الشعراء القصاص من الغناء إلى المحاورة
ساد شعور عام لدى النخب الثقافية والأدبية أن التفات الشعراء في المملكة لكتابة الرواية والقصة حدث جديد، وهو شعور مبرر في ظاهره، إذ ركز الإعلام الثقافي على ظاهرة كتابة الرواية والقصة من جانب شعراء كبار بحجم القصيبي والدميني، وهو ما جعل الأمر يشبه الاحتفالية من ناحية، والتساؤل من ناحية أخرى، تساؤل وصل إلى حد اتهام الشعر بفقدان دوره في الحياة الأدبية. وهو استنتاج متعجل تنقصه القراءة المتعمقة سواء في مستواها التاريخي أو الظاهراتي.
هنا سأحاول استكشاف الظاهرة، ظاهرة كتابة شعراء الجيلين الأول والثاني في المملكة العربية السعودية للقصة بعد أن استقرت أدواتهم الشعرية، وعُرفوا بعطائهم الشعري الذي استحقوا به لقب شاعر. وعليه فإني لست معنيًّا هنا بما قدمه شعراء العقدين الأخيرين من مغامرة في كتابة الرواية والقصة، بل سأعود بالقراءة إلى بدايات الأدب في المملكة، وبخاصة في مرحلة الجيلين الأول والثاني، لنرى محاولة اقتراب الشعراء من القصة في زمن لم يكن للقصة شأن يذكر، بل لا حظ من الشهرة لمن يكتبها مثل ما للشعراء من حظ وحظوة. فما الأسباب التي جعلت من القصة تجربة يحرص الشعراء على كتابتها؟! وقبل مقاربة الأسباب أرى أنه لزامًا إثبات الظاهرة، ثم استخلاص ما يبدو من أسباب ثقافية أو فنية.
في بدايات نهضة الأدب كان الاهتمام بالشعر، وهو اهتمام يتجاوز قول الشعر إلى مواكبته دراسة ونقدًا ، بل تخصيص صفحات الجرائد للقصائد الطوال، إضافة إلى ما ينشره الشعراء من دواوين مستقلة، أو يلقونه في المنتديات. أما ما سوى ذلك من الكتابات فيأتي في مرتبة متأخرة من حيث الاهتمام.
إذن ما واقع القصة ومن يكتبها في تلك المرحلة المبكرة من تاريخ الأدب السعودي؟ كانت القصة، في مطلع نهضة الأدب السعودي، نوعًا أدبيًّا حديث الولادة في ثقافة شعرية بامتياز. فجلّ ما كُتب من القصص والروايات في الأدب السعودي حتى مطلع الثمانينيات الميلادية قليل ولا يقاس عليه. ويفتقر في الغالب للتطور الفني الذي يؤكد إحداثه لاختراقات فنية. وكل الجهود في كتابة القصة التي قدمها الأنصاري والسباعي والمغربي وعزيز ضياء وحتى دمنهوري والناصر ورضا حوحو وعالم الأفغاني وغيرهم كانت تتلمس طريقًا غير مطروقة، وتسعى لتأسيس موقع داخل خارطة الأدب السعودي. إضافة إلى ذلك، فإن هؤلاء الكتاب كانت لهم انشغالات أخرى إلى جانب كتابة القصة، ومعظم ما يكتبون يُدرج في باب النثر لا السرد. وتلك حكاية أخرى. وعليه، فالاهتمام العام كان موجهًا للشعر والحظوة كانت للشعراء. وفي ظل هذا الواقع، واقع حضور الشعر، وخفوت صوت القصة، ما الذي يغري الشعراء بكتابة القصة؟!
تعبيرية شعرية
من محددات هذا المقال أنه لا ينظر في إنتاج من غلبت عليه جوانب تعبيرية أخرى غير شعرية، بمعنى أن الشعر هو موجب النظر في تجربة من يكتب القصة. فمن بين هؤلاء الشعراء يأتي محمد حسن عواد، وحسن عبدالله القرشي، وسعد البواردي، وأحمد عبدالغفور عطار، وحسين سرحان، ومحمد حسن فقي، وغيرهم، وهؤلاء جميعهم كتبوا القصة، بل بعضهم أصدر مجموعة أو مجموعتين، لكنهم ظلوا محتفظين بلقب شاعر، ولم تغلب عليهم صفة القاص!
فالعواد نشر قصة «الباب المغلق»، ومحمد حسن فقي نشر قصص «سكين، وفيلسوف، وجيل»، وحسين سرحان نشر قصص «حياة ميت، ورجل من الناس، والعودة، والصياد والسمكة، والأحلام لا تعود». وحسن عبدالله القرشي نشر «أنات الساقية»، وأحمد عبدالغفور عطار أصدر «أريد أن أرى الله». وسعد البواردي نشر قصص «أغنية العودة، وشبح من فلسطين، وفلسفة المجانين، وأجراس المجتمع». هذه عينة لإسهام الشعراء في كتابة القصة بطريقة تبدو هامشية في خضم إنتاجهم الشعري، لكن يبقى سؤال حضور القصة في أدبهم قائمًا!! بل يستحق النظر.
السؤال الآن، ماذا يعني أن تكون قاصًّا أو روائيًّا وليس شاعرًا؟
سؤال ربما يختصر ولع الشعراء بمغازلة القصة. وبخاصة إذا عرفنا أنه ربما يندر أن نجد قاصًّا أو روائيًّا متمكنًا حاول كتابة الشعر بعد أن استقرت أدواته القصصية، لكن العكس صحيح، إذ قد يتسلل الشاعر لخيمة القصة مستظلًّا بفيئها، ومحاولًا نسج منظوره للحياة بطريقة محاكاة العالم. فهل الشاعر مهما علا شأنه يبقى مشدودًا تجاه تجارب خارج فضائه التقليدي؟ أو أن الشاعر يظل مشدودًا لإغراء القصة بوصفها نصًّا يتحاور مع العالم بطريقة يبدو العالم معها أكثر رحابة وإنسانية.
القصة حوار بين الذات والعالم، أما القصيدة فصوت الذات الإنسانية في صبواتها وإنسانيتها، ومرارة تجربتها، وهذا لا يقلل منها ومن شعرائها، بل هي تجربة تقارب الحلم. لكن قد يلتبس على بعض قصائد الحكم والمناسبات وقصائد الموضوعات الاجتماعية التي يحاول فيها الشاعر أن يبدو مفكرًا أو حكيمًا أو ناقدًا، أو أن قصائده تمثل ربطًا بين الشعر والواقع، أو أن قصائده تعكس إسهامه في المشاركة في قضايا مجتمعه. والحقيقة أن هذا ليس دور الشعر ولا الشاعر. دور الشاعر الحلم بحياة أفضل دون أن يدخل في مقاربات مباشرة للحياة من حوله. الشعر إن لم يكن رمزيًّا إيحائيًّا فهو أقرب للنظم مهما جلجلت موسيقاه وحسنت قوافيه.
تأسيس عوالم افتراضية
ذكرت أن القصة حوار بين الذات والعالم، وعليه، فالقاص مشغول بتأسيس عوالم افتراضية يجري نحو نشدان الفضيلة على نحو إيحائي. فالقصة بطبعها لا تعالج مشكلة ولا تحلها، بل تعيشها تجربة افتراضية لكيفية الوصول للأجمل والأبهى في الحياة. فالقاص يعيش تجربة خلق العوالم الموازية التي تجعل القارئ جزءًا من التجربة الإنسانية. وقد يحتج بعض بظهور قسمات الواقع جلية في القصة أو الرواية، وهذا أمر طبيعي، لكنها تُحمل دائمًا على المجاز. فظهور أسماء الأماكن، مثلًا، لا يعني أنها نفسُها في الواقع مهما بدت جلية في مشابهتها الواقع.
السؤال، ما الذي دفع الشعراء إلى كتابة القصة في زمن كانت فيه أقل تقديرًا؟ هل لرغبة في توسيع دائرة التعبير، أم أنهم يرون أن كتابة القصة فضيلة لا يجب أن تفوتهم؟! الراجح عندي أنهم رأوا فيها بدائل تعبيرية لا يمكن للشعر أن يملأها. وهذا دال على ذكاء هؤلاء الشعراء. فالقصة لها خصوصية مقاربة الواقع على سبيل المشابهة، وعلى سبيل تأسيس واقع موازٍ يُعمِل فيه الكاتب فرضياته.
يقف الشاعر بين القصيدة والقصة باحثًا عن عالم مختلف. ففي القصيدة يُطرب نفسه، وفي القصة يتحاور مع العالم. وبين غنائه وحواره تكتمل متعته بالشعر، ويكتمل اتصاله بالعالم عندما يكتب القصة. من هنا فحاجته للقصة ليست مجرد حالة استثنائية، بل حالة وجودية، تظهر أكثر عند الشعراء الذين يرون العالم أبعد من مجرد صوت داخلي. القصة تتيح للشاعر ما لا تتيحه القصيدة. من هنا فمحاولته تأكيد أبلغ على رغبته في فهم أكبر للعالم.
مرة أخرى هذه الفرضيات يفسرها اقتراب الشعراء من عالم القصة أكثر من القصاص الذين لا يجدون حاجة للبحث عن صوت داخلي لتجربتهم، إذ القصاص يغنون ويتحاورون في قصصهم عبر خلق عوالم افتراضية يعيشون تفصيلاتها، وينشدون فيها جمال العالم. إن القصاص لديهم القدرة على خلق شعرائهم داخل نصوصهم، وهو ما لا يستطيع مثله الشاعر في خلق قاص في تجربته الشعرية دون أن يسعى لكتابة القصة بوصفها جزءًا من حاجته التعبيرية في فهم العالم.