هل يمكن الحديث عن «شذرة نقدية»؟ – شاكر لعيبي
هل يمكن الحديث عن «شذرة نقديّة» في الإرث العربيّ، كما نتحدّث عن شذرة أدبية، شعرية أو نثرية، عالية؟ وما المقصود بذلك؟ لا نتحدث هنا إلا عن تفكير نقديّ، عقليّ، مرسوم الحدود إلى هذه الدرجة أو تلك، قيلت بصيغة مختصرة، عَرَضيّة أحيانًا، مكتملة البنيان أو تكاد، وتنطوي على انغلاق واكتفاء بذاتها أو تكاد. قراءة التعريفات المقدَّمة للشذرة، تشير إلى أنها «صيغة أدبية» بالأحرى، وليست نقدية، حتى لو أُدْرِج بين مستخدميها باسكال ورولان بارت وهنري ميشو وسيوران وغيرهم كثير، وأن شكلها يُسائل تجزئة الذاكرة والفكر، وأنها تقود إلى غير المكتمل والعابث المثير للسخرية، ومن ثَمّ تقود، بشكل متناقِض، إلى شكل من أشكال الوعيّ الشامل. لسنا لذلك في الوعي النقديّ شبه المنهجيّ المكتفي بذاته في إطار شكل مُخْتصَر.
في الإرث الأدبيّ العربيّ، يُخيَّل لنا، أننا أمام (شذرة نقدية) مُتواتِرة، موضوعها النقد الشعريّ، الأدبيّ أو عموم الجماليات، كأنها (البيت الشعريّ الواحد) المكتفي بنفسه على مستوى آخر، ونضع نحن في إطار هذه (الشذرة النقدية) بعض الأبيات الشعرية أو مجزوءاتها التي كان موضوعها الرئيس تفكيرًا نقديًّا، شعريًّا وجماليًّا صريحًا. بالطبع، تتفاوت قيمة الشذرات النقدية، إلماحيّتها، عمقها، درجة اختصارها، وإحالاتها. بعضها يقوم بإحالات مَخْفِيّة لا يُفْصح عنها منذ الوهلة الأولى، ويتوجّب تأملها أو ربطها بالسياق الثقافيّ العام السائد الذي قد لا يكون متيسّرًا بالضرورة اليوم.
نقدّمُ هنا، مدخلًا للفكرة التي نقترحها.
(1)
«سُمّي [الشاعرُ] شاعِرًا لفِطْنَتِه […] وقالوا (كلمة شاعرة) أَي قصيدة».
هذا ما جاء في لسان العرب، وقبله: «ويقال شَعَرَ فلان وشَعُرَ يَشْعُر شَعْرًا وشِعْرًا، وهو الاسم […] وشِعْرٌ شاعِرٌ أي جيد؛ أَرادوا به المبالغة والإِشادَة، وقيل هو بمعنى مشعور به، وقد قالوا «كلمة شاعرة» أَي قصيدة». وهنا الفارق بين مفهوم الشعر عند العرب بصفته شعورًا، عن مثيله لدى الإغريق مثلًا بصفته إبداعًا وخلقًا (انظر التالي).
(2)
«هذه قصيدة مَخْلوقة».
أَي مَنْحولة إِلى غير قائلها، كما في اللسان الذي يضيف، فالخَلْقُ في اللسان هو الكذب [أي الاختلاق] وخلَق الكذبَ والإِفْكَ يخلُقه وتخَلَّقَه واخْتَلَقَه وافْتراه ابتدَعه ومنه قوله تعالى :{وتخْلُقون إِفكًا}. ومنه قوله تعالى: {إِنْ هذا إِلا خَلْقُ الأَوَّلين}، فمعناه كَذِبُ الأَولين، وخُلُق الأَوَّلين قيل شِيمةُ الأَولين، وقيل عادةُ الأَوَّلين. ومَن قرأَ {خَلْق الأَوَّلين} فمعناه افْتِراءُ الأَوَّلين؛ قال الفراء: «من قرأَ {خَلْقُ الأَوَّلين} أَراد اختِلاقهم وكذبهم، ومن قرأَ {خُلُق الأَولين}، وهو أَحبُّ إِليَّ». أراد بأنه يفهم العبارة بمعنى عادة الأَولين. ثم يضيف اللسان هذه الإضافة الدالة: «والعرب تقول حدَّثنا فلان بأَحاديث الخَلْق، وهي الخُرافات من الأَحاديث المفْتَعَلةِ»؛ وكذلك قوله: {إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاق}، وقيل في قوله تعالى: {إِن هذا إِلا اختِلاق} أَي تَخَرُّص. وفي حديث أَبي طالب {إِنْ هذا إِلا اختلاق} أَي كذب، وهو افْتِعال من الخَلْق والإِبْداع، كأَنَّ الكاذب تخلَّق قوله، وأَصل الخَلق التقدير قبل القطع.
(3)
«إذا تَعاجَم شيء من القرآن، فـانظروا فـي الشعر، فإن الشعر عربـيّ».
الجملة منسوبة لابن عبـاس، وهي تدلّ على عراقة الشعر العربيّ، وأنه أقدم من القرن الرابع الميلاديّ بكثير، وأقدم من المعلقات. كما تدلّ على أن النص القرآنيّ قد يُعْجِم [أعْجَمَ أي أَبهمَ]، عبر مفردات أو استخدامات (غامضة أو أجنبية او مبهمة = أعجمية)، وليس الشعر العربيّ بأعْجَم.
(4)
«خير الكلام ما قلّ وجلّ، ولم يَطُلْ فيُمَلّ»
الثعالبي (التمثيل والمحاضرة) ص158. نلحظ أننا لا نشير إلى (ما قلّ ودلّ) الشائعة، بل إلى (ما قلّ وجلّ) أي صار جليلًا. والفارق كبير دلاليًّا بين (الدلالة) و(الجلالة). الشعر واقع في الجليل أكثر مما هو في الدليل.
(5)
إذا لم تُشاهِدْ غَيرَ حُسنِ شِياتِهَا
وَأعْضَائِهَا فالحُسْنُ عَنكَ مُغَيَّبُ
بيت المتنبي في الخيل. من الواضح أن المتنبي يتحدث عن التناسُب الجماليّ المثاليّ proportion idéale في الصورة الجميلة (الحسنة) ، وهو لا يعده كافيًا لقيام الجمال الحقيقيّ، إذا لم يرتبط بمعيار روحيّ أو أخلاقي، وهو ما كان يشير إليه البيت السابق في القصيدة:
«وَما الخَيلُ إلا كالصّديقِ قَليلَة
وَإنْ كَثُرَتْ في عَينِ مَن لا يجرّبُ»
الخيول الحقيقة الأصيلة قليلة كما الجمال المُتناسِب الأصيل الحقيقيّ قليلٌ.
(6)
«حُسْنُ الصورة الجمالُ الظاهر، وحسن العقل الجمالُ الباطنُ».
من المأثورات التي يوردها الثعالبيّ في (التمثيل والمحاضرة). وهي عبارة تتفق تمامًا مع بيتي المتنبي الآنفين عن الأحصنة:
إذا لم تُشاهِدْ غَيرَ حُسنِ شِياتِهَا وَأعْضَائِهَا فالحُسْنُ عَنكَ مُغَيَّبُ
الجمال الشكليّ لا يكفي بدون المعنى العميق. إن فكرَتَي (المرئيّ visible) و(اللامرئي invisible) الأوربيتين، تجدان ترجمة أقدم في التعبيرين العربيين (الظاهر) و(الباطن).
(7)
فكيْفَ أَنـــــا وانتِحالي القَوافِيَ بَعدَ المَشِيب، كفَى ذاك عارا
وقَـيَّـدَنـي الشِّعْـرُ فــي بيتِه كمـا قَــيَّـد الأُسُراتُ الـحِــمـارا
والبيتان للأَعشى بصدد الانتحال (سرقة الشعر). لنقرأْ جيدًا «وقَيَّدَني الشِّعْرُ في بيتِه»، فالحديث يجري عن (السرقة الشعرية) القائمة اليوم على قدم وساق. وَصْفُ الأعشى الانتحال بـ (العار، عيب) هو توصيف حاسم، لا يُقنع المنتحلين السُّراق اليوم؛ لأن الفكرة الجوهرية للأعشى هي التصاق الشاعر بالشعر التصاقًا وجودًا يمنعه السرقة: (وقَيَّدَني الشِّعْرُ في بيتِه) ، وهي فكرة تغيب عن لصوص نصوص الشعر دومًا، ويعدونه (بضاعة ميتافيزيقية مشاعة).
(8)
«حُسْنُ الصورة أوّلُ السعادة».
من الأقوال المأثورة أو الأمثال زمن الثعالبيّ (التمثيل والمحاضرة). والعبارة تقوم بعملية تعميم، وإن كان ظاهرها صورة (الكائن الآدميّ) و(سعادة القلب) البشريّ، لتمتدّ إلى صورة وبنية الشعريّ والجماليّ، وإلى سعادة اللذة الجمالية العريضة (يُستحسن مراجعة مفهوم السعادة عند الفلاسفة المسلمين). صيغتها صيغة خَلَاصِيّة، من نمط فلسفيّ بالأحرى. إذا ما قرأت العبارة على أنها تتعلق بالشعريّ، فلسوف نغوص عميقًا في دلالة البنية الداخلية للصورة بمعناها الذهنيّ أو الصورة الشعرية المتخيَّلة.
(9)
«اثنان قلَّ ما يجتمعان: اللسان البليغ، والشِّعْر الجيّد».
من الأقوال المأثورة أو الأمثال زمن الثعالبيّ (التمثيل والمحاضرة). ولعل بعضنا لا يوافق على هذا المعيار النقديّ. ولا نوافق على ظاهره قطّ، إلا إذا فهمناه بمعنى آخر: كأن اللسان البليغ قد تكرّس في (النوع الفنيّ) نفسه وهو الأدب، فاستنفد نفسه، فلم يستطع الإبداع في الفن الشعريّ. أو كأنه أراد، وهو التفسير الذي نقبله بالأحرى، أن البلاغة وحدها (خاصة عناصر بلاغة الخطابة) لا تشكل النص الشعريّ المتكوّن من عناصر وجودية وتجربة ذاتية ومعرفية ذات حساسية تتجاوز فنون البلاغة و(المحسّنات القديمة، والحديثة إذا شئنا). إذا كان فهمنا صحيحًا، فالمعيار الحاليّ في غاية الأهمية.
(10)
«إن حُسْن الشِّعْر لمن الجمَال».
وأوله: «حدّثنا علي بن الجهم، قال كنت عند المتوكل فتذاكروا عنده الجمَال، فقال: إن حُسْن الشِّعْر لمن الجمَال». من كتاب (أخبار الخلفاء) للسيوطي. يتعلق الأمر بأن (الشعر) يقع في صلب مادة الجماليات esthétique.
(11)
«شيطانه أخبث من أن أسلّطه على عقلي».
وأوله: قيل ليحيى بن خالد البرمكي: لو قلت الشعر، فقال… الثعالبي (التمثيل والمحاضرة) ص146. يُضْمِرُ الردّ أن في طبيعة الشعر نفسه نزعة متمرّدة، لا تخضع لتسويات العقلانية الباردة. وبذا يتوجب فهم مفهوم (شيطان الشعر) العربيّ.
(12)
«النبيذُ عروسٌ، مهرها العقل».
من المأثور الذي ينقله الثعالبيّ في (التمثيل والمحاضرة). اليوم تبدو مثل هذه الصيغ الأدبية، التخيليّة أقرب للوعي الشعريّ الرومانسيّ، فهل يُباح لنا الحديث عن نزعة رومانسية جنينية في القرن العاشر الميلادي، زمن أبي منصور الثعالبيّ النيسابوريّ.
(13)
«تنحّ عن طريق القافية».
من أقوالهم المأثورة، (التمثيل والمحاضرة) للثعالبيّ. يراد بالشذرة أن كتابة الشعر صعبة. لا يكفي ترتيب القوافي لإبداع قصيدة، إنها تتجاوز التقفية.
(14)
«ليس في التصنُّع تمتُّع، ولا مع التكلّف تظرُّف».
من أمثال العامة زمن الميدانيّ. وهي شذرة واضحة الدلالة، لا تحتاج إيضاحًا.
(15)
«هو يَرْقُمُ في الماء».
وهو من مجمع الأمثال للميداني ويشرحه بالقول إنهُ: «يُضرب للحاذق في صنعته. أي من حذقه يرقم حيث لا يثبت فيه الرقم. قال الشاعر:
سأرقم في الماء القراح إليكم
على نأيكم إن كان في الماء راقم
انتهى. والمسألة تتعلق بعموم (الصنعة الفنية)، والشعرية في قلبها دون شك. والرقْم عمومًا هو الرسم والتخطيط الغرافيكيّ والنقش والكتابة. الماهر بصنعته هو كمن يرسم أو ينقش في الماء. ولا يُحدِّد المثل طبيعة المهارة، ولكنه يتحدث عن مهارة فنية وجمالية.
(16)
قال الجاحظ: «إن الشعر ضرْبٌ من النسج، وجنس من التصوير.
الجاحظ في كتاب الحيوان 3/132: والفكرة تشدّد على عملية البناء، البنية المُحْكَمَة للشعر.
(17)
«[النظم] نظير للنسْج والتأليف والصياغة والبناء والوشي والتحبير».
مما ذكره الجرجاني في (دلائل الإعجاز)، ص49، والنص الكامل هو: «وكذلك كان [النظم] عندهم نظيرًا للنسْج والتأليف والصياغة والبناء والوشي والتحبير، وما أشبه ذلك مما يوجب اعتبار الأجزاء بعضها مع بعض حتى يكون لوضع كلّ حيث وُضع علّة تقتضي كونه هناك، وحتى لو وُضَع في مكان غيره لم يَصحّ». نجد أن مفردة (النظم) ملتبسة قليلًا في نص الجرجانيّ، فلا يبدو واضحًا أنه يقصد بها، بالضرورة، المعنى الأعمق للشعر. أضفْ لذلك أنه يَقْرن المحسّنات البديعية بمفهوم النظم (يُشار لها بالوشي والتحبير). ما بقي يُعالج فكرة البنية المحْكَمَة المشار إليها التي تختلّ باختلال عنصر من العناصر.
(18)
ثمة استشهادان يتعلقان بالفن، يتوجب، حسب ظننا، على المعنيّ بالفن والجماليات التوقف أمامهما مليًّا.
قال الآمدي: «لن ينتفع بالنظر إلا من يحسن أن يتأمل، ومن إذا تأمل عَلِمَ، ومن إذا عَلِمَ أنصف».
هذه الشذرة في غاية الأهمية؛ لأن الفعل نَظَرَ في العربية مرتبط بمفهوم (الانتظار) من جهة، وبعملية الإبصار والرؤية التي هي جوهر العمل التشكيليّ، من جهة أخرى. تعاود الشذرة ربط البصر بالبصيرة.
(19)
وقال ابن رشيق: «إنما مثل القدماء والمحدثين كمثل رجلين ابتدآ: هذا بناه فأحكمه وأتقنه، ثم أتى الآخر فنقشه وزينه، فالكلفة ظاهرة على هذا وإن حسن، والقدرة ظاهرة على ذلك وإن خشن».
يتعلق الأمر بالفارق بين مفهوم التجويد (تحسين المنجزات السائدة) والمقدرة (الإبداع الفرديّ).
(20)
«[الشعر] الجزل أن يكون متينًا على عذوبته في الفم، ولذاذته في السمع».
ابن الأثير «المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر». تعني الجزالة في الأصل، مثل رجل جَزْل، جودة الرأي. وامرأة جَزْلة أي تامة الخلق أو ذات كلام جَزْل أي قوي شديد. واللفظ الجَزْل هو المتين خلاف الركيك. والجزالة تشير في استخدامات النقد التراثيّ إلى الفصاحة والبلاغة. ولعلنا هنا أمام تحديد مختلف لمفهوم البلاغة، في الشعر خاصة، وهي تربطها بعذوبة النطق ولذة السمع.
(21)
«الفصاحة هي الظهور والبيان، لا الغموض والخفاء».
ابن الأثير «المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر». مشكلة الغموض قديمة في النقد الأدبيّ، العربيّ وغير العربيّ. هنا لا نتحدّث عن الفصاحة في الشعر بالضرورة؛ لذا تبدو الشذرة في محلّها السليم. عندما يقع تناول الفصاحة في الشعر، ليس هناك اتفاق مطلق على (شرط الوضوح). من هنا السجالات بشأن شعر المتنبي الذي لم يُتهم، على رغم خفاء دلالات بعض أبياته وغموضها، بعدم الفصاحة.