بواسطة أمين صالح - كاتب و ناقد سينمائي بحريني | يوليو 1, 2018 | الملف, سينما
الأفلام المنتجة في دول الخليج لا تزال، تاريخيًّا، في طور النشوء والتكوّن. لا يمكن القول: إن هناك سينما خليجية ملتحمة عضويًّا، لها ملامح فكرية وفنية وجمالية واضحة وملموسة، أو توحّدها سمات معينة أو ملامح خاصة أو شخصية متفردة تميّزها عن السينما في أقطار عربية أخرى.. لا من حيث الأشكال والأساليب، ولا المضامين التي تطرحها. حتى البيئة، أو جغرافية المكان، لا تبدو مميّزة وفريدة. لدينا فحسب محاولات وتجارب فردية، متباينة المستوى والقيمة، طرحت نفسها في مدة قصيرة زمنيًّا. ومن خلال متابعتي المتواضعة لمختلف التجارب السينمائية في دول الخليج، لا أستطيع بعد أن أحدد سمات معينة تميّز هذه السينما عن بقية المناطق الأخرى.
شخصيًّا أميل إلى مشاهدة أي فلم، بصرف النظر عن مصدره، كنتاج إبداعي إنساني كوني، وأرى إلى أي حد أتفاعل معه، وأتحاور معه، ويؤثر فيّ عاطفيًّا وفكريًّا، ويعمّق أفكاري ورؤاي، من غير التفات إلى جنسيته ولغته ومنبعه. كل فلم له كينونته الخاصة، طرائقه الخاصة، تأويلاته الخاصة، وله حياته المستقلة. لا نقدر أن نجمع الأفلام تحت بطاقة تعريفية واحدة. لقد أنتجت دول الخليج، منذ السبعينيات من القرن الماضي حتى الآن عددًا قليلًا جدًّا من الأفلام الدرامية الطويلة، أما الأفلام القصيرة فكانت تُنتج بناءً على توافر الميزانية، التي هي ضئيلة بطبيعة الحال، وفي بعض الحالات، حسب الأمزجة والأهواء الشخصية، وذلك في أوقات متباعدة وبوسائل متواضعة إن لم نقل فقيرة، وهذه التجارب لم تتزايد وتنتعش إلا منذ سنوات قليلة.
فنيًّا، الأفلام المنتجة في دول الخليج، في معظمها، لا ترقى إلى مستوى الأفلام الفنية التي نحلم بها أو نطمح إليها، أي تلك التي تتناغم فيها الرؤية العميقة للواقع وللحياة، مع الأبعاد الجمالية التي تحققها عناصر فنية بارعة وواعية. لدينا محاولات فردية، بجهود ذاتية طموحة وتكاليف بسيطة، هنا وهناك، استطاعت أن تجد لها موقعًا في مهرجانات عربية ودولية، لكنها لم تستطع أن تؤسس لحركة سينمائية قادرة على أن تفرض نفسها على الواقع، وأن تخلق كوادر فنية مؤهلة بامتياز لتحقيق الأفلام بجودة فنية عالية، وأن تستقطب التمويل اللازم سواء من الحكومات أو القطاع الخاص لدعم هذه الفعالية أو حتى للاستثمار في هذا المجال. هذا لا يعني أن تلك المحاولات ساذجة وبدائية ولا قيمة لها. بالنظر إلى كل محاولة كحالة مستقلة، كفلم قائم بالعناصر الفنية المتاحة والإمكانيات المادية المتواضعة، يتحتم علينا القول بأنها محاولات شجاعة، جريئة، جديرة بالثناء والإعجاب. وفنيًّا، هي لا تخلو من ومضات والتماعات لافتة، قدّمها سينمائيون شغوفون بالفعل السينمائي ويستحقون التقدير والاحترام.
ليس لدينا صناعة سينمائية
مسعود أمر الله
من هنا أرى أن من الخطأ التكلم، حتى هذه اللحظة، عن «صناعة سينمائية» بالمعني الحقيقي، فالصناعة تقتضي توافر رأس المال والتمويل والاستثمار، وتتطلب توافر آليات وخطط سليمة للإنتاج المنتظم، الثابت والوافر، إلى جانب وجود أستوديوهات بكل ما تحتويه من أجهزة وفنيين وتقنيين، إضافة إلى المعامل والكوادر الفنية المحترفة في مختلف المجالات العاملة في إنجاز الأفلام، وكذلك وجود شبكات توزيع وما شابه. إذن، لنكن أكثر تواضعًا ونتحدث عن محاولات أو تجارب سينمائية يقوم بها أفراد طموحون، بجهود فردية وبتكاليف بسيطة، وأحيانًا بدعم معقول من جهات معينة، كما في الإمارات، تهمها – حضاريًّا وثقافيًّا وإبداعيًّا – أن تكون هناك سينما، مثلما لدينا مسرح وفن تشكيلي وأدب.
منذ عشر سنوات تقريبًا، شهدت بعض أقطار الخليج طفرة نسبية في إنتاج الأفلام القصيرة والوثائقية، وهذا ما لاحظناه بجلاء من خلال مشاركات المخرجين الشباب في المسابقات والمهرجانات، حيث شاهدنا العشرات من الأفلام القصيرة ذات المستويات المتباينة فنيًّا وتقنيًّا، المتنوعة في موضوعاتها، التي تتفاوت في الجودة والضعف، والعمق والسطحية، والجدة والاستسهال. من المؤكد أن الطفرات التي نشهدها في إنتاج الأفلام هي نتاج المسابقات المحلية والخليجية؛ إذ إن هذه المسابقات، بجوائزها المتواضعة واستقطابها للأقلام النقدية العربية الرصينة، تخلق مناخًا حيويًّا للتفاعل والحوار، وتشكل دوافع وحوافز تشجع السينمائيين على الإنتاج والمشاركة بحماسة في الفعاليات المختلفة.
في البحرين، تكفّل مسرح الصواري، بإمكانياته المتواضعة، ومن غير دعم من المؤسسات العامة والخاصة، بإقامة عدد من المسابقات «المتعثرة»، التي لم تستمر بانتظام، لكنها مع ذلك نجحت في اجتذاب عدد لا بأس به من الشباب الذين قدموا أفلامهم الطموحة. غير أن العديد من هؤلاء أصابهم اليأس وكفوا عن الإنتاج نتيجة تعثّر المسابقة ثم توقفها، رغم دخول نادي السينما كمشارك في تنظيم الفعالية. أما أبوظبي، مثلًا، وتحت إدارة السينمائي مسعود أمر الله، فقد نجحت تظاهرة «مسابقة أفلام من الإمارات» ليس فقط في استقطاب العديد من التجارب السينمائية في الإمارات المتحدة وفي أقطار الخليج الأخرى، عبر دوراتها السنوية، بل ساهمت أيضًا في إبراز مواهب عدد من السينمائيين الإماراتيين، في مجالات الإخراج وكتابة السيناريو والتصوير وغير ذلك، الذين أثبتوا حضورهم بقوة حتى في المهرجانات العربية. لا أستطيع الزعم بأني متابع جيد لمسيرة السينما في الخليج، لكن من خلال مشاهدة عدد من الأفلام الطويلة والقصيرة، أنتجها سينمائيون في دول الخليج، بإمكان المرء أن يقرر أن هناك محاولات طموحة، وتوجهات جادة لتحقيق أفلام تريد أن تقول أشياء عن واقعها، وأن تعبّر بأدواتها البسيطة وإمكانياتها المحدودة عن هموم معينة أو عن أحلام معينة. وهناك أسماء معينة تحاول جاهدة، وبجدية، أن تقدم شيئًا مختلفًا ولافتًا، على مستوى التقنية والمضمون. عمومًا، التحسن والتطور لا يتحققان إلا عبر تراكم التجارب وتعدد المحاولات.
البحرين والشغف بالسينما
عندما نتطرق إلى السينما في البحرين، لا بد أن نشير، عبر النظرة التاريخية، إلى خلفيات المشهد والمكونات التي غرست حالة الشغف بالسينما. لقد تعرفت البحرين على العروض السينمائية التجارية في وقت مبكر قياسًا إلى بقية الدول الخليجية.. كان ذلك في أوائل الخمسينيات عندما شهدت البحرين افتتاح عدد من دور العرض السينمائي، التي كانت تعرض الكثير من الأفلام الهندية والمصرية والأميركية، ذات الطابع التجاري، التي عادة تلقى رواجًا كبيرًا؛ بسبب الافتقار إلى وسائل الترفيه والتسلية الأخرى في تلك الحقبة.
في عام 1968م تأسست شركة البحرين للسينما، التي احتكرت امتلاك دور العرض، وشيدت صالات أخرى جديدة أكثر تطورًا وفخامة، واجتذبت بعروضها جمهورًا واسعًا أخذ يتزايد رغم المنافسة الشديدة من التلفزيون والفيديو. في موازاة ذلك، تأسس نادي السينما في السبعينيات، حيث كان يعرض أفلامًا ذات نوعية مختلفة عن الأعمال السائدة. لكنه توقف بعد سنوات قليلة، ليعاود نشاطه في بداية الثمانينيات، عبر تأسيسه من جديد، بعناصر مختلفة، ولتستمر فعالياته حتى يومنا هذا. فيما يتصل بالإنتاج المحلي للأفلام، كانت شركة البحرين للنفط (بابكو) أول جهة تبادر إلى إنتاج أفلام سينمائية وثائقية وإخبارية تصور مظاهر من الحياة اليومية في البحرين، إضافة إلى الأحداث العامة والاحتفالات والأنشطة الرسمية والأهلية، وذلك بدءًا من عام 1961م.
في عام 1966م بدأ خليفة شاهين، الذي يعد من رواد السينما في البحرين، وتخرّج من معهد الفنون في المملكة المتحدة عام 1965م، في إنتاج وإخراج أول جريدة سينمائية في البحرين، كما حقق عددًا من الأفلام الوثائقية. في بداية السبعينيات قدّم المخرج الشاب علي عباس مع صديقه مجيد شمس عددًا من الأفلام الدرامية القصيرة، التي تعتمد الحركة (الأكشن) ضمن طابع ميلودرامي، والمصورة سينمائيًّا بكاميرا 8 مليمتر.
الذوادي والاقتراب من الواقع وقضاياه
وفي موازاة تلك التجارب الجنينية، في المجال الدرامي القصير، بدأ الشاب بسام الذوادي، قبل أن يلتحق بمعهد السينما بالقاهرة لدراسة الإخراج، وفي أثناء مدة دراسته، في تحقيق عدد من الأفلام الدرامية القصيرة التي من خلالها بدا الذوادي أكثر اقترابًا من مشكلات الواقع وقضاياه. في عام 1990م، بعد سنوات طويلة من خوض المخرج الكويتي خالد الصديق تجربة إنتاج وإخراج أول فلم درامي طويل في الكويت في السبعينيات، تمكن بسام الذوادي من إنتاج وإخراج أول فلم درامي طويل في البحرين، بعنوان «الحاجز»، ومع كوادر فنية بحرينية غير احترافية، إنما تعتمد بالدرجة الأولى على خبراتها في العمل الدرامي التلفزيوني.
وبسبب عدم توافر جهات منتجة وممولة للأفلام السينمائية، وانعدام أي دعم مادي من مؤسسات حكومية، مثل وزارة الإعلام أو هيئة التلفزيون، والافتقار إلى قنوات من خلالها يمكن التواصل مع جهات أجنبية تساهم في التمويل، كان يتعيّن على بسام الذوادي أن ينتظر أكثر من عشر سنوات حتى ينجز فلمه الثاني «زائر» (2003م) ثم «حكاية بحرينية» (2007م)… حتى هذه اللحظة لا يزال الذوادي يبحث عن منتج لفلمه الرابع. وقد سعى الذوادي، من خلال تأسيس الشركة البحرينية للإنتاج السينمائي سنة 2005م مع نخبة من رجال الأعمال البحرينيين، إلى دعم الشباب وتشجيعهم على العمل السينمائي عبر إنتاج عدد من الأفلام القصيرة. وكان باكورة إنتاج هذه الشركة الفلم الدرامي الطويل «حكاية بحرينية» سنة 2006م لبسام الذوادي ثم فلمين طويلين للمخرج حسين الحليبي: أربع بنات (2008م)، وحنين (2010م). لكن الشركة لم تستمر في الإنتاج لظروف خاصة.
في الثمانينيات، لم يظهر في الساحة السينمائية الخالية غير عبدالله السعداوي، وهو مخرج مسرحي معروف، حقق عددًا من الأفلام الدرامية القصيرة، بعدها توقف عن الإنتاج السينمائي ليتفرغ لعروضه المسرحية، ولم يعد لخوض تجربة الإخراج السينمائي إلا في عام 2004م عندما قدّم «الشجرة التي سرقت أوراقها»، ثم حقق مع محمد جناحي «غبار» (2009م).. لكنه كتب عددًا من السيناريوهات لمخرجين آخرين من الشباب. في التسعينيات، اتجه المنتج المسرحي والمؤلف التلفزيوني حمد الشهابي إلى السينما لينتج ويكتب ويخرج فلمًا دراميًّا طويلًا بعنوان: «بيت الجن» (1992م) وهو من النوع المرعب. ولم يكرر الشهابي تجربة الإخراج السينمائي إلا في عام 2006م حين أنتج وأخرج الفلم الدرامي الطويل «حبّاب وكلاب الساحر»، وهو من الأفلام الموجهة للأطفال. في عام 1996م، ظهر فجأة عدد من المخرجين الشبان الذين قدموا أفلامهم الدرامية الأولى مثل: سعيد منصور، ومحمد شرفي، وياسر القرمزي، وعلي رحمة، ومحمد نعمة، ومحمد جناحي.
هذه الطفرة النسبية المفاجئة من أفلام حققها مخرجون شبان على نفقتهم الخاصة، من دون الحصول على أي دعم من القطاعين: العام والخاص. بإمكانيات فقيرة وعناصر فنية متواضعة، قدم هؤلاء أعمالهم.. وكانت المناسبة: مسابقة مسرح الصواري، وهو الأمر الذي يؤكد أهمية المهرجانات أو المسابقات السينمائية وضرورتهما بوصفهما مجالًا لعرض الأعمال وتقييمها، وحافزًا على الإنتاج، وملتقى عامًّا فيه يختبر المنتج إمكانياته ومستواه. وعندما تتوقف مثل هذه المسابقات يتوقف المخرجون بدورهم عن تحقيق أفلام أخرى؛ إذ ينتابهم اليأس وتنعدم لديهم الرغبة مع انعدام فضاء العرض والتفاعل. بين مدة وأخرى، كنا نشهد ظهور أسماء تشتغل في مجال الفلم القصير لكن بشكل محدود جدًّا، وغير مؤثر، ولا تستمر في المجال طويلًا. كانت أعمالهم عبارة عن تجارب بدائية، لا تحكمها رؤية فنية وفكرية. أغلب تلك المحاولات كانت تنقصها الكثير لكي تفرض نفسها كحركة سينمائية. من جانب هي تجارب مستقلة عن بعضها، متباعدة، لا تتفاعل فيما بينها. ومن جانب آخر، هي تفتقر إلى النواحي الإنتاجية وإلى الكوادر السينمائية، معتمدة على جهود شخص أو شخصين.
غياب التمويل
حالة الانقطاع وعدم الاستمرارية ناشئة، بالدرجة الأولى، من غياب التمويل. الفلم ليس كالكتاب أو اللوحة. هو يحتاج إلى أموال تغطي شتى التكاليف الضرورية في عملية الإنتاج.
المخرجون الذين ظهروا في عام 1996م ابتعدوا باستثناء محمد جناحي الذي واصل العمل السينمائي في أوقات متباعدة، فقدم فلمين قصيرين: كاميرا (2001م) ورسالة (2006م)، وفلمًا متوسط الطول بعنوان: «أيام يوسف الأخيرة» (2010م) ثم دراما وثائقية بعنوان: «قوللي يا حلو» (2012م). تجدر الإشارة هنا إلى تجارب يوسف القصير، في مجال الأفلام الكارتونية (الأنيميشن) الذي حقق أعمالًا كارتونية قصيرة في عام 1995م، وفلمًا آخر بعنوان: «جزيرة الضباب» (1996م) عندما أتاحت «مسابقة أفلام من الإمارات» بأبوظبي المجال لمشاركات أفلام من دول الخليج الأخرى في التظاهرة، شهدنا في عام 2004م موجة أخرى من الأفلام البحرينية التي حققها مخرجون شباب جدد، مثل: محمد القصاب، وعبدالله رشدان، وحسن آل شرف، وعبدالله البزاز، وحسين الحليبي. أما العنصر النسائي في مجال الإخراج فأعلن عن حضوره للمرة الأولى بفلم درامي قصير نفّذته عواطف المرزوق بعنوان: «الهروب الأخير». وتعيّن علينا أن ننتظر حتى عام 2007م لنشهد بروز أسماء نسائية أخرى في مجال الإخراج، مثل: عائشة المقلة، وآلاء محمد، وحوراء عيسى، وريم فريد اللواتي تخصصن في المجال الوثائقي. الأفلام القصيرة والوثائقية هي نتاج محاولات فردية تتعرض للانقطاع والتوقف. ومن ثم لا يمكن أن نتحدث عن حركة سينمائية، بالمعنى الإنتاجي والفني، إنما هي محاولات متعثرة. والإنتاج السينمائي في البحرين لم يشهد استمرارية ملحوظة ومطردة، وتناميًا جليًّا في الكم، وتطورًا لافتًا في النوعية إلا مع إقامة مسابقة الأفلام في أبوظبي، ومع استمرارية المهرجانات السينمائية في دبي وأبوظبي وقطر.
مشهد من فلم «حبّاب وكلاب الساحر
منذ عام 2005م شهدنا ازديادًا في عدد الأفلام المنتجة في البحرين، مع ظهور مخرجين جدد بعضهم توقف ولم يستمر مثل: علي رحمة، ونزار جواد، وجعفر حمزة، وفريد الخاجة. والبعض الآخر واصل العمل السينمائي مثل: محمد إبراهيم، وإبراهيم الدوسري، وعبدالله رشدان.
مع استمرار المسابقات والمهرجانات الخليجية، استمرت عجلة إنتاج الأفلام في البحرين على الوتيرة ذاتها، والحماس ذاته، ضمن ظروف صعبة ومتقشفة، ومن غير دعم من أي جهة رسمية أو أهلية، واعتمد الشباب على إمكانياتهم المادية الخاصة، الفقيرة والمتواضعة، وعلى استعداد الفنيين والممثلين للعمل المجاني دعمًا ومساندةً للشباب من جهة، وللمساهمة في خلق سينما جادة ومتقدمة تنسجم مع الطموح الفني والرغبة في الإبداع. في السنوات التالية ظهرت أسماء جديدة حققت أعمالًا متفاوتة المستوى، نذكر منها: علي العلي، ومحمد راشد بوعلي (الذي حقق في عام 2015م فلمه الطويل الأول «الشجرة النائمة»)، وجمال الغيلان، وحسين الرفاعي، ومحمود الشيخ، وعمار الكوهجي، وأسامة آل سيف، ومحمد جاسم، وصالح ناس، وسلمان يوسف. في الأفلام البحرينية، بشكل عام، نجد تفاوتًا في تناول وطرح القضايا والمشكلات والهموم والهواجس التي يعج بها المجتمع البحريني، فليس ثمة موضوع واحد أو قضية موحدة، يجري التركيز عليها، بل هناك اهتمام بقضايا كثيرة، من المشكلات المعقدة، إلى الهموم الوجودية، إلى الأحلام الذاتية، إلى التفاصيل الحياتية. مع رغبة ملحّة في التعبير عن الواقع وعلاقة الفرد بمحيطه وبالآخر، والتطرق إلى العلاقات الإنسانية المتعددة، والهموم المعيشية، والعبث بالبيئة، وغيرها.
الطفرة الفلمية والتقنيات الحديثة
حمد الشهابي
مع توافر التقنيات الحديثة في مجال التصوير والمونتاج والمؤثرات البصرية والسمعية، بالنظام الرقمي (الديجيتال)، صار بإمكان السينمائي أن ينتج أفلامه بميزانية أقل، وضمن شروط للعمل أيسر وأكثر تحررًا من الضغوط. إن الطفرة الإنتاجية التي شهدتها دول الخليج ترافقت مع توافر وانتشار التقنيات الحديثة التي هيأت للشباب فرص الانخراط في العمل السينمائي بعيدًا من الشروط التقليدية في الإنتاج والتنفيذ والطبع والعرض والتوزيع.
لكن المهارة التقنية، والبراعة في استخدام الأجهزة، لا تكفي لصنع فلم جيد وعميق ومؤثر. يجب أن يرتكز الفلم على رؤية فكرية وفنية واضحة، تتحكم في العمل ككل وتوجّه كل العناصر الفنية للتعبير جماليًّا وفكريًّا عن المراد طرحه وتقديمه. الغالبية من صنّاع الأفلام يعانون ندرة أو شحًّا في الإمكانيات المادية الداعمة لمشاريعهم، وهذا يؤدي إلى عرقلة المسيرة السينمائية، ففي حالة عدم وجود جهات إنتاجية – من القطاع العام والخاص معًا – تموّل وتدعم الأفلام، يشعر السينمائي الشاب بالإحباط، وهو الذي نفّذ فلمه الأول وربما الثاني والثالث على نفقته الخاصة، متوقعًا أن يجد من يمول فلمه التالي. حتمًا سوف يتوقف عن العمل ويتخلى عن حلمه، أو ينتظر سنوات حتى يتوافر لديه مبلغ يكفيه لإنتاج فلمه، أو يلجأ إلى قنوات خارجية للتمويل.
في غياب القطاع الخاص، الذي لا يكترث بالسينما، ولا يعدها مجالًا صالحًا للاستثمار، يكون للدعم الرسمي أهمية قصوى، خصوصًا إذا أدركت الحكومات أهمية السينما – كفعالية ثقافية – وضرورة دعمها. أما إذا استمرت في النظر إلى السينما بارتياب أو بوصفها مجالًا لا ضرورة له ويمكن الاستغناء عنه، فسوف تتعرض المحاولات والجهود السينمائية إلى التعثّر والتعطّل، وسوف تواجه العديد من العراقيل والصعوبات.
السينما في البحرين، كما في أقطار الخليج الأخرى، تعاني قلة، أو ندرة، العناصر الفنية المؤهلة سينمائيًّا، فالمخرج المتحمس لتحقيق فلمه، على نفقته الخاصة، يحتاج إلى مصور وفنيّ صوت ومونتاج، وغير ذلك من العناصر؛ لذلك يضطر إلى التعاقد مع فنانين عرب أو أجانب، وهو الأمر الذي يعني زيادة التكاليف. إن الافتقار إلى هذه العناصر يفضي بطبيعة الحال إلى إفقار الفلم فنيًّا، والتقليل من قيمته وأهميته، وإفقاده القدرة على التأثير. العديد من الأفلام أخفقت بسبب نقص التجربة وسوء توظيف الأدوات من كاميرا وإضاءة وصوت وموسيقا ومونتاج، وضعف إدارة الأداء، والافتقار إلى الإدراك الحقيقي بتقنيات السينما.
بواسطة أمين صالح - كاتب و ناقد سينمائي بحريني | مايو 2, 2017 | سينما, فنون
بوستر فلم «الحصاد المتجهم»
استقبل النقاد الفرنسيون أفلام المخرج السينمائي الإيطالي برناردو برتولوتشي الأولى بحفاوة بالغة، ربما أكثر من النقاد الإيطاليين. لقد وجدوا في أعماله أصداءً من الموجة الفرنسية الجديدة، وذلك عبر توظيفه لكاميرا قلقة، غير مستقرة، ومواقع خارجية نابضة بالحياة، وقصص شخصية بسيطة، وجماليات بصرية تتناغم مع المضامين الثورية.
الأساس الأدبي لأعمال برتولوتشي ينشأ من بداياته كشاعر. صرَّح مرةً بأنه كان على وشك أن يتوجه إلى كتابة الرواية، لكنه بدلًا من ذلك اختار السينما، محاولًا أن يحافظ على الحرية ذاتها التي كان يمكن أن يتمتع بها لو كتب روايات. اهتماماته الأساسية هي بالأمكنة، وبالمساحات التي ضمنها «يكتب» المشاهد في أشكال تلقائية، وبالإضاءة التي تساعده في خلق تلك الأشكال، وبتفاعل الشخصيات ضمن تلك الأمكنة أو المساحات.
في أفلامه، يوحِّد برتولوتشي الوعي السياسي والأسلوب المغوي بصريًّا، المتقن والمدروس من أجل إدهاش المتفرج.
أسلوبه السينمائي يتميَّز بتوظيفه الغنائي لحركات الكاميرا الرشيقة، المتموجة، المديدة. الكاميرا غالبًا ما تكون في حركة مستمرة، وذات حضور متواصل، لا يهدأ. إضافة إلى استخدامه التعبيري للألوان، وأسلوبه السردي الذي يتلاعب بالزمن في سبيل خلق حاضر شبيه بالحلم. ولد برناردو برتولوتشي في 16 مارس 1940م، في مدينة بارما بإيطاليا. مارس كتابة الشعر منذ صباه. وقد ازداد ولعًا بالسينما مع انتقاله إلى روما واستقراره فيها أواخر الخمسينيات. وسعى إلى الانخراط عمليًّا في هذا العالم الذي سحره، وبحصوله على كاميرا 16 ملي، راح يصوِّر أفلامه القصيرة. أول فلم له كان بعنوان: «موت خنزير» وهو صامت.
مساعد مخرج لبازوليني
مشهد من فلم «خدعة العنكبوت»
كان في العشرين من عمره عندما سنحت له فرصة العمل كمساعد مخرج مع بازوليني في أول أفلامه: أكاتونه Acatone (1961م).. عن هذه التجربة يقول: «كانت المرة الأولى التي أدخل فيها موقعًا للتصوير. قلت لبازوليني: أنا لم أعمل في السينما من قبل، فكيف يمكنني أن أساعدك؟» رد قائلًا: «أنا أيضًا. إنها المرة الأولى لكلينا». كلاهما كان يتعامل مع السينما للمرة الأولى.. بلا خبرة ولا تجربة. بعد أن نجح الفلم، عرض أحد المنتجين على برتولوتشي ثلاث صفحات كتبها بازوليني ولم يكملها، وطلب منه أن يحوِّل هذه الصفحات إلى سيناريو كامل.. «كان من المقرَّر أن ينجِز الفلم مخرج آخر، لكن حين قرأ المنتج السيناريو الذي كتبته، طلب مني أن أخرجه بنفسي.. كان ذلك أول أفلامي: الحاصد المتجهم (1962م)».
العنوان يشير إلى الموت. من خلال هذا الفلم يوطد برتولوتشي هويته: أسلوبيًّا وشخصيًّا.. إنه يقدِّم لغةً سينمائية مصقولة وأسلوبًا بصريًّا ديناميكيًّا يجعله يتصل بالسينما الحديثة العالمية. الفلم جوهريًّا قصيدة انطباعية عن روما كما يراها فتيان البروليتاريا الرثة، الذين يستمتعون بالحياة رغم فقرهم وافتقارهم إلى الرؤية الواضحة. ظاهريًّا، تبدو القصة بوليسية إثارية: جريمة قتل مومس، في منتصف العمر، حدثت ليلًا في المتنزه، والتحريات التي تُجرَى للكشف عن القاتل، واستجواب عدد كبير من المشتبه بهم الذين يروون قصصهم مع اهتمام دقيق بالتفاصيل. كبناء درامي، الفلم قريب من فلم كوروساوا «راشومون»، حيث عبر سلسلة من الفلاش باك، التي تعبِّر عن وجهات نظر مختلفة، ومتباينة، بعضها حقيقيّ وبعضها زائف (أحيانًا يقول الشاهد شيئًا في حين نرى، عبر الفلاش باك، شيئًا يناقض ما يقوله)، نتابع تحركات عدد من المشتبه بهم وقت حدوث الجريمة. كل شهادة، في تحريات الشرطة، تصبح عنصرًا في لوحة عريضة. هنا ثمة توازن بين الحساسية تجاه القضايا الاجتماعية والثراء البصري.
هنا، وكما في أفلامه اللاحقة، يؤكد برتولوتشي على فكرة تدفق الزمن، وهي الفكرة التي تستحوذ عليه، ويقول عنها: «هذه الفكرة، الإحساس بمرور الزمن، هي بسيطة جدًّا. لكن الفكرة ذاتها هي أساس أو منطلق الكثير من الشعر». الفلم استُقبل بردود أفعال متضاربة. ولم ينجح تجاريًّا؛ لذلك بقي برتولوتشي عاطلًا عن العمل نحو سنتين. حين شرع في إخراج «قبل الثورة» (1964م)، يقول برتولوتشي: «عنوان فلمي -قبل الثورة- يتصل بالتضمين المقتبس من تاليران في بداية الفلم.. (أولئك الذين عاشوا قبل الثورة، وحدهم يعرفون مدى عذوبة الحياة). الفلم هو أكثر من مجرد سيرة ذاتية، كان عملية تطهّر.. محاولة لتخليص نفسي من مخاوفي الخاصة». البطل، فابريزيو، يعجز عن الانفصال عن روابطه العائلية التقليدية؛ بسبب تربيته الاجتماعية والثقافية. إنها قصة نضال خاسر. هنا يحلِّل برتولوتشي لا جدوى معتقداته السياسية الثورية، محوِّلًا المفاهيم المعقدة بشأن الهوية الطبقية إلى دراما شخصية أخاذة. ومع أن الفلم يستعير موقع الأحداث (في بارما) وأسماء الشخصيات وبعض العناصر السردية من رواية ستندال، الصادرة عام 1838م، فإن التفاصيل مختلفة تمامًا.
الوقوع تحت سحر الأيديولوجيا
مشهد من فلم «بوذا الصغير»
الفلم عبارة عن صورة ذاتية لشاب شديد الحساسية، يُدعَى فابريزيو، يقع تحت سحر الأيديولوجية الماركسية، فيقوم بمحاولة، فاترة وتعوزها الحماسة، لرجّ خلفيته البورجوازية. إنه الشاب الممزَّق بين رفاهية حياته وتوقه إلى التحرر منها، بين الراديكالية والنزوع المحافظ، بين العلاقة العاطفية المحرَّمة وضرورة ارتباطه بالمرشحة لأن تكون زوجته. إن حالة التردُّد لديه ظاهرة ناشئة عن محيطه التاريخي، والتأثير المتنامي لليسار الإيطالي، وعن الخوف من الثورة.. هذا الخوف المطمور عميقًا في البورجوازية الأوربية. في هذا الفلم استخدم برتولوتشي التقنيات والعناصر الأسلوبية التي كانت تميِّز حقبة الستينيات، مع بحث السينمائيين آنذاك عن لغة جديدة، وتجديد السرد السينمائي، وابتكار تكوينات مغايرة.
وقد رحَّب النقاد بالفلم، ووصفوه بالإنجاز المهمّ والبارز للسينما الإيطالية الجديدة، كما حاز جوائز، لكنه أخفق تجاريًّا. بعد هذا الفلم كان على برتولوتشي أن ينتظر أربع سنوات (خلالها أخرج فلمًا وثائقيًّا عن البترول من ثلاثة أجزاء لصالح التلفزيون الإيطالي (1964م)، وأخرج فلمًا قصيرًا بعنوان: «ألم» (1967م) كجزء من فلم «حب وغضب». كما ساهم في كتابة سيناريو «حدث ذات مرة في الغرب» لسرجيو ليوني.. وذلك قبل أن يحقِّق فلمه التالي «الشريك» (1968م). وهو معد بتصرُّف عن قصة دوستويفسكي «البديل».
بيير كليمنت يؤدي دورين لشخصية مزدوجة أو فصامية.. المدرِّس في معهد الدراما، وهو متردد وحائر في عالم من الضغوطات المادية والفوارق الاجتماعية التي تحيله إلى حالة من السلوك العقيم. إنه حذر، غير واثق من نفسه.. سياسيًّا وجنسيًّا. بينما الآخر، الجانب الراديكالي العنيف، هو رجل فعل يحرِّض الطلاب على الثورة.. فنيًّا واجتماعيًّا. فيما الاثنان يتمازجان، تتضبب الأحداث وتزداد غموضًا، والفلم يصبح رحلة نحو عالم السوريال (ما فوق الواقع).
الفلم صعب واستفزازي، يكون مفهومًا على نحو أفضل بوصفه نتاج حلم. الفلم يتّخذ مساره المتعرّج، الملتوي، بدون قواعد سردية قابلة للتمييز، قافزًا من مشهد صعب ومبهم إلى آخر مماثل في الصعوبة. الانتقالات مفاجئة بين مشاهد حلمية، غير مترابطة، لا تلتزم بنظام منطقي، ومن غير أي إحساس بالتماسك والتلاحم. السرد هنا يخضع للتكثيف والتشظي. يقول برتولوتشي: «الفلم حلم، والمخرج هو الحالم. كل شخصيات الحلم تعكس أو تعبّر عن ذات الحالم». إنه أول أفلام برتولوتشي بالألوان والسينما سكوب. يتميّز بصريًّا بالقوة وبالتلاعب بالضوء والظل، وتوظيف الصوت بشكل مغاير، مع حركات كاميرا متقنة لكن مسرفة. موضوعه –رغم حيويته– بدا مراوغًا وغامضًا، والانتقال من الشخصية إلى البديل بدا مربكًا.
التغريب البريشتي
مشهد من فلم «الإمبراطور الأخير»
عن فلمه هذا يقول برتولوتشي:«هو فلمي الملعون. ربما جاء مبكرًا جدًّا، ربما جاء متأخرًا جدًّا، لا أدري. الفلم لم ينجح جماهيريًّا. القليلون أعجبوا به، وقد جعلني أعاني الكثير. ربما لم أكن أفهم نفسي. إن فكرة التغريب البريشتي، التي يتبناها الفلم ويحاول أن يفرضها، هي ملتبسة وغير حاسمة على المستوى الثقافي بسبب القراءة السيئة لبريشت». فلمه التالي كان «خدعة العنكبوت» (1970م) المبني على قصة قصيرة كتبها خورخي لويس بورخيس بعنوان: «موضوع عن الخائن والبطل»، تدور في أيرلندا عام 1824م، ويمكن أن تدور –كما قال بورخيس– في «أي بلاد مقموعة». برتولوتشي جعل الأحداث تدور في بلدة صغيرة. بنية الفلم تستدعي درجة كبيرة من التماهي أو التطابق مع الشخصية الرئيسة، الشاب الذي يعود إلى بلدته، ويتحرى جريمة قتل أبيه قبل ثلاثين سنة الذي ربما قتله الفاشيون كما يشاع، أو قد يكون خائنًا للقضية المضادة للفاشية فقتله زملاؤه في المقاومة، وحتى تتكشف الحقيقة يظل الأب الراحل في موضع التوقير والتبجيل عند أهالي البلدة بوصفه بطلًا وشهيدًا معاديًا للفاشيين؛ لذلك فإن الغموض الذي يحيط بتفاصيل موته من الصعب، بل من الخطورة، اختراقه.
في النهاية تتضح له الحقيقة؛ إذ يكتشف أن أباه، في الواقع، قد خان رفاقه والقضية –في لحظة ضعف- وأفشى بالمؤامرة المخطط لها لاغتيال الزعيم موسوليني عام 1936م، في أثناء زيارته للبلدة. هذا ما يعترف به رفاق أبيه المتقدمون في السن، حين التقاهم في دار الأوبرا، كما يذكرون له عن الاتفاق الذي عقده أبوه معهم؛ أن ينال عقابه على خيانته لكن من دون تلويث القضية وإفقادها نقاءها وبريقها أمام المؤمنين بها، أي أن يُعدَم جزاء فعلته لكن من دون إفشاء السبب، بل يجب أن يبدو الأمر كما لو أن الفاشيين هم الذين قاموا باغتياله. وهم لسنوات طويلة أخفوا الحقيقة؛ ليبقى أبوه بطلًا شهيدًا في نظر أهالي البلدة. في النهاية، حين عرف الابن الحقيقة، كان عليه أن يختار بين كشف الحقيقة أو إخفائها. في الفلم كما في القصة، الابن لا يفشي السر، لا يكشف الحقيقة لأحد.. ربما لأن صورة الأب تظل قوية ومهيمنة إلى درجة تجعله يعجز عن كشف حقيقتها، عن تحطيمها، عن التحرّر منها. الابن يهمّ بمغادرة البلدة، بالهرب من الأب، من الماضي المفترس، من القدر. يذهب إلى محطة القطار نفسها التي وصل إليها في بداية الفلم، لكن يسمع من يعلن عن تأخر القطار لمدة 40 دقيقة، ثم لمدة ساعتين، ثم يخبره مدير المحطة: «أحيانًا ينسوننا تمامًا».
بينما يسير الشاب في موازاة خط السكة الحديدية، مع حركة كاميرا مصاحبة على طول القضبان، يكتشف أن السكة، عند موضع ما تصير مطمورة في الأرض تحت شجيرات نامية، ومكسوَّة بالأعشاب، دلالة على أن أي قطار لم يمر على هذه السكة منذ زمن طويل، ولن يمرّ أي قطار على الإطلاق. إنها إشارة ضمنية إلى أن الماضي استطاع أخيرًا أن يغمر الحاضر، أو ربما هو مجاز بصريّ لثيمة الفلم: حجب أي أثر للماضي، وللتعبير عن شرَك الزمن. على أية حال، هو يجد نفسه عالقًا في شبكة العنكبوت، عارفًا أن ليس بإمكانه أبدًا مغادرة البلدة. إنه ينصهر تدريجيًّا مع الماضي، مع أبيه، في كينونة واحدة. في هذه النهاية، التي تشكِّل صدمة شديدة للبطل وللمتفرج على حد سواء، تختلط الحقيقة بالوهم، الصدق بالزيف.
بعد إخفاق أفلامه السابقة، على الصعيد التجاري، حاول برتولوتشي أن يغيِّر طريقته في صنع الفلم متبنيًا أسلوب سرد مختلف قادر على أن يصل إلى الجمهور العريض. يقول برتولوتشي: «مع فلم خدعة العنكبوت بدأت في قبول فكرة الجمهور، بدأت باتصالي بالجمهور، هذا الاتصال الذي كان مفقودًا في السابق».
بواسطة أمين صالح - كاتب و ناقد سينمائي بحريني | نوفمبر 6, 2016 | سينما, فنون
أمين صالح
روبرت دي نيرو ممثّل خلّاق، ومتجدّد، ومتنوّع، ومتعدّد الوجوه والأشكال. منذ أن انبثق في السبعينيات كممثل استثنائي وهو يحفر في ذاكرة المشاهد سلسلة متوالية، بارزة ولافتة، من الشخصيات التي لا تتماثل إنما تختلف وتتعارض. مع كل فلم جديد يبدو مختلفًا عن الذي سبقه على نحو أخاذ ومدهش. يبدو أشبه بالحرباء. شخصيات ثرية، ومتنوعة، ومركّبة، ومتعددة الأبعاد، تتأرجح بين الرقة والعنف، والحساسية والفظاظة، والوداعة والقسوة، والهدوء والتوتر، الصفاء والغموض. شخصيات ذات أعماق مضطربة مبهمة، وشخصيات مباشرة أقل تعقيدًا، تلك التي تجوب عالم التراجيديا تارةً أخرى، وعالم الكوميديا الخفيفة تارةً. شخصيات مؤثرة ومحركّة للمشاعر، وفي الوقت ذاته، موشومة بحس الدعابة والجاذبية.
ولد روبرت دي نيرو في 17 أغسطس 1943م، في الحي الإيطالي الواقع في الجانب الشرقي من نيويورك. والده من أصل إيطالي – أيرلندي، ويدعى أيضًا روبرت دي نيرو، وهو رسام وشاعر وناقد. أمه فرجينيا أدميرال، رسامة أيضًا. لقد نشأ دي نيرو في محيط فني، حيث كان البيت بؤرة التقاء لعدد من الفنانين والكتّاب والصحفيين. هذه الدائرة الثقافية ساهمت في توجّه دي نيرو نحو الاهتمام بالفنون في سن مبكّرة. لكن هذا الصبي الخجول، الانطوائي، وجد صعوبة في التعبير عن نفسه حتى اكتشف، وهو في سن العاشرة، متعة التمثيل الذي مارسه في المسرح المدرسي. آنذاك التحق بالورشة الدرامية الأميركية بنيويورك.
عندما بلغ السادسة عشرة من عمره ترك المدرسة ليحقّق ذاته في المجال الفني كممثل، فدرس التمثيل تحت إشراف «ستيلا أدلر» و«لي ستراسبرغ» في أستوديو الممثل. والداه لم يعترضا على اختياره التمثيل: «كانا متعاونين جدًّا، قدّما لي الدعم والتشجيع. كانا سعيدين لأنني لم أرغب في أن أكون مروّجًا لصكوك التأمين». مارس التمثيل على خشبة المسرح، وفي بضعة أعمال تلفزيونية. في عام 1964م، في أثناء مشاركته في إحدى المسرحيات، لفت إليه انتباه المخرج بريان دي بالما، الذي كان آنذاك طالبًا في السنة الأخيرة بمعهد السينما، وكان يحضّر لتنفيذ فلم التخرج «حفلة زفاف» The Wedding Party، فأسند إليه دورًا ثانويًّا، وكان أول ظهور له على شاشة السينما. دي بالما اختاره مرة أخرى ليمثّل في فلميه التاليين: تحيات Greetings، أهلًا ماما Hi Mom . بعدهما ظهر دي نيرو في عدد من الأعمال المسرحية، وقد جذب أداؤه اهتمام الممثلة شيلي وينترز التي أصرّت على أن يمثّل دور ابنها في فلم «الأم الدموية» Bloody Mama. بعد ذلك شارك في بضعة أفلام قبل أن يلفت الأنظار ويحرز الثناء على أدائه الجيد والمحرّك في فلم «اقرع الطبل على مهل» Bang The Drum Slowly.
لكن المخرج مارتن سكورسيزي هو الذي فجّر طاقته وأبرز موهبته الرائعة ووضعه في بؤرة الاهتمام عندما اختاره لدور مهم، وإن لم يكن رئيسًا، في فلمه «شوارع وضيعة» Mean Streets. لقد فتح هذا الفلم بوابة الشهرة والنجومية لدي نيرو، ورسّخ أقدام سكورسيزي كواحد من أهم مخرجي السينما الأميركية. وكان الفلم بداية لتعاون وثيق، لافت وفعّال، على مدى سنوات طويلة، أثمر أعمالًا قوية ومميّزة.
صار دي نيرو الممثل المفضّل لسكورسيزي، وكوّن معه علاقة فنية وشخصية حميمة. يقول سكورسيزي (Photoplay, August 1983): «لقد طوّرنا معًا نوعًا من العلاقة بحيث صار كل منا يعرف الكثير عن الآخر، يعرف ما يفكر فيه قبل أن ينطق به. جئنا من المنطقة ذاتها، فقد نشأنا في الحي الإيطالي ذاته، وكنا نرى الأشياء بالطريقة ذاتها. كلانا كان يشعر بأنه غير منتمٍ إلى محيطه. كممثل، أنا معجب به كثيرًا. لا أعتقد أن هناك ممثلًا أفضل منه». أما دي نيرو فيقول عن علاقته بسكورسيزي: «ما هو مهم في عملنا، والذي هو شاق جدًّا وبطيء جدًّا، هو ذلك النوع من المشاركة، والتواطؤ، والتضامن، والحد الأدنى من الهزل.. والذي يحول دون الإصابة بالصداع النصفي».
خصوصية الفنان
مارلون براندو في فلم العراب
قليلة هي المرات التي وافق فيها على إجراء لقاءات صحفية معه. وعندما تتصل الأسئلة بحياته الخاصة وعلاقاته الشخصية كان يرفض الإجابة بشكل مهذب. لم يكن يميل إلى البوح عن طفولته، وتجاربه الأولى، حتى أسلوبه في التمثيل، حيث يرى مثل هذه الأسئلة تدخلًا في شؤونه الخاصة وانتهاكًا لخصوصياته. إجاباته غالبًا ما تكون مقتضبة، إيجازية، مراوغة، غير مرضية أو مشبعة.. «لماذا يرغب الناس في معرفة ماذا أتناول في إفطاري؟ ما أهمية معرفتهم بهواياتي أو مراحل دراستي؟ ما علاقة كل هذا بالتمثيل، بما أفعله، بما يدور في ذهني؟ لا شيء. أريد أن يحبني الناس، لكن ليس بسبب طريقتي في الابتسام في الحفلات إنما بسبب عملي في الأفلام». هناك من يدافع عن خصوصية الفنان، كما في حديث المخرج رولاند جوفي، الذي عمل معه في فلم The Mission: «دي نيرو يبذل جهدًا جبارًا، ويعطي الكثير من ذاته في أي فلم يشارك فيه، لذلك هو يقينًا بحاجة إلى صيانة خصوصيته وشؤونه الشخصية، هذا من حقه».
نعرف القليل عن حياته الخاصة. في عام 1976م تزوج الممثلة السوداء الجميلة ديان أبوت (التي ظهرت معه في بعض الأفلام: نيويورك نيويورك، ملك الكوميديا) ومنها أنجب ولدين هما: رافائيل، ودرينا. ويقال: إنه في حياته العادية شخص خجول، انطوائي، غامض، مراوغ، كتوم، هادئ، قليل الكلام، لا يحب أن يتحدث كثيرًا عن أعماله وأدواره. «أشعر بالتوتر حين أكتشف أن شخصًا ما ينظر إليّ». أما الجانب الآخر من شخصيته فيعلن عنه أحد أصدقائه: «إنه مهرج. بوبي (دي نيرو) لا يمارس تهريجه ولهوه ومزاحه إلا مع أصدقائه المقربين. لكنك تستطيع بسهولة أن تكتشف حس الدعابة لديه حتى في أكثر أدواره صعوبةً وتعقيدًا».
ابتعاده عن الأضواء وتجنبه اللقاءات الصحفية والدعاية، جعل بعضهم يتهمه بالغطرسة والعجرفة والفظاظة. غير أن الذين تسنى لهم الحديث مع دي نيرو، في المقابلات، وتوقعوا مواجهة شخص مشاكس، وقح، كتوم، عاجز عن الإفصاح عن آرائه ومشاعره، اكتشفوا شخصية جذابة ولطيفة، وأشادوا بثقافته وهدوئه وروحه المرحة وطريقته المهذبة في التصريح. منذ أواخر الثمانينيات، بدأ دي نيرو في كسر هذه القاعدة، وصار يتيح للصحافة ووسائل الإعلام إجراء لقاءات معه، إلى جانب مشاركته أحيانًا في الحملات الدعائية للفلم. كذلك كسر قاعدة مشاركاته في الأفلام، إذ حتى منتصف الثمانينيات لم يكن يمثّل إلا في فلم واحد في العام، لكنه منذئذٍ صار يظهر في أكثر من عمل في السنة.
وعن هذا يقول دي نيرو: «في هذه المرحلة من حياتي أشعر بأنني أريد أن أعمل كثيرًا، أن أنجز أشياء كثيرة. ربما سيختلف الوضع في المستقبل، ولن أعود أشعر بالرغبة المحمومة في العمل. في الماضي شعرت بأنه ليس من الضروري أن أعمل باستمرار، كممثّل، ولهذا أمضيت وقتًا طويلًا دون أن أفعل شيئًا. سنوات مضت وأنا أنتظر. الآن أريد أن أعوّض عما فات، فأنا شاب وقوي. ربما في مرحلة لاحقة سوف أركّز طاقتي على شيء آخر مختلف.. إخراج الأفلام مثلًا».
عندما طُلب من دي نيرو أن يحدّد أفضل أدواره، قال: «كثيرًا ما يُطرح عليّ هذا السؤال، لكنني في الواقع لا أستطيع أن أحدّد وأختار أفضلها.. ربما أتمكن من ذلك بعد خمس أو عشر سنوات». وعندما سئل عن الأفلام المفضلة لديه، تردّد طويلًا قبل أن يجيب: «الباحثان» The searchers للمخرج جون فورد. أما عندما سئل عن الممثلين الذين كان يفضلهم في شبابه، فقد ذكر: مارلون براندو، جيمس دين، مونتغمري كليفت، سبنسر تريسي، ولتر هيوستون. ومن الممثلات: جيرالدين بيغ، كيم ستانلي.
دي نيرو ومارلون براندو
حين تفجرت موهبة دي نيرو على الشاشة، وتعرّف الجميع إلى قدراته المدهشة في تأدية مختلف الأدوار وأكثرها صعوبة، وعلى طريقته الجديدة، غير المألوفة، في فهم وسبر وتجسيد الشخصيات، بدأ العديد من النقاد في مقارنته بمارلون براندو، خصوصًا في مراحله الأولى. لقد أدى إقلال براندو في الظهور في السبعينيات إلى انتخاب دي نيرو كوريث بلا منازع لبراندو. كان حقًّا الجدير والمؤهل لأن يحتل المكانة التي شغلها براندو في السينما الأميركية كممثل استثنائي وفريد. الخاصيات التي ارتبطت ببراندو طوال عقدين (الخمسينيات والستينيات) هي ذاتها التي ارتبطت بدي نيرو في السبعينيات والثمانينيات: الحداثة، والمغايرة، وممارسة التمثيل كحياة لا كمهنة، والتكثيف، والاختزال، والتحوّل.
التماثلات بينهما كثيرة، ويسهل تحديدها عبر مستويات متعددة: الانغمار الكلي في الدور، وتذويب الذات أو تحويلها بحيث يصبح الممثل هو الشخصية التي يؤديها. وضع كل شخصية في الواقع الملائم لها نفسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، والتعبير عنها بصدق وديناميكية. انتقاء الشخصيات المركّبة التي لا تتوافق مع ذاتها ومحيطها، التي تسعى إلى تأكيد نفسها. إعطاء اللغة سلطة إضافية تعبيرية وإيحائية من خلال التكثيف والاختزال والتركيز على المظاهر الصوتية المتنوعة كالغمغمة والهمهمة والتلعثم والتكرار. نبذ التقنيات المسرحية في الأداء وتحاشي الانفعالات الخارجية المفرطة والمكشوفة.
مارتن سكورسيزي
على مستوى المسار الفني نلحظ أن كليهما درس التمثيل في أستوديو الممثل، وتبنّيا أسلوب «المنهج» method في الأداء، معتمدين على تقنية المنهج في البحث والتحوّل أكثر من اعتمادهما على الغريزة والخبرة المكتسبة. من جهة أخرى، كلاهما حينما وصل إلى مرحلة في مسيرته الفنية شعر بأنه لا يعود يتعيّن عليه تأدية الأدوار الرئيسة فقط؛ بل يمكنه التحرك خارج دائرة هذه الأدوار، والظهور في أدوار ثانوية من دون أن يفقد بريقه المهيمن، وغالبًا ما تلقي شخصيتهما القوية ظلالها الحادة والمؤثرة على الفلم بأسره. براندو ظهر في دقائق قليلة من الزمن السينمائي في فلم «القيامة الآن» لكن المتفرج يستطيع أن يشعر بحضوره في كل كادر من الفلم. كذلك دي نيرو في Untouchables حيث يكون حضوره الطاغي محسوسًا طوال الفلم على الرغم من غيابه.
التماثلات أو المقارنات بينهما تتخطى حدود الشاشة وطرائق معالجة الشخصيات والتعبير عنها، لتمتد إلى مظاهر معينة ومحدّدة من السلوك الشخصي يقال: إن كثيرًا من المخرجين يرفضون العمل معهما لصعوبة التعامل معهما وترويضهما. التأويل المباشر والتبريري، والعجرفة والغرور، والمطالب اللحوحة غير المنطقية. لكن التأويل الحقيقي للخلاف يكمن في رغبة هذين الممثلين العظيمين في بلوغ الكمال، الذي يقتضي بالضرورة الحرص إلى حد الوسوسة، ومعرفة كل التفصيلات وأدقها بشأن الشخصية وعلاقاتها، ليس بالشخصيات الأخرى فحسب، بل بالعناصر الفنية أيضًا من كاميرا وإضاءة ومكياج.
وهما يشتركان أيضًا في كراهيتهما، أو عدم ثقتهما بالنجومية والأضواء والوسائل الدعائية، مفضّلين النأي والعزلة، معمقين بذلك الغموض الذي يحيط بهما. كلاهما لغز.
لقد أشار دي نيرو في مواضع عديدة إلى التأثير القوي الذي مارسه براندو عليه في بداية حياته الفنية. ومن اللافت أن نلحظ هذا الارتباط، أو هذه العلاقة غير المباشرة، متجلية في الوسط نفسه: الفيلم. في الجزء الأول من «الأب الروحي» جسّد براندو شخصية فيتو كورليوني، عرّاب المافيا، في مرحلة الشيخوخة، وعنه نال جائزة الأوسكار. في الجزء الثاني، جسّد دي نيرو الشخصية ذاتها لكن في مرحلة الشباب، مصوّرًا شباب براندو السينمائي، وعن دوره هذا حاز جائزة الأوسكار. أما في فلم The Raging Bull فقد وجّه دي نيرو إلى براندو ما يشبه التحية، أو ما يشبه الاعتراف بالفضل، حين كان يخاطب نفسه أمام المرآة مردّدًا حوار براندو في فلمه «على رصيف الميناء» On The Water Front.
شخصيات تمتلك واقعها الخاص
عبر عملية التحضير والبحث الطويلة الشاقة، يسعى إلى خلق شخصيات تمتلك واقعها الخاص وتميّزها ومصداقيتها. مثل هذا الاندماج الكلي، والمحاولة الصارمة لبلوغ الكمال، وعملية الاستقصاء المضنية والموجعة، لابد أنها ترهق وتستنزف كثيرًا من ذاته. ودي نيرو يعترف بذلك: «كل شخصية أمثلها تستنزف قدرًا كبيرًا من ذاتي. فيما بعد ينتابني إحساس بالفقد بأني فقدت شيئًا، وهذا الإحساس لا يزول إلا حين أبدأ من جديد في الحفر باحثًا عن الشخصية التالية».
هو لا يصبح الشخصية في أثناء التصوير فقط، بل خارج الموقع أيضًا.. في بيته، مع أصدقائه ومعارفه، مع الآخرين. إنه يتصرف كالشخصية التي يجسدها أمام الكاميرا. ابنة جاك لاموتا (الملاكم الذي مثّل شخصيته في الثور الهائج) تتذكر يوم تناول دي نيرو الغداء معهم، وفي لحظة معيّنة بدأ دي نيرو في انتقادها وتوبيخها بقسوةٍ، تمامًا مثلما يتصرف والدها معها في مثل هذه المواقف. بدا كما لو أنه تقمّص شخصية والدها كليًّا. شعرت بأنها ليست أمام دي نيرو الممثّل بل الأب الفعلي، والانتقاد الجارح دفعها إلى الخروج من الحجرة وهي تبكي. عملية التحضير والبحث أثمرت أدوارًا رائعة وناجحة، وكرّسته كواحد من أكثر الممثلين تفانيًا وجديّة وإبداعًا، وكان لمنهجه مفعول إيجابي وتأثير قوي في الجيل اللاحق من الممثلين الشباب الذين اتبعوا طريقة مماثلة في البحث والإعداد.
من جانب آخر، تثير عملية التحضير والبحث عند دي نيرو ذعر المحيطين به والمتعاونين معه. يعبّر أحد كتّاب السيناريو عن خوفه على دي نيرو، فيقول: «لو طُلب منه أن يمثّل شخصية رجل أكتع فلن يتردّد في بتر يده». وقال المخرج آلان باركر: «لست واثقًا من أنني أستطيع إسناد دور رئيس له في عمل قادم. ستكون بلا شك تجربة مرهقة إلى أبعد حد. كان دي نيرو، على رغم قصر دوره في (Angel Heart)، يطرح باستمرار كثيرًا من الأسئلة في موقع التصوير، ثم يتصل بي هاتفيًّا كل يوم مقترحًا أفكارًا واحتمالات جديدة. استغراقه في العمل لم يكن اعتياديًّا على الإطلاق».
أما جورج أولد، عازف الجاز الشهير، الذي عمل مستشارًا فنيًّا في فلم «نيويورك نيويورك»، وساعد دي نيرو على تعلّم العزف على الساكسفون، فقد قال: «كان يطرح عليّ عشرة ملايين سؤال في اليوم. كان ذلك مزعجًا وموجعًا بالنسبة لي».
كن مقامرًا
في بداياته، لم يعتمد دي نيرو على وكيل أعمال يتولى شؤونه الفنية.. «عندما تبدأ، لا تعتمد على أحد. كن مقامرًا. لن تعرف شيئًا ما لم تجازف وتجرّب.. بالتجربة تستطيع أن تحقّق ما ترغب في فعله». من شوارع وأحياء المدينة التي عاش فيها، من الناس الذين اختلط بهم وعاشرهم، من الشخصيات التي رصدها واختزنها في ذاكرته، استمد الأصوات والحركات والإيماءات والتصرفات.. «أنظر دائمًا إلى كل ما يقع تحت بصري ويدور أمامي. الشيء المهم هو أن تحدّق مليًّا وتتأمل وتفكّر. أحيانًا أدوّن أفكاري. عندما تكرّس وقتك لذلك، حتى لو كانت العملية مضجرة، سوف تكتشف أنك قمت بتغطية كل الاحتمالات، وكل الأشياء الممكنة، ولن تصادف مشقة في الاختيار».
هل يستطيع دي نيرو أن يقيّم أفلامه؟ الفلم مجرد محطة في رحلة طويلة مضنية، ومثمرة وغنيّة بالتجارب. إنه ينتقل من محطة إلى أخرى بلا توقف، وكل محطة تنتزع جزءًا من ذاته.. «لا أحب أن أشاهد أفلامي. عندما أفعل، يغلبني النعاس. أفضّل أن أشاهدها بعد عشر أو خمس عشرة سنة؛ لأنني عندئذ أكون منفصلًا عنها، مستقلًا منها، وأستطيع رؤيتها على نحو أفضل».
بواسطة أمين صالح - كاتب و ناقد سينمائي بحريني | يوليو 5, 2016 | سينما, فنون
خلال عقدين من المسيرة الفنية الخصبة والثرية، قدّم المخرج مارك فورستر السويسري المولد والنشأة، بدءًا من عام 1995م عشرة أفلام ناجحة، متعددة النوعيات، مختلفة الأساليب، تنتمي إلى الأنواع الدرامية النفسية، والسياسية، والكوميدية، والإثارة البوليسية أو الجاسوسية.. متعاونًا مع كبار نجوم السينما الأميركية، وكاشفًا من خلالها عن موهبة جديرة بالمتابعة والاهتمام، رغم أنه –حسب عدد من النقاد– يفتقر إلى الرؤية الفنية والفكرية التي من خلالها يشيّد عالمه الخاص والمميز.
عن هذا الانتقال من نوعية إلى أخرى، دون الاستقرار عند نوعية محددة، وما إذا كان هذا التنقّل مقصودًا؛ أجاب مارك فورستر: «نعم، هو مقصود. مخرجون مثل بيلي وايلدر وهوارد هوكس كانا مصدر إلهام لي، في هذا الشأن. كلاهما عمل في العديد من الأفلام التي تنتمي إلى نوعيات مختلفة. لا أستطيع أن أكون مثل جون فورد وأحقق أفلام الغرب الأميركي فقط، أو مثل هيتشكوك الذي ركّز على أفلام التشويق. لديّ اهتمام بالعديد من القصص. أميل إلى القصص الفكاهية والدرامية والأكشن».
منذ مرحلة صباه شعر برغبة جارفة في أن يصبح مخرجًا سينمائيًّا، خصوصًا بعد مشاهدته فلم كوبولا «القيامة الآن».. يقول: «كنت في الخامسة عشرة عندما أخذني والداي إلى السينما لمشاهدة «القيامة الآن». جلست أشاهد الفلم وأنا مصعوق وفي حالة ذهول. ولما خرجنا من الصالة، قلت لهما: سوف أصبح مخرجًا سينمائيًّا. اعتقدا أنها مجرد نزوة وسوف تزول بعد فترة. غير أنني لم أتخلّ عن طموحي. عندما أنهيت المرحلة الثانوية، التقيت شخصًا أبدى استعداده لأن يتحمل رسوم السنة الأولى لي في معهد السينما، وأنه سوف يواصل دفع رسوم السنوات التالية إذا تيقّن من امتلاكي الموهبة».
حقق نجاحًا فنيًّا منذ فلمه الأول Everything Put Together (1995م)، ذي الطابع التجريبي، الذي بلغت تكلفة إنتاجه عشرة آلاف دولار، عندما فاز بجائزة الجمهور في مهرجان ساندانس. يقول: «كنت مشاركًا بفلمي الأول في مهرجان ساندانس عندما التقيت أشخاصًا كتبوا سيناريو Monster’s Ball لكن لم يتمكنوا من تنفيذه مدة سنتين. بعد أن شاهدوا فلمي قالوا لي: ها هو نصنا. كم تحتاج في اعتقادك؛ لإنجاز هذا العمل؟.. قلت: ربما ثلاثة ملايين. ثم جاءت شركة الإنتاج، وأجازت لي صنع الفلم بشرط ألا تتجاوز ميزانية العمل المبلغ الذي حدّدته».
استطاع فورستر أن يحقق Monster’s Ball ويلفت الأنظار إليه كطاقة إخراجية جيدة، خصوصًا بعد أن حازت هالي بيري على أوسكار أفضل ممثلة عن دورها في الفلم.
ثم توالت أفلامه الناجحة فنيًّا وجماهيريًّا: Finding Neverland (2004م) مع جوني ديب الذي يؤدي دور الكاتب المسرحي الأسكتلندي جيمس باري، مبتكر شخصية بيتر بان، الصبي الذي لا يكبر أبدًا. الفلم يركز على علاقته الحميمة والودودة بأرملة (كيت وينسليت) وأبنائها الأربعة الصغار الذين معهم يحب أن يلهو، ويشحذ مخيلتهم بشخصيات وحكايات ومغامرات لا تنتهي، خالقًا لهم عوالم مدهشة، ومانحًا حياتهم البهجة والمعنى.
عن السبب الذي جعله يحقق هذا الفلم، يقول فورستر: «قرأت السيناريو الذي حرّك مشاعري إلى حد البكاء. لقد ذكّرتني القصة بطفولتي في سويسرا. كنت أمارس تلك الألعاب الصغيرة في الغابات، وكنت أرتدي أزياء الهنود الحمر ورعاة البقر. لم يكن لدي الكثير من الأصدقاء، لذلك كانت المخيلة وسيلتي للهروب من الواقع.. هي التي منحتني السعادة والمتعة. قرأت النص وصممت على تنفيذه».
مع نعومي واتس، وإيوان ماكغريغور، وريان غوسلينغ؛ حقق فورستر فلم Stay (2005م) الذي يصور العالم الواقعي بين النوم واليقظة، الحلم والواقع، الحياة والموت. حادث سيارة مريع يتعرّض له شاب مريض نفسيًّا يتحوّل هذا الحادث إلى مفجّر لسلسلة من التداعيات وحالات الهذيان، وتشابك الهوايات، والتداخلات المعقدة التي لا يحكمها منطق أو خط عقلاني، ضمن أجواء سُريالية.
ثم قدّم Stranger Than Fiction (2006م) مع ويل فيريل، داستين هوفمان.. في دراما فانتازية عن علاقة الشخصية بمؤلفها، أو الإنسان بخالقه، بحيث يصعب التمييز بين الواقع والرواية، أو الحقيقة والخيال. يومًا ما يستمع ويل فيريل إلى صوت امرأة (كاتبة معروفة) وهي تسرد تفاصيل من حياته، الأمر الذي يذهله ويثير حيرته وفضوله، فيبدأ في طرح الأسئلة التي تتصل بوجوده.
ومن الوضع الأفغاني انطلق إلى عوالم جيمس بوند الجاسوسية، المليئة بالإثارة والمطاردات، في فلم Quantum of Solace عن هذه التجربة يقول: «عملت هنا مع أفضل وأروع المنتجين. شعرت بأنني بين أيدٍ أمينة. كل شيء كان متوافرًا باستثناء السيناريو الذي كان ناقصًا، ولم يكتمل بعد لحظة مباشرتنا التصوير. كان لدينا نصف السيناريو فقط. قالوا لي: لديك أشهر لتنهي هذا الفلم. من المفترض هنا أن أرفض لكنني اعتقدت أن السيناريو سوف يجهز قريبًا فيما أصور المشاهد المتوافرة لدي. غير أن ذلك لم يحدث أبدًا. وصلتُ إلى مرحلة فكرت فيها بالانسحاب، لكنني لم أفعل. بل أنجزت الفلم بدعم من المنتجين. وقد أسعدتني النتيجة حقًّا. عمل إثاري مليء بالحركة، وبإيقاع سريع جدًّا».
أما آخر أفلامه فهو World War Z مع براد بيت، وهو من النوع الكوارثي الذي يتعرض إلى احتمال فناء العالم. يقول مارك فورستر: «أحببت الرواية، رغم أنها تحتوي على 54 قصة منفصلة عن بعضها. الفلم هو أكثر من مجرد قطعة مصاحبة للرواية. لقد حققت الفلم كما كنت أريد بالضبط؛ لذلك أسعدتني النتيجة. قبل كل شيء، أعتقد أن الزومبي (الموتى الأحياء) مجاز سينمائي عظيم. أشعر أن هناك إفراطًا في إنتاج أفلام عن الزومبي، والجمهور يتلقى المزيد من هذه القصص، سواء من خلال السينما أو التلفزيون. لذلك أردت أن أحقق نوعية مختلفة من أفلام الزومبي، لا تشبه هذه الموجة السائدة من الأفلام. أردت أن أخلق الزومبي الخاص بي. أردت أن أشدّ أعصاب الجمهور من البداية إلى النهاية. أردت أن أخلق مجازًا يعكس حالة العالم في اللحظة الراهنة. نحن نكون أشبه بالزومبي عندما لا نعي ما يدور من حولنا. إننا نعيش في زمن هشّ جدًّا فيما يتصل بالاقتصاد والبيئة. نبدو كما لو كنا معلقين بخيط رفيع.
شخصيًّا أنا مفعم بالأمل دائمًا، وأومن بالإنسانية، لكن يتعيّن علينا أن ندرك أن النظم التي وضعناها في الموضع الملائم لم تعد صالحة. علينا أن نعيد التفكير في أمور كثيرة، وأن نكف عن الاعتقاد بأن الرأسمالية هي الحل لكل شيء. ينبغي أن نجد طريقة للعمل معًا. أظن أن من المهم للسينمائيين أن يبتكروا قصصًا تثير النقاش وتحث على الجدال. ربما لا نستطيع أن نغيّر شيئًا لكننا نستطيع أن نجعل الناس يتحدثون عن القضايا التي نطرحها».
عندما طلبت مجلة Movie Maker من مارك فورستر أن يكشف قوانينه الذهبية في صنع الأفلام، وجّه النصائح الآتية، المنشورة في عدد سبتمبر 2013م:
أولًا- عندما نتحدث عن الحياة، فإننا نتحدث عن التدفق السلس الرشيق.. كذلك هي عملية سرد القصة. عندما نتحدث عن صنع الأفلام، فإننا نتحدث عن الاكتشاف ضمن الكلمة المكتوبة، التي لا يمكن إيجادها عندما تكون ملفوظة. البؤرة الرئيسية ينبغي أن تكون دومًا مركّزة على مواصلة البحث عما هو غير مرئي، والاستمرار في النضال من أجل خلق صورة تتخطى الكلمات.
ثانيًا- كمخرج سينمائي أنا دائمًا في حالة بحث عن السحر، لكن يتعيّن على المرء قبول فكرة أن على السحر أن يحدث عضويًّا. كل ما عليك فعله هو أن تضع الأساس. في حالتي، أحاول أن أكون في حالة كينونة وإدراك تام، والذي قد يأخذني فوق حقل الأفكار والأحاسيس والكلمات.. كل هذه الأشياء التي آمل أن تأسرها العدسات.
ثالثًا- السرد مرشد ودليل. لكن لا تدع السرد يصبح عينيك، ففي هذه الحالة يصبح كابوسًا لا تستطيع الفرار منه. سوف يعمي طاقتك على خلق رؤية أصيلة وحقيقية. جوهريًّا، رواية القصة هي تحديدًا محاولة أن تجد حقيقتك، وصدقك، وأصالتك.
رابعًا- انظر إلى عيني الممثل الذي تعمل معه، وتأمل إن كانت عيناه تذكّرك بأشياء كنت قد نسيتها. استمع إلى كل شخص، وفي الوقت نفسه، لا تستمع إلى أحد.. ربما يعرفون شيئًا أنت لا تعرفه. كن منفتحًا ومرنًا لتتلقى بينما لا تزال تدع رؤيتك ترشدك، وليس غرورك.
خامسًا- كل مرّة أحقق فيها فلمًا، يكون ذلك أشبه بالقفز للمرة الأولى. حاول أن تصبح قصتك، وارقص معها. تمتّع بالرحلة. إنها رحلة ثريّة.
سادسًا- دائمًا ثمة أوقات أشعر خلالها بأني أشبه رجلًا أعمى يحاول أن يتعلّم السير عبْر حيّزه الخاص من دون أن يرتطم بالأثاث في بحثه عن مقبض الباب. إن من المستحيل التدرّب لهذه اللحظة. على نحو محتوم، شرعت في تحسس طريقي حتى النهاية، وفي إيجاد الوئام ضمن الوضع الذي أكون فيه، وفهم الفرص التي تسنح لي في كل ظرف.
سابعًا- حاول دائمًا أن تتذكّر أن رواية القصص هي الشكل الأكثر قِدمًا من أشكال الاتصال. لقد تم سرد كل القصص، لم تعد هناك قصص أصلية أو جديدة. إن ما سوف يبقى دائمًا هو تلك الطاقة التي تتخلّق في عملية رواية القصص. وكلما كانت هذه العملية أكثر موثوقيةً وصدقًا؛ أضحت ملهمة أكثر للآخرين.
ثامنًا- الناس يميلون إلى نسيان مدى أهمية المصوّر السينمائي. نحن نعمل في وسط بصري، ومن ثم أنت لن تحصل على فلم من غير أن تتوافر لديك الصور.
عدّاء الطيارة والوضع الأفغاني القمعي
The Kite Runner (2007م) عن رواية الكاتب الأفغاني خالد حسيني، التي تتناول الوضع الأفغاني القمعي تحت سيطرة قوات طالبان، مما دفع الآلاف للهجرة والعيش في غربة صعبة. عن هذا الفلم، الذي شكّل تحديًا له، يقول: «قرأت الرواية.. في الواقع، قرأت المخطوطة قبل أن تُطبع في كتاب. قلت للمنتجين: أحببت الرواية، ينبغي أن نصورها بلغتها الأصلية وبلا نجوم.. وافق المنتجون، لكننا لم نحصل على التمويل إلا بعد أن تصدرت الرواية قائمة أعلى المبيعات.
يمكنني القول: إنه من أكثر أفلامي تعقيدًا وصعوبة من ناحية التصوير. لقد صورنا الفلم في غربي الصين، في منطقة تسكنها جماعات متنازعة، بينها الكثير من التوتر والتضارب الذي يصل إلى حد النزاع المسلح. المنطقة مرتفعة عن سطح الأرض، ويبلغ ارتفاعها 15 ألف قدم تقريبًا. مثل هذا الارتفاع أدى إلى مرض عدد من العاملين معنا. كنا نعمل في ظروف صعبة جدًّا، وننام في خيام جلدية، ومحرومين من الاستحمام، وأحيانًا تتعطّل الشاحنات فلا يصل الطعام إلينا. ذات مرة تعطل كابح السيارة التي تقل بعض الممثلين، وكادت تسقط من قمة منحدر. والفندق الذي أقمنا فيه كان ماخورًا. في الواقع لم يكن هناك أي فنادق حقيقية في تلك المنطقة. والجرذان كانت في كل مكان.
ذات مرة أردنا أن نصور في إستاد رياضي مشهد الرجم، غير أن القوات الصينية خشيت من حدوث شغب مع وجود أكثر من ألف عنصر من المجاميع في مكان واحد. وقبل التصوير، في السادسة صباحًا، أحاطت المدرعات بنا، وهددونا بالاعتقال إذا باشرنا التصوير.. هكذا كنا نواجه المصاعب والمشاكل يوميًّا».