صمتُ الجثة الغريبة بين الغرباء

صمتُ الجثة الغريبة بين الغرباء

(جملٌ يُطلُّ بعنقه الطويل، إلى مئذنةٍ على حافة الصحراء، بسَمْتٍ مهيبٍ كأنما يُصغي إلى النداء الربانيِّ الذي يمنحه العزاءَ والطمأنينةَ بعد رحلته الشاقة في بحر الرمال الغاضب).

هذه إحدى اللوحات التي تركها لي كهديةٍ الفنان العراقي الراحل (حَمّادي) الذي صارَ يوقعُ لاحقًا بِاسمِ (حمادي الهاشمي). أتذكره عبر هذه اللوحة كل صباح؛ لأنها معلقة في الصالة التي أتناول فيها القهوة والشاي وأستمع إلى الموسيقا مطلع كل يومٍ قبل الانطلاق إلى مكانٍ آخر. كان حمادي يعيش ضمن عراقيين كُثُرٍ في بلجيكا، وأتذكر أول مرة التقيته فيها بأمستردام حين أقامت جمعية الهجرة مهرجانًا شعريًّا، وكنت حينها مُقيمًا في (لاهاي) أو (دنهاخ). جاء إلى المهرجان جمْعٌ من الأصدقاء منهم سعدي يوسف، عبداللطيف اللعبي، فينوس خوري غاتا، ربيعة جلطي، عبدالمنعم رمضان. وكان حمادي قادمًا من بلجيكا القريبة، وقد كان بين الفترة والأخرى يزور عُمان كل شتاءٍ حيث تذكره هذه البلاد ببعض أجزاء العراق.

حمادي بشَعره الذي أطاله كثيرًا حتى أصبح يشبه شجرةً على الرأس، كان يحاول التحدث مع فينوس خوري باللغة الفرنسية، وهي تحاول الإصغاء إليه من غير أن تفهم القصد والدلالة. ذلك البَوْن الشاسع بين لغة أرستقراطية فرنسية لبنانية وفنان فوضوي لا يقيم وزنًا لقواعد أو ما شابهها. لكنّ الأديبة الكبيرة والحنونة دائمًا تصغي إليه وتخلط الحديث بلهجتها اللبنانية. أخبرني عيسى مخلوف في زيارتي الأخيرة إلى باريس أن فينوس بلغتْ حدًّا من وهن التقدم في العمر أطاح بمعظم قدراتها وجمالها الأخّاذ، حتى إنها صارت تستعجلُ النهاية الحتمية. ذات مرة خرجتُ من الفندق الذي كنا ننزل فيه ووجدتها أمامي بادرتني القول: «شو سيف صاحبك سعدي ليه عم يشرب قبل الفطور والقهوة؟» أجبتها: لا ست فينوس، لا أعتقد ذلك. قالت: كيف؟ قبل شوي شفت المشروب الأبيض اللألاء قدامه، تقصد المشروب الشعبي الهولندي… بعد فترة ليست بالقصيرة التقيتُ سعدي، لا أعرف بأي مدينة، ضمن الحديث الطويل قال منذ أيام كتبت رسالة إلى فينوس خوري بذاتها، الصديقة فينوس مطلعُها: «أنا صاحب الأبيض اللألاء، وأكملتُ الرسالة».

بشعره الطويل الأشيب

كان حمادي بشجرة شَعره الباسقة التي يعتني بها جيدًا يحضر يوميًّا الندوات والجلسات. ومرةً انبثق من العدم عراقيٌّ آخر أكثر غرابةً، أعرفه من الشام هو (أبو روزا وولف) كما كان يسمي نفسه في النصوص القليلة التي يكتبها وكان لاجئًا هو الآخر في هولندا. قال قرأتُ اسمك وجئت لأراك. بشَعره الطويل الأشيب المجدول كعقصٍ أخذ أبو روزا يتدفق بالحديث عن أيام بيروت والشام وتجربته في مجلة الرصيف، بمعية علي فودة ورسمي أبي علي، وكيف أن علي فودة أصابته قذيفةٌ أثناء الغزو الصهيوني الشامل على منظمة التحرير بفصائلها المختلفة، وفي مقدمتها (فتح) في لبنان آنذاك، وسقط فودة حيث أخذه الإسعاف الفلسطيني في منطقة الفاكهاني إلى ثلاجة الموتى، بعد فترة وجدوا فيه نَفَسًا ونبضًا وأسعفوه حتى استيقظ من غيبوبته. وتذهب الرواية إلى أنه قرأ خبرَ استشهاده في الجرائد وبعدها مات ميتةً حقيقية.

أتذكر أبا روزا في مطعم (اللاتيرنا) على جلسةٍ فيها مازات لنأكل وقت الغداء حين قال: «أنا نباتي لا آكل اللحوم». «طيب كُل حمص ومتبل وتبولة يا أبا روزا». أخذ يأكل ثم صرخَ صرخةً رهيبة: «شوفوا شوفوا، لحمة وسط الحمص مش معقول، أكيد المخابرات الأميركية والإمبريالية هي التي دست هذه اللحمة في الحمص لتدمير معتقداتي التي تحرم أكل اللحوم».

في رحلتي الأخيرة إلى باريس التقيتُ أدونيسَ وهو على ما أظن يكبرُ فينوس خوري غاتا، لكنه كان على نحوٍ جيدٍ من تماسك ذهني وجسدي وقد بلغ الخامسة والتسعين مثل الأديب الفرانكفوني الكبير صلاح ستيتية، الذي هو من أهم أصدقاء فينوس حيث رحل عن مثل هذا العمر، وقد كان ستيتية أيام هذه الندوة الشعرية في أمستردام سفيرًا للبنان في الأراضي المنخفضة، وألتقيه دائمًا وأستفيد من موسوعيته الفلسفية والأدبية العميقة. وكذلك مثقفةٌ أخرى كانت هناك سفيرة هي ليلى شهيد سفيرة فلسطين التي عرفتْ كيف تخاطب الرأي العام الأوربي بعدالة القضية، خطابًا عميقًا مقنعًا وكان لها حظوة بين مثقفي أوربا، وثمة نصٌّ مشتركٌ مع (جان جينيه).

وحده عبداللطيف اللعبي الذي التقيته في الرحلة الفرنسية إياها بدأتْ تستحوذ عليه هواجس الموت، فيمضي في مونولوج حول اقتراب النهايات، لكن ذلك لم يؤثر في وتيرة حيويته الخلاقة كتابةً ونضالًا من أجل قضايا العرب والإنسانية.

جملٌ أمام مئذنة

يصغي لأذان المغرب وزئير الصحراء

حمّادي في غيبوبته في البرزخِ الفاصلِ بين الموتِ والحياةِ، في المستشفى الذي زاره فيه الصديق نوري الجراح، وظل لدقائق يخاطب صمتَ الجثة وفي آخر نبضٍ لها قبل الرحيل، ربما قال له: يا صديقي، ما الذي أوصلك إلى هذا الحال؟ وما زلتَ لم تغادر فترة الشباب، ما الكوابيس التي مزَّقتْكَ إربًا في ليالي الغرب المدلهمة بالوحدة والصقيع؟

صمتُ الجملِ أمام المئذنة الوحيدة ورعب الصحراء، وهناك صمتُ الجثة الغريبة بين الغرباء.

غرفة استقبال الضواري

غرفة استقبال الضواري

أجلس على طاولة إزاء كونتر الاستقبال في الفندق الذي أنزل فيه، أتأمل القادمين والذاهبين من كل الألوان والأجناس، من البلدان البعيدة والقريبة.. في هذا الفندق الذي يقع وسط غابة صغيرة تشكّل امتدادًا للغابة الكبيرة المتلاطمة الأشجار والحيوات والطيور الصادحة طوال الليل، بأصوات تتهادى إلى مسمعي بين العواء الجريح، والفرح الحالم في نومه.

قبالة غرفة الاستقبال الخشبيّة، المكان الذي يذكّر أو يختصر محطّات قطارات حديثة أو تلك القديمة التي يعلوها الدخان، والسُّخام… بالمطارات الكبيرة والصغيرة، أحدق في سحنات وجوه القادمين المتْعبَة من الرحلات الطويلة التي تشبه رحلتي من عُمان في الضلع الأقصى من شبه جزيرة العرب، إلى الشرق الآسيويّ الأقصى.. وبخاصة إذا كان المسافر قد تقدم به العمر والزمن، تكون ضريبة التغيير وشمّ الهواء في البلاد الأخرى المختلفة، مرهقة وباهضة، وستأخذ الرحلة وتبعاتها يومًا أو يومين حتى يبدأ المترحّلُ في التخلص من عناء السفر ومتاعبه الجمّة، وبخاصة في هذه البرهة المضطربة في تاريخ العالم بحواجزه البوليسية ودوائر مطاراته المتحفزة دومًا بالريبة والانقضاض.

أحدق في وجوه القادمين والذاهبين إلى ديارهم بطمأنينة من قضى فترة نقاهة واستجمام، وتفترسني وجوه ملايين البشر الذين يتوزّعون مخطوفين (بمعنى الألم وليس النشوة) في المتاهات البريّة والجويّة والبحريّة لأسباب مختلفة، في طليعتها الحروب التدميريّة الصاعقة.. وأستحضر رحلة البشر في التاريخ المتراكم والزمان، رحلة الكائن في مختلف عصوره وأمكنته، من المهد إلى اللحد. ملحمة الألم والعبث والأحلام المجهضَة في آخر المطاف أو أوَّله، وأنادي (هرمس) الإله حامي المسافرين والرعاة في أساطير الإغريق، أن يرفق إن كان مزاجه رائقًا لمثل هذا الرفق، بكائناته ورعاياه، لكني أستدرك على الفور أن هذا الإله الوثني الذي تقع في اختصاصه حماية المسافرين في ليل المسافة، هو نفسه المكلف بقيادة الأرواح إلى العالم السُّفلي. وهنا تكمن المفارقة المضيئة بالدلالة والمعنى في متون الرحلة الكبرى لهؤلاء المترحّلين والمسافرين عبر الأزمان، التي تتأرجح بين جنّة الحماية، وجحيم السفر إلى المجهول.

٭  ٭  ٭

في هذا المساء البحريّ

أحسبُ القوارب والسفنَ،

ضواري وجوارحَ ستنقضّ بعد قليلٍ

لافتراسِ المغيب..

٭  ٭  ٭

كلابٌ محتدمة بالنباحِ على

الشمسِ الغارقة في صُفرة المغيب

كأنما النباحُ شكلًا من أشكالِ

التبجيل والوداع..

٭  ٭  ٭

سلامًا على ظهوراتك الشبحيّة أيتها

الضواري، ترتسمُ على صفحة الأفق

المحيط متآخية مع البروق وانفجارات

الرعد، وأنتِ تلعبين الغمّيضة مع

أطفالك على تخوم الغاب..

سلامًا على النيازك تسّاقط

في أحضانكِ والحنين..

٭ ٭  ٭

أيتها العظاية الصغيرة، تتسلّلين من بين شجيرات الأكمة إلى طاولة الإفطار خفيفةً رشيقةً، بلسانك الصغير الذي لا يكاد يُرى، كومضِ برقٍ عابر بين سُحبٍ كثيفة. تحدّقين بي وحيدًا في هذا الصقع النائي، لكن رغم نأيه ووحشته أكثر ألفةً من أوطان البغضاء والحروب.

ساهمةً أيتها الصغيرة سادرةً.. بماذا تحدثين نفسك يا مؤنستي وأنتِ تقفين على مشارف الغابة المطيرة المأهولة بالوحشي والمجهول حيث تتنزّه الجوارح والتماسيح…؟ هل تحلمين بأن تكوني مثلها، مثل التماسيح سلالتك الكبرى والمثال الافتراسي الأكثر قِدمًا من الإنسان والحيوان حين كان الكون مفازةً شاسعةً وحرّة للزواحف والماموث. حين لم تظْهر بعد بذور النسل البشريّ كالقرَدَة وأشباهها (الأورانغوتان على الخصوص) وليس من نبوءةِ آلهةٍ بذلك المقْدم والظهور.. بماذا تهجسين يا تمساح صباحاتي الذي أنتظر إطلالته البهيّة بهاء الغابة والشجرة، على رغم حزن محيّاك، كل صباح..

٭  ٭  ٭

أقرأ لألبير كامو، عن مشقّة السفر، وبخاصة للفقير ماديًّا.. وعن قبح الاستقرار. وبأن الاستقرار ليس مخيفًا في حدّ ذاته لكن النوع القبيح منه.. ومن حق الإنسان أن يكون سعيدًا في حياة عابرة مفعَمة بالعبث واللاجدوى. لماذا كل هذا الألم؟ -يضيف كامو- ضمن أطروحته الأثيرة، بالانتحار بمسدس عيار… أو بالزواج… إلخ… أضيف أن إنجاب الأطفال يبطل مماثلة الزواج بمسدس الانتحار أو يعجّل به وفق حساسية الشخص، ونزوعاته ومحيطه..

أطفال البشر، هل يمكن التوقف عن التسلسل المنطقي للأفكار، واستدعاء أطفال التماسيح والضواري الأخرى، يلعبون بغريزة الوحشيّ مع الشُّهب المتناثرة في فضاء الخليقة بسعادةٍ وأنس؟