كتاب السوريالية العربية في باريس .. سنوات الأحلام هذه حيث كانت الظلال تمر هامسة
« – ما هي الرغبة الإباحية؟
– هي سكة النور الجبلية!
– ما هي السوريالية؟
– هي الفجر يتسلل من نافذة الليل إلى الأرض»(1).
في بداية السبعينيات، أثرياء بالحماس، كنا قد وصلنا إلى باريس يغرينا همس الأفكار التحررية، كنا نريد أن نملأ خُرْجنا من كل المشروعات الثورية القادرة على تغيير مجتمعاتنا، مجازفين بحياتنا، رسمنا دروبنا عبر أفكار العصر الأكثر تقدمية، كل واحد منا كانت لديه أَطْلاله الخرافية، كل نسق تناوبي كان يُقدم لنا التروتستكية، والسوريالية، والبنيوية، أو أممية مبدعي الأوضاع التي لعبت دورًا كبيرًا في أحداث مايو، وطغى فكرها على اليسار الفرنسي في سبعينيات القرن الماضي، كنا نقرأ كل ما يقع بين أيدينا على مقاعد هذه الشوارع اللامتناهية؛ حيث «الأشجار تأخذ شكل زبائن دائمين يمدون مظلاتهم المفتوحة إلى الشمس»(2)، أو في هذه المقاهي الفريدة بالحي اللاتيني، التي كانت دائمًا أماكن للقاء لمنشقّي الأرض، في تلك الأوقات المذهولة ببريق الأممية، كان لدينا شغف وفضول العودة على بدء.
كمواطنين أمميين، سَرَّنا أن نهدهد اليومي من أجل استمالته جيدًا، لهذا كنا مزوَّدين بآلة المقاومة الأصيلة: الحلم الفعّال بعالم أفضل. اعتنينا جيّدًا بتزييت تروسها قبل النوم، تتنفس الكلمات الهواء القارس في دوار اجتماعي يسيل شعرًا ومعرفة، كنا نتناقش دون عُقَد مع الآخرين، منتبهين إلى الآخر، باحثين عن زادنا اليومي في التجارب المتعددة، بغرض أن نكون جاهزين حين تغنّي الأيام القادمة في الشرق، مستبقين لياليَ محاطة بفجر رشيق، مزقنا كل المراجع والهُويّات، كانت ثقافتنا حيوانًا جَموحًا، وما من مؤسسة تجازف بوضعها في قفص. ذات صباح داجٍ، عانقت ألسنةُ لهب الحرب الأهلية لبنانَ، غيّمت على بصرنا، الأمل، ذاك البوق السرمدي، باء بالفشل في ترويض الأفكار، من قبل كانت الخيبة أرضًا تنتظر مَن يحرثها، ورغم ذلك، حافظنا بيأس على الحبل بين «نداء اليوتوبيا الشارد، وصداقة الواقع المتأخرة»(3) ساعين ألّا ينقطع.
كانت أحلامنا تضيف مياه مرايا على انعكاساتنا الشفافة، كان كل منا يتشبث بصيغته التعبيرية كي لا تبتلعه الرمال المتحركة للأحداث التي ستجيء، في ارتفاع الأمواج والمجازات والآمال هذا، سعت الرغبة الإباحية لأن تُكمل الرسالة الهدامة التي خصصناها لها، كان لدينا ثلاثة أعداد، في هذه الأثناء لم نكن نرضى بما هو كائن، كنا في بحث دائم عن الجديد، حينذاك، كانت لحظة عظيمة حين أعطتني بولا حنين التي قابلتها نهاية عام 1974م عددًا من المنشورات باللغة العربية لمجموعة «الفن والحرية»، التي كانت مجهولة كليًّا في حوليات العصر الأدبية والفنية عربيًّا وعالميًّا آنذاك، استقبلناها ككنز خارج من مخزن للتذكارات، على الفور أعدنا طبع بعض النصوص في ملحق العدد 5، وفي كتاب «الوعي المُدنس» احتفالًا بجورج حنين، عطَشُنا إلى كتابةٍ رافضة للتوافق والتواطؤ، ساهم، للمرة الأولى منذ ما يزيد على ربع قرن، في بروز جيل جديد من الشعراء والكُتاب، استطاع في النهاية أن يستولي مرة أخرى على عالم من الإبداع مُلهب الحماس كما هو غير متوقَّع، وقد كان إلى ذاك الحين محجوبًا على نطاق واسع.
غرس السوريالية في أرض العرب
من أجل فرحتنا الكبيرة التذذنا باكتشاف كتابات جورج حنين، ورمسيس يونان، وأنور كامل، وفؤاد كامل، ولطف الله سليمان، وكامل التلمساني، الذين أسسوا في عام 1938م مجموعة «الفن والحرية»، كان جورج حنين دائمًا ما يكتب بالفرنسية، لم يجد ذكاؤه النقدي ولا دُعابته الباردة- وهما عنصران مكونان للغته المدمرة، يا للحسرة- مكانًا في اللغة العربية! رمسيس يونان، كان على العكس؛ يمتلك تأثيرًا دامغًا من الفن المصري المعاصر.
إن كانت معركتهم قد أخفقت في إعادة زرع السوريالية في البلاد العربية، فلن يمكث منها أقل من هذه الخبرة التي ستبقى مرجعًا دائمًا. المدى العام لهذه المعركة، في مركز الشرق – الغرب المريب، يضعها في قلب الحداثة المتحررة لـــ«العودة إلى الواقعية المُعتبَرة، ليس كشيء منجز أو متجمد، بل كشيء ديناميكي، طيّع، وقد يصل إلى الكمال»(4).
لم تعرف المجتمعات العربية قط مظاهرة منظمة للسوريالية بعد هذا الاستطراد اللامع، أصداء نادرة لأندريه بروتون وأصدقائه نُشرت في كل مكان في الصحافة الدورية العربية، كانت بعض الفرديات المؤقتة قد انبثقت، لكن لسوء الحظ، في غموض، كانت هذه، على سبيل المثال حالة الشاعر السوري أورخان ميسّر مؤلف ديوان عنوانه: «سوريال»، في مقدمته، لم يتردد، بغرابة شديدة، في جلد بروتون وسوبو اللذين، وفق ما يرى، لم يفهما أي شيء من السوريالية! بالمقابل، في مطلع الستينيات، استند اللبناني أنسي الحاج، بوضوح شديد، إلى إرث سوريالي مُترجمًا أندريه بروتون وأنطوان أرتو إلى العربية، في مجلة يوسف الخال اللبنانية: «شعر»، كانت ترجماته مصحوبة دائمًا بتعليقات نصية وتحليلية للمشروع السوريالي، وقد أدت مجموعته الشعرية الأولى «لن» 1960م إلى إطلاق اللغة العربية من عِقال التقليد الذي كان يخنقها، لقد جعلها ترتج كسباب في كتابة حرة ورشيقة، مما صارت قدوة للآخرين.
أدخلَ شعر أنسي الحاج، بل أيضًا شعر محمد الماغوط، وشوقي أبو شقرا، الصور والرسوم السوريالية إلى الشعر العربي الحديث. مُشبَعًا بهذه الخبرات، ومُثَارًا بقراءة مقتطفات عريضة، مترجمة إلى الإنجليزية من «قيثارة ديدرو»، و«بيان السوريالية»، و«عار الشعراء»(5).
أسستُ في باريس في عام 1973م أول مجلة عربية ظهرت كلسان حال مركزي للحركة السوريالية العربية «الرغبة الإباحية، بغية انتهاك عُرف الأصوليات الدينية، والاجتماعية والفنية وإفساد ولائمها… كانت سوريالية في دفاعها عن الشعر، وفي مثابرتها في التجديف، وعدم «خلط الفعل الشعري والفعل السياسي… فالشاعر يناضل كي يبلغ معرفة نفسه ومعرفة الكون معرفة كمول، ولا يَنْجم عن ذلك أن الشاعر يرغب في جعل الشعر في خدمة عمل سياسي ولو كان ثوريًّا، بيد أن شاعريته تجعل منه ثوريًّا عليه أن يناضل في كل ميدان: في ميدان الشعر بالوسائل وبخاصة الشعر، وفي ميدان العمل الاجتماعي من دون أن يخلط أبدًا ميداني العمل، وإلا عاد الالتباس الذي ينبغي تبديده، ومن ثم يبطل أن يكون شاعرًا؛ أي: ثوريًّا»، كما كتب بيريه في كراسه «عار الشعراء».
النبرة التحريضية للمجموعة وَسَمتْ عددها الأول (ديسمبر 1973م) الذي ضم افتتاحية ملتهبة، وترجمة عربية لبيان 27 يناير 1925 السوريالي، والبيان الذي أصدرته المجموعات العربية لليسار المتطرف والمنظمة الإسرائيلية Matzen المناهضة للنظام الإسرائيلي، ضد حرب أكتوبر العربية الإسرائيلية، تحت عنوان أكثر صمودًا من مضمونه: «ضد الأوهام القومية: من أجل بديل أممي». وتضمن العدد- ليس فقط «النصيحة الأخيرة» لبول نوجيه- «رسالة إلى البابا» لأنطوان أرتو، ومقتطفات عريضة من «الحب والعزلة» لأوكتافيو باث، «نحو بيان سوريالي ثالث» لنيكولا كلاس، منشور روسي فوضوي «استيقظي أيتها الجماهير»، بل كذلك مقاطع من «مقاومي الإكليروس» لرينيه كريفل وبنجاما بيريه، ومن قصائد لـجورج حنين، وجويس منصور، وجان لويس بدوان، وبنجاما بيريه، كمذكرات إيضاحية متنوعة المرتدين: أراغون، ودالي، وإيلوار.
سنوات جمر حقيقية
كانت سنوات السبعينيات سنوات جمر حقيقية، وقد أخذنا منها، من دون تحفظ، نصيبنا من التمرد، علاوة على ذلك، تمرُّد العدد الأول هذا، أساء إليه الجزء الأكبر من الصحافة العربية (وحدهم بعض الصحافيين اللبنانيين بجريدة «النهار» كنزيه خاطر وعصام محفوظ، كانوا حينذاك أكثر دفاعًا عنا)، كانت الصحف تصفنا في أغلب الأحيان بصهيونيِّي وعملاء الـ CIA، جلدَنا طلال رحمة في مجلة الحوادث في مقال عنوانه: «السورياليون العرب عملاء مشبوهون!»، موقف هذه المنطقة الراكدة في كل قطاعات المجتمع والثقافة، كان (ولا يزال حتى اليوم) عدوَّنا المعلَن. «النقد، محاكاة لماركس، ليس مِشْرطًا أبدًا، بل هو سلاح، موضوعه هو عدوه، وليس لدحضه، بل لتدميره».
كي نستغل هذ الحقل الهدام، كان لا بد أن نجد وراء حدود الشرق الأدنى مجالات «ديمقراطية» ضرورية، أرض منفى لتيسير الانتشار سرًّا: أصبحت باريس لنا «العالم العربي على السين»، عبَرت الرغبة الإباحية مرحلتَينِ:
الأولى: بالعربية تمامًا، خمسة أعداد منشورة (300 نسخة من كل منها) بين ديسمبر 1973م وديسمبر 1975م، متبوعة بعشرات اللوحات والمنشورات المنشورة في ظل المجلة، في هذه السلسلة، طورنا وضْعنا فيها ضد الحرب، استندنا في الوقت نفسه إلى السوريالية والماركسية بتفاؤل ثوري لا يُنكَر حتى عام 1975م، كانت توزَّع في أكشاك شارع سانت – ميشيل، وسرًّا في البلاد العربية، وبخاصة في بيروت. عليّ أن أوضح، علاوة على ذلك، أنني كان يلزمني أن أدخر كتبًا بأسعار لا تُجارى حتى أبيعها مرة أخرى؛ كي أضمن كل يوم نفقات النشر (ستنسيل، وأوراق… إلخ)، وفي الوقت نفسه تكلفة بقائي على قيد الحياة (طعام وجعة على وجه الخصوص). مكتسب هذا، كنت أستطيع أن أدفع أجر غرفتي في فندق «العظماء»؛ حيث كان أندريه بروتون يعيش قبل ظهور السوريالية، لكن للأسف لم أكن أعلم بهذا حين أقمت فيه.
كانت المرحلة الثانية: موسومةً بثلاثة أعداد طُبِعت طباعة جيدة (ألف نسخة من كل عدد، نُشرت بين ديسمبر 1980م وديسمبر 1981م)، كانت أغلبية النصوص بالفرنسية مصحوبة ببعض النصوص بالعربية، كانت هذه السلسلة الجديدة مفتوحة على كتّاب من مختلف الأطياف السوريالية واليسارية وعدد من المائلين إلى تحاليل مدرسة فرانكفورت، في نهاية عام 1975م، عقب نشر كتيبنا الجماعي الأخير: «الوعي المدنس» تعهدت الحياة بتفريقنا، فراح كل منا يواصل طريقه: استقر ديب في ساليزبورغ، وعمل فيما بعد كمصور، ويونس قرر أن يصبح ممثلًا ورسام كاريكاتير، وانغمر العريبي في الغيبوبة التشكيلية للكلمات المرسومة.
أما ما يتعلق بي، فقد أقمت بعض الوقت في ساليزبورغ وفي فيينا؛ حيث اشتغلت على ديواني الأول: «في هواء اللغة الطلق»، ومن جانبي رحت أحصّل يوميًّا الاستقلال الفردي الذي كان مبرمًا بقرار الاستمرار دون سمةٍ، في خدمة العقل السوريالي، وعلى غير توقع، اتصل بي بيتر وود مطلع عام 1979م، لأجد نفسي أبحر مرة أخرى في مغامرة سوريالية جماعية هي «اللحظة» من أجل تحقيق حلم مستحيل: إيقاظ السوريالية في بريطانيا العظمى. بالعربية، أو بالإنجليزية، أو بالفرنسية، كانت المجلات عديدة، وكانت الكتيبات المنشورة استمرارًا للرغبة الإباحية.
في كلٍّ من، اللحظة، Grid, Homnisies، النقطة أو فراديس، كنت أبذل كل ما في وسعي لأُظهر أن السوريالية لم تكن أنطولوجيا صور غريبة، ولا هي انبثاق صوفي، كطريقة أكيدة لدمغ الغرائبية وتريد أن تجعلها تؤمن بها. السوريالية، هي طريقة لأن تكون، وحالة فكرية، لم تكن قط لي أيديولوجيا، بل على العكس، إنها تظل معركة من أجل الحياة الحاضرة، من أجل «الحرية لون الإنسان». لم يكن هذا يعني إطلاقًا: أن الشعر كان في خدمة ثورة أو أخرى، الشعر، حين يتحقق، هو كل الثورة، يظل الشعر لي حدثًا لغويًّا «ليس لديه الحقيقة هدفًا»، كما يقول بودلير: «ليس لدى الشعر سواه».
هكذا أدت السوريالية بي إلى اندماجي في غربٍ ليس كموقع جغرافي، أو كنقيض للشرق… بل كمحور ارتكاز لكل تمردات الروح الإنسانية من أجل الحرية والشعر وحقوق الإنسان… السوريالية كانت، ودائمًا ستكون سلاحي في مواجهة غرب مصانع الأسلحة، وفي مواجهة شرق كل الطغيانات.
مايو 2017م