صفية بن زقر شغف بالرسم واستدراج المحيط
لم يكن الأمر باليسير حين تقرر فنانة سعودية ترتبط بتقاليد اجتماعية لها محدداتها أن تقدِّم في وقت مبكر إنجازًا بائنًا في مجال الفنون التشكيلية، علمًا بأن جغرافيا الوطن العربي كانت تعاني جهلًا وحصارًا للفنون التشكيلية. فالفنانة «صفية بن زقر» التي كرَّمها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز بوسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى في مهرجان الجنادرية مطلع فبراير المنصرم، استطاعت تجاوُز تلك الظروف الصعبة، لتتحيز لهواجسها الفنية، وتفتح عبر ريادتها نافذة كبيرة لممارسة الرسم والتلوين. وأعتقد أن الظروف ساعدتها في تجاوز ذلك، تحديدًا عند سفرها مع أسرتها إلى القاهرة في عام 1947م، الذي أتاح لها الفرصة منذ طفولتها لأن تحتكّ بمجتمعات تختلف بمركّباتها عن مسقط رأسها، فكانت القاهرة هي الجرعة الأولى لتفتُّح موهبتها الحرة، لتغادرها إلى بريطانيا كي تلتحق بمدرسة Finishing school، مدة ثلاث سنوات دراسية.
لم تتوقف الفنانة «بن زقر» المولودة في حارة الشام بجدة عام 1940م، عن البحث لتطوير أدواتها؛ إذ عادت إلى القاهرة في عام 1965م كما ذهبت ثانية إلى بريطانيا لتلتحق بكلية سانت مارتن للفنون، لتتعلم أصول الرسم والتلوين والغرافيك، فشغف «بن زقر» بالمعرفة جعل منها فنانة تمتلك أدواتها الاحترافية في مجال الفنون، وعلامة من علامات الفن التشكيلي العربي.
ما يجذبني لأتأمل أعمال هذه الفنانة هو امتلاكها صِدقية عالية في طبيعة أشكالها، والحساسية الجمالية واللونية في إنتاج المشهد، وهذا ينمّ عن موهبة أصيلة، تحققت عبر شغف هائل بالرسم والتلوين، واختبار مجموعة من الموضوعات التي تنتمي في الغالب إلى محيطها الذي تعيش فيه، فهو الخزّان البصري البكر الذي يغذّي بصيرتها بطبيعة الموضوعات ورصد تحولاتها في أوقات متعددة من السنة، من حيث طبيعة الإضاءة وتبدلات الطقوس اللونية التي انعكست على طبيعة الباليتة اللونية في مجمل أعمالها. فريادة «بن زقر» مؤشر إيجابي على تمظهرات الإبداع الذي لا يمكن إقصاؤه، لكونه حالة إنسانية داخلية، تضغط على صاحبها لتقدم لها الظرف المناسب لإخراج تلك الهواجس. فلم تكن «بن زقر» رائدة على مستوى السعودية بل هي من الرائدات العربيات على مستوى الفن التشكيلي النسوي، فهي من أُوليات النساء اللواتي درسن الفن الذي أسس لحالة مهمة في الحركة النسوية السعودية في مجالات عدة، ولم يكن دورها مقتصرًا على الرسم، بل هناك جانب توعوي مهم لها، وبخاصة تأسيسها دارة تحمل اسمها، افتتحت في عام 2000م لتضم الدارة في جنباتها التراث السعودي بكل مكوناته، إلى جانب مكتبة تضم مجموعة من الكتب الفنية والأدبية، لتشكل الدارة منارة ثقافية تبث الوعي وتسهم في تغذية الأجيال بمعارف أساسية، وتحديدًا في ظرف سياسي دقيق يعاني مكوِّنات التطرُّف والإرهاب.
إبداع وتوعوية
لقد صنعت الفنانة «صفية بن زقر» مسارين أساسيين؛ مسار الإبداع الفني المهم، والمسار التوعوي، الذي يشكل ديمومة إيجابية في المجتمع السعودي. كما أنها أسهمت مع مجموعة أساسية من الفنانين السعوديين؛ منهم: عبدالحليم رضوي، ومحمد السليم، وعبدالعزيز الحماد، وعبدالجبار اليحيا، ومنيرة موصلي، وطه الصبان وآخرون، في إيجاد منظومة تشترك في معاينة هموم ثقافية تطمح إلى نشر الفنون بين الناس. ونرى أنَّ الحياة الثقافية السعودية الآن في حركة دائمة من معارض وأمسيات ونشر، وهذا المؤشر يقدم وجبة جمالية مهمة لهذا الشعب وصولًا إلى مؤثراته على بعض المجتمعات العربية.
من الظلم أن يصفها بعض الكتاب بأنها «ماتيس السعودية»، فهي الفنانة التي أنصتت إلى جوارحها لتخلص لطبيعة مختلفة عما ذهب إليه «ماتيس»، فقد تأملت مناخات الاحتفالات الشعبية السعودية من رقصات وتقاليد شعبية في الأعياد والمناسبات، لتعكسها في أعمالها بحسٍّ يمتلك رهافة صادقة، بل شكلت العين النقية للتعريف بطبيعة المجتمع السعودي عبر نصِّها الجمالي، فلها أسلوبية تخصُّها في التعامل مع موضوعات شربتها عينها مبكرًا، بل مارستها وساهمت فيها عبر طقوس المجتمع السعودي، فهي الأصدق في إعادة صياغة تلك الطقوس عبر أعمال خالدة ما زالت تنبض بالحياة، لتشكل ذاكرة بصرية مهمة على مدى الأجيال القادمة. لم تترك «صفية بن زقر» مكانًا إلا واختبرته عبر مادة الرسم، فنرى أعمالها تعكس طبيعة العمائر السعودية القديمة، حيث يتعرف الناظر إلى أعمالها طبيعة تلك العمائر، والمواد المستخدمة فيها.
حالة شعرية
المكان لدى صفية هو حالة شعرية وشعورية ترصد من خلاله تفاصيل الأطفال وحركة الحشود البشرية في الأسواق وتفاصيل حركة الشارع، مؤكدة على طبيعة خاصة في الغنى اللوني، فهي من الفنانات العربيات الملوِّنات بامتياز، فاللون بالنسبة لها أساس مهم في أعمالها؛ ألوان ذات زخم له حضوره الطاغي. والمكان هو البيئة المهمة التي تضم تلك الطقوس، حيث ترصد الاحتفاليات العفوية للناس، فنرى في أعمالها رقصة العرضة النجدية إلى جانب هودج مزخرف اتصفت به الفنون الشعبية السعودية.
إنها فنانة لا تمتلك إلا الصدق في التعبير عن مجتمعها الذي تنتمي إليه، فوثقت بأسلوبها الخاص: طقوس الحناء عند العروس ورقصة السيف والأفراح بشتى أنواعها، فهي تعيش في مجتمع غنيّ بالتفاصيل المغرية للرسم، فكانت ألوانها أقرب إلى لباس المرأة السعودية، والسجاجيد والستائر الملونة والمذهَّبة، وصولًا إلى طقوس شعبية متنوعة؛ منها: طقس شرب الشاي، وقراءة الطالع، وسوق الجمال في الصحراء، والمدينة بكل تفاصيلها، إلى صيد الصقور، وتعاطي الجراك، وبائعي الحلوى، ومشاهد الرعي، وطبيعة الألبسة البدوية والألعاب الشعبية.
ومن أهم مميزات عملها إلى جانب التلوين، توظيف الفعل الزخرفي، سواء أكان نباتيًّا أم هندسيًّا، لصالح العمل، لكونه ينتظم في التعبير عن الحياة الشعبية، بل وظَّفت كثيرًا من الحروفيات والكتابات في مناخ عملها الفني الذي يحتمل الكثير من الإضافات والامتلاء في التكوين. إنَّ ما أنجزته «صفية بن زقر» يشكل مساحة لافتة في الفنون العربية المعاصرة، حين ينتظم عملها في بنائية رصينة وقدرة هائلة على تطويع الباليتة اللونية لصالح موضوعاتها، لتنتج غنائية لونية فردوسية، أسهمت في إعطاء عملها حيوية وقدرة على التواصل مع ما هو نخبوي وما هو عام، تلك هي المعادلة الصعبة التي أتقنتها «بن زقر».