًا من المجتمعات، یکبر ویطول ویجف ویذبل ولا أحد تقوده غریزته لفحصه إلی أن یصل إلیه قاتله ویقطعه من جذوره لیجمعه لصناعة شيء ما.
الهايكو واللحظوي
الشاعر الأحوازي عادل آل ناصر يقول: الهايكو يستمد قوته من الإحساس والمشاهدة المتمثلة في نظرة ثاقبة لحظوية يستخرج منها «الهايكست» لقطة مميزة وصورة فوتوغرافية في غاية الجمال، ملتقطة بالتفاتة ذكية وزاوية دقيقة ربما لم يشاهدها غيره، فيخلق لنا تلك الصورة في ثلاثة أسطر تحتوي على مشهد رائع ومتكامل من دون عناء التركيز لقوة المفردة وضرورة اختيار الكلمات الصعبة أو المحنطة أحيانًا، ويقول الشاعر:
عش العصفور
خلف النافذة…
أتنسم في الفناء
الهايكوات التالية لبدر نصاري من فلاحية الأحواز:
مكتبة قديمة،
بين المعجم والقرآن
نسيج عنكبوت
في الغروب
تودع ظلها
النخلة
غروب كارون،
سوداءَ تبدو
نوارس الشاطئ
لاحظنا تأثير اللغة والبيئة والثقافة العربية الأحوازية في الهايكو، واستطعنا في الوقت ذاته أن نميّز بين الهايكو والأساليب الشعرية الحديثة الأخرى.