السرد وغايته في النوفيلا . . . . . . ترجمة: خيري دومة
هدف هذه الدراسة هو تعريف النوفيلّا Novella شكلًا سرديًّا مستقلًّا بذاته. وقليل هو النقد المعاصر الذي تَوجّه إلى دراسة النوفيلّا، رغم أن الحاجة إلى تفرقة نوعية واضحة أمر بديهي في غمار الاستخدام الشائع والمرتبك للمصطلح(1). والظاهرة اللافتة في الخمسينيات والستينيات هي تزايد الاهتمام بالنوفيلّا بين الجمهور والناشرين، والرغبة المتجددة في استخدام المصطلح؛ فقد أُعلِن مثلًا عن فلم «وداعًا كولومبوس» بأنه اقتباس للنوفيلّا التي كتبها روث Roth بالعنوان نفسه، وتشير الأعداد المتزايدة من كتب المختارات، ودراسات النوع في المعاهد العلمية، إلى أن النوفيلّا باتت أكثر شعبية. غير أننا ولسوء الحظ نستخدم مصطلحات «النوفيلّا»، و«النوفيلّيت»، و«الرواية القصيرة» بمعنى واحد، وهذا خلط سيئ؛ لأن الرواية القصيرة نسخة مصغَّرة من النوع القصصي المسمَّى «رواية»، بينما «النوفيلّا » شكل أدبي مختلف، يتماثل عرَضًا مع الرواية القصيرة في طولها فحسب. ولأننا في البلدان التي تتحدث الإنجليزية نفتقر إلى مصطلح مستقرّ، فإننا نستخدم مصطلحات متعددة وغامضة نشير بها إلى هذا الشكل الأدبي، ولا نميل كذلك إلى التفرقة بين ما هو قصة قصيرة وما هو نوفيلّا، وبين ما هو رواية قصيرة وما هو نوفيلّا.
حتى وقت قريب، كان مصطلح النوفيلّا نادرًا ما يستخدم، إلا في شكله الألماني novelle، وكانت الإشارة هنا إلى أعمال ألمانية من هذا النوع، أو في شكله الفرنسي nouvelle، لدى كتاب مرموقين مثل هنري جيمس ممن يدركون الكتابة الأوربية فضلًا عن الكتابة الإنجليزية. وباستثناء الدارسين الألمان، لم تكن هناك إلا مصادر قليلة متخصصة وقيِّمة بالنسبة للدارس الأميركي الذي يودّ أن يتزوّد بمعلومات عن التراث النوعي للنوفيلّا. غير أن النوفيلّا كان يكتبها كذلك كتاب إنجليز وأميركان وإسبان وإيطاليون وروس، وعلى نحو مستمر منذ أواسط القرن التاسع عشر حتى وقتنا الحالي، وكانت النوفيلّا أقل ما تكون في فرنسا، وأكثر ما تكون في ألمانيا.
لم تُدرَس النوفيلّا كثيرًا خارج ألمانيا، غير أن ذلك لم يكن بالضرورة نتيجة للجهل؛ فقصة «الموت في البندقية» لتوماس مان، التي عادة ما أُطلِقَ عليها «نوفيلّا»، لم تُدرَس كشكل أدبي قط، حتى في ألمانيا؛ حيث كانت النوفيلّا –كشكل أدبي مستقل– بمنزلة مفهوم راسخ. وقد جاءت القصة في المختارات الأميركية تحت مسمّى «رواية قصيرة»، وهو ما يتعارض مع تصميمها من حيث الشكل. القصة معروفة جدًّا، لكن الاهتمام النقدي ينصبّ على تأويلها (تلك المضامين الفلسفية مثلًا التي ترتبط ببقية أفكار توماس مان). وهكذا، فإن عملًا أدبيًّا له مثل هذه القيمة الفنية الرفيعة، وكتبه رجل شديد الوعي بالتراث الأدبي، لم يُدرَس من حيث هو شكل أدبي.
إهمال النوفيلا في أميركا
كان أحد أسباب إهمال النوفيلّا في أميركا قائمًا على مصادفة لغوية؛ فالمصطلحات المستخدمة للدلالة على الأشكال القصصية، تطوَّرت من دون أن تعطينا تسمية مستقلة لنوع النوفيلّا. إن خريطة الكلمات المعروفة في لغات مختلفة، ستوضح أن الإنجليزية، وكذلك الإسبانية، تفتقر الآن إلى كلمة موجودة في لغات أخرى(2):
لقد كنا معنيين في أميركا بالتفرقة النوعية بين الرومانس والرواية، وهي المشكلة التي لم تهتم بها البلدان الأخرى. وكانت الإنجليزية والفرنسية في الحقيقة هما اللغتان الوحيدتان اللتان أصابهما تشوُّشٌ فيما يتصل بتسمية القص الطويل، أما اللغات الأخرى فلم تستخدم إلا صورة من كلمة Roman؛ ففي الروسية والألمانية والإيطالية، تشير هذه اللغات نفسها إلى اهتمام المتكلم بالفروق بين الأشكال القصصية، حيث تمتلك مصطلحات أكثر من الإنجليزية والإسبانية. لقد أخذنا كلمة Novel التي ترتبط بكلمات Nouvelle وNovelle وNovella، واستخدمنا الكلمة للإشارة إلى صنف الرواية Roman. ولكي نسد الثغرة القائمة في مصطلحات النوفيلّا، استخدمنا مصطلح «رواية قصيرة» Short Novel الذي يتنكر للتفرقة النوعية، ويتضمن فقط معنى أن الشكل أقصر، لكنه فيما عدا ذلك يعمل وفقًا لقوانين الصياغة نفسها الموجودة في الرواية. وكان خيارنا الآخر هو مصطلح Novelette الذي ينطوي على الفكرة نفسها، لكنه يتضمن كذلك إيحاءً بالازدراء. ويفضل بعض النقاد عليه مصطلح «رواية قصيرة»، بما أنه هو المصطلح المستخدم الآن(3) ومع ذلك، وكخطوة أولى لشرح الفارق النوعي، سنستخدم خلال دراستنا هذه المصطلح الذي أصبح إنجليزيًّا، مصطلح «نوفيلّا» Novella؛ فقد حان الوقت لكي نُحيي مصطلحًا نافعًا، ونضع قائمة بالمفردات المفيدة لنا.
خلال ازدهار الواقعية، أصبح مصطلح «الرومانس» ذا دلالة سلبية، ومصطلح «النوفيلّا» ذا دلالة إيجابية، وكان من يتحمس لأحدهما يبتعد من الآخر، وهكذا فقدنا مصطلح «الرومانس» الذي كان له ما يوازيه في اللغات الأوربية الأخرى. لقد تبدّل مصطلح الرواية Novel، لكن مع بقاء مركز ثابت يقوم على الواقعية، أما النوفيلّا فكانت هي المصطلح الإنجليزي في القرن الثامن عشر. كان مصطلح الرواية هو الغالب لقرن واحد فقط، ويجب ألّا نسمح لأنفسنا بأن نشدّ على أعيننا عصابات عمرها قرن واحد فحسب. علينا أن نقبل ذلك المصطلح الذي بات مألوفًا بين الجمهور أكثر فأكثر، كما أنه كان مصطلحًا له معناه ذات مرة في العالم المتحدث بالإنجليزية. وحيث إننا نستخدم مصطلح conto في الإنجليزية، ونجمعه على contos، فإننا يمكن أن نسمي نمطًا معينًا من القص novella، ونجمعه على novellas. ولهذه التفرقة أيضًا ميزة الإبقاء على مصطلح «رواية قصيرة»، كتسمية تختص بأعمال قصيرة تنتمي نوعيًّا إلى فصيلة الرواية.
وكما يشير عنوان كتابنا هذا، فإن الأساس الذي يقوم عليه تعريفنا للنوع هو المقصد السردي Gestaltungsziel. وتقوم نظريتي على افتراض مؤداه أن كل شكل سردي له مناهجه الخاصة في تطور الحدث، وله طريقته الخاصة في تطوير أو تشكيل مادته القصصية.. وهذا يعني على العموم أن طريقة الرواية في اختيار مادتها تختلف عن طريقة القصة القصيرة؛ ذلك أن المقصد السردي للرواية هو التوسيع، بينما يكون التضييق هو مقصد القصة القصيرة. وتختلف تقنيات النوفيلّا في اختيار مادتها عن تقنيات هذين النوعين القصصيين؛ لأن مقصدها السردي هو ضغط المادة، بالطريقة التي ستُحَدَّد هنا. سأحاول شرح هذه الأفكار العامة على مدار هذه الدراسة؛ لأننا لا نملك تعريفًا لنوع معين ما لم ندرك نوعية تشكيل المادة، وندرك المقصد السردي القارّ في الأشكال السردية في المرحلة الحالية من تطورها.
ورغم أن مصطلح «نوع» Genre يستخدم أحيانًا للدلالة على فصائل فرعية من الأشكال الأدبية، مثل: الرواية العاطفية، أو رواية التطور Entwicklungsroman، أو النوفيلّا الكلاسيكية، أو النوفيلّا الرومانتيكية.. إلخ، فإنني سأقصر مصطلح «النوع» هنا على أنماط القص الكبرى: القصة القصيرة، والنوفيلّا، والرواية. والنوفيلّا هي موضوع هذه الدراسة، غير أن الدراسة ستتضمن أنواعًا قصصية أخرى؛ لبيان التقابل، ولتمييز المقصد السردي في كل نوع من هذه الأنواع.
النقد والغاية والسردية
المدخل الذي أقترحه هنا، يقوم على فكرة مؤداها أن الأنواع لا يمكن فهمها على نحو دالّ، ما لم تكن المسميات النوعية تدل ضمنًا على أنماط مختلفة من الشكل القصصي. حتى الآن، لم يتجه نقد النوع إلى تأمل الغاية السردية، إنما أسّس عمله بدلًا من ذلك، على تلك التقنيات التي ارتبطت تاريخيًّا بكل نوع، أو على الموضوعات التي سادت النوع. وكلا هذين المدخلين النقديين قد يكون مفيدًا، وبخاصة في دراسة أنواع مستقرة، لكن لا التقنيات ولا الموضوعات يمكن أن تكون مفيدة في التمييز بين أنواع القص.
لم تفشل هذه المداخل في إضاءة الأعمال المتميزة فحسب، بل إنها وضعت دارسي النوفيلّا على وجه الخصوص على طريق مسدود، وسوف نجد مناقشة كاملة لفشل تلك المداخل إلى النوفيلّا في الفصل التالي، كما أن ملحق الكتاب يقدم عرضًا تاريخيًّا مختصرًا لنقد النوفيلّا، ويقدم ملخصًا للسمات التي جعلها النقاد الألمان سمات أساسية للنوفيلّا في نهاية القرن التاسع عشر.
لقد تعلمنا لبعض الوقت، أن الأنواع يمكن أن تتمايز من خلال اختيارها لمادتها القصصية، أو من خلال موضوعها، أو من خلال التسمية. وكانت تلك وسائل غير مقنعة في تعريف النوع؛ ذلك أن ما يعطينا سمات نوعية دالة تختص بها أنماط مختلفة من المنجز الأدبي، هو نوعية تناول الموضوع، وليس الموضوع في حد ذاته. إن الحرب يمكن أن تكون موضوعًا لأي نوع أدبي، لكن التناول المختلف لهذا الموضوع هو الذي يؤدي إلى تشكيلات أو أشكال أدبية مختلفة. والأشكال الثابتة نسبيًّا، مثل المرثية أو القصيدة الرعوية، يمكن تعريفها جزئيًّا من خلال موضوعها، لكن مسائل متعلقة بالنغمة أو التناول يجب أن تضاف إلى التعريف من خلال الموضوع. وعلى كل حال، يجب أن تتضمن التفرقة بين نوع وآخر ملاحظةً لأسلوب النوع في تناول الموضوع، وبخاصة بالنسبة لأنواع القص.
ويؤكد روبرت شولز Scholes أن القراءة والكتابة كلتيهما عملية نوعية generic؛ فالكاتب لا يتصور فكرته إلا في سياق ما تم فعلًا(4)، والقارئ يتلقى السمات النوعية في العمل، ويدرك الشكل ويستجيب له في سياقه الخاص؛ لأنه يعرف –من السمات النوعية– ما إذا كان المقصود من البطل تقديم سمات بطولية، أم دفع القارئ إلى تفسير العمل أو أجزاء منه تفسيرًا قائمًا على المفارقة.. وهلُمَّ جرًّا. وأنا أضيف هنا أن القارئ يستجيب للعمل في إطار الهدف السردي الذي يدركه عبر خبرته بأنواع متعددة. إن دراسة النوع يمكنها –من خلال معاونة القارئ على فهم تميز الأشكال المختلفة– أن تنجز هدفها، الذي يحدده شولز كما يلي: «إنتاج استجابات تلائم الأعمال الأدبية» (ص 111).
ورغم أنني أتفق مع هذه الأطروحات النظرية، فإنني أختلف مع شولز في تطبيق هذا المفهوم؛ فنموذج النقد النوعي عنده تمثله المقالة التي يقدم بها ديلوفر Deloffre وبيكارد Picard لـنوفيلّا «مانون ليسكاوت»(5) Manon Lescaut، وعنوان المقالة: «مصادر الأدب وتاريخ النوع». ومهما يكن من أمر، فإن الخصائص النوعية المشار إليها في هذه المقالة، ليست خصائص «نوعية» بمعنى الكلمة؛ فهي كما يوجزها شولز:
1- إطار الحكاية.
2- حضور الراوي الذي يعطي شخصيته صدى للأسلوب، فيؤثر في نسيجه بشدة.
3- تطور النثر القصصي الذي له صلة بالمحاورة.
4- اختيار الشخصيات العادية.
5- الدقة في تقديم التواريخ والمواضع والأساليب.
6- معقولية الأحداث (ص 110-111).
ورأيي في هذا المدخل لدراسة النوع، أنه برغم إشارته إلى السوابق التاريخية في النوع، يفشل في تقدير الهدف الذي من أجله استُخدِمت تقنياتٌ معينة؛ ومن ثم فإنه لا يأخذ بيدنا إلى فهم أهميتها النسبية، أو إلى القدرة على تمييز الاختلافات، من حيث دورها في سياقات نوعية متباينة. إن وجود سمات من مسيرة الحياة العادية، لا يمكن أن تكون له أية دلالة نوعية، برغم أنه يحدد ما يقصده المؤلف في إطار بنية نوعية ما. ولقد ظلت مشكلة البنية النوعية بلا حل في كل الأحوال، ولم يحل مؤلِّفا المقالة المشكلةَ بإطلاق اسم «تاريخ» على «مانون ليسكاوت»؛ ذلك أنهما لم يميزا ذلك النوع عن الرواية، فما أشارا إليه هو تقليد من تقاليد (ما يشبه التاريخ) في الأدب، واستخدام بريفوست Prévost لذلك التقليد. هذا ليس نقدًا نوعيًّا على أي حال؛ لأن الواقعية سمة لبعض القصص، وسمة كذلك لبعض الدراما وبعض الشعر، لكنها ليست مسمّى نوعيًّا لنمط واحد من أنماط الأدب. وحيث إن «مانون ليسكاوت» تقع في التراث النوعي للبيكاريسك، فإن النقد الذي يريد أن يلقي ضوءًا على «نوع»ـها، لا بد أن يدرس علاقتها -من حيث الشكل– بذلك النمط من الأنماط الروائية السابقة. والنظرية المطروحة في كتابي هذا، معنيَّة بشرح مشكلة «النوع»، التي لم يحلها بعد مثل هذا النوع من النقد.
لقد تأسس نقد النوفيلّا التقليدي في ألمانيا، ونهض على دراسة نوفيلّات ألمانية خاصة، والجزء الأكبر من هذا النقد كتبه كُتاب النوفيلّا أنفسهم خلال الفترة من 1830 إلى 1900م. ولقد واصل النقد الألماني المعاصر مقاربته للنوفيلّا، وهي مقاربة قائمة على نظرية زائفة للنوع، ويأتي زيف هذه النظرية من أنها لم تطرح حتى حلولًا جزئية، أو مجرد حلول مضللة، لمشكلات تعريف النوفيلّا؛ فمنهجها يأخذ سمات النوفيلّا من أعمال مكتوبة في الماضي، ويحكم على الأعمال الجديدة بناء على هذه السمات. ووفقًا لهذه النظرية، يتحتم على النوفيلّات الجديدة أن تترسّم خطا التقنيات الأساسية، التي لا تتضح أهميتها إلا في نسبة تكرارها إحصائيًّا. والسمات الثلاث الأكثر تكرارًا، التي يتم التركيز عليها، هي جدّة الحدث، ونقطة التحوّل اللافتة، والشخصيات التي تخضع لنموذج القدر. وهذا يقتضي أن تُصنَّف الأعمال وفقًا لتضمُّنها لهذه التقنيات، لكن دون أن يؤخذ في الاعتبار الطبيعة الجوهرية للنوع التي قد تتطلب مثل هذه التقنيات. لا أهمية للاتفاق حول أي السمات التي يجب أن توجد في العمل، ولا كيف توجد؛ لأنه لا أساس لهذه الأحكام إلا الإحصاء تاريخيًّا.
إنتاج الأثر نفسه
لا بد لنظرية النوع أن تكون نظرية وصفية. لكن لو أمكن الوصول إلى منهج متّسق، تكون به سماتٌ معينة مقبولةً على أسس تاريخية، فلن تكون هذه إلا ظواهر مؤقتة، مستخدمة حتى الآن لهدف جمالي غير محدد. وحيث إن مجمل سمات النوفيلّات المختلفة لا يساعدنا في الوصول إلى تعريف للنوفيلّا، بل يحصي فقط مجرد تكرار سمات معينة، فإنني معنيَّة هنا بتقديم تفسير لهذه التقنيات التي تقع بشكل متكرر. وحالما تحدَّدَ الهدف النوعي، أي غرض التشكيل السردي في النوفيلّا، ربما نجد لهذه السمات بعض الدلالة التي كانت مفتقدة. وإذا أمكن أن نوضح أن وظيفة أي تقنية تستخدمها النوفيلّا، هي إنتاج نفس الأثر دائمًا، فإن المقولات التقليدية قد تُستبعَد، وقد تُفهَم النوفيلّا عبر هدفها النوعي الجمالي، أو عبر غرضها السردي.
وقبل أن ندخل في دراسة «الأثر» الذي تتركه النوفيلّا، لا بد أن نوضح المفهوم كما نستخدمه هنا. إن كل الآثار الجمالية للسرد في عمومه، مثل التوسيع والتضييق، تختلف عن الآثار الأسلوبية داخل السرد. وسيصبح من البديهي خلال دراستنا هذه، ألا يكون للتقنيات الأسلوبية أهمية في ذاتها فيما يتعلق بالتفرقة النوعية. إن «جيد» Gide مثلًا يستخدم تقنيات خاصة لكي ينتج نوعًا معينًا من المفارقة، فقد يستخدم تقنية الإخبار عن الذات self-reporting؛ لكي ينتج الأثر الخاص ببوح الذات، وهو أثر قائم على المفارقة. وربما نلاحظ تنويعات هذه التقنية وآثارها الجمالية في أعمال «جيد»، لكن الالتفات إلى المفارقة بصفتها التقنية الجمالية الغالبة عند «جيد»، لن يساعدنا في فهم الاختلاف بين «المزيفون» Les faux monnayeurs و«السيمفونية الرعوية» La symphonie Pastorale، بوصفهما بنيتين سرديتين متمايزتين من حيث النوع؛ ذلك أن مفارقة «جيد» تسهم على نحو متفاوت في الأثر الكلي الذي يتركه كل عمل على حدة.
وعلى عكس الاتجاه العام السابق في نقد النوفيلّا، فإنه لا توجد تقنيات معينة يمكن أن تنسب إلى نوع سردي واحد؛ فالمفارقة لا تنتمي للرواية بشكل مطلق، وكذلك لا تنتمي «نقطة التحول» turning point إلى النوفيلّا وحدها. لهذا السبب لن تفضي دراسة التقنيات إلى فهم المخطط السردي للنوع. إن فهم المفارقة عند «جيد» لن يفضي إلا إلى فهم أعمال «جيد» بصفتها كينونات مستقلة، لكن وظيفة المفارقة في إطار التصميم العام، والأثر الكلي الذي تتركه في «المزيفون» يختلف عن وظيفة المفارقة، والأثر الكلي الذي تتركه في «السيمفونية الرعوية». وما لم نحلل كيف تؤدي التقنية دورها الحاكم في عمل أدبي ما، فإن وجود التقنية يظل لا علاقة له بالنوع. ولكن حالما نعرف الوظائف التي تؤديها التقنيات في سياقات محددة، سيعدّ هذا أساسًا للفروق والتعريفات النوعية.
في الوقت الذي تقوم فيه القصة القصيرة بتضييق المادة، وتقوم الرواية بتوسيعها، تقوم النوفيلّا بالدورين معًا، وبطريقة تؤدي إلى نوع مخصوص من البنية السردية. إنه نوع ينتج أثرًا مميزًا من الوجهة السردية، أثرًا مزدوجًا يجمع بين التكثيف والتوسيع. وحيث إن الموتيفات في نوفيلّا معينة، تكون في العادة جزءًا من مجموعة مترابطة من الثيمات، فإن نفس المادة تظل في البؤرة، بينما تتغير البؤرة المركزية للرواية. وعن طريق معالجة الثيمات بهذه الطريقة التي أسمِّيها «مركّب الثيمات»، تصبح كل الموتيفات في حالة علاقة متبادلة؛ وهو ما يسمح للنوفيلّا بأن تحقق تبئيرًا حادًّا ودائمًا على الموضوع. وفي الوقت نفسه، وحيث إن مهمة كل موتيف يوحَى بها ولا تُطَوَّر بوضوح، فإن النوفيلّا تظل على الدوام قصة قائمة على الإيحاء. وهذا الانطلاق من بؤرة محدودة إلى الخارج المتسع، هو الأثر الذي تتركه البنية النمطية لحبكة النوفيلّا؛ فالحدث في النوفيلّا لا يعطي الأثر الذي يعطيه التقدم المطّرد والنطاق المتسع الموجودان في الرواية، بل يعطي أثرًا ناتجًا عن نطاق محدود يُشرَح ويُكثَّف. وضغط الحدث يتم عامةً من خلال بنية تكرارية، لكننا سنرى أن التلاعب بتعاقب الأحداث، وتقنيات أخرى كذلك، تساعد الكُتّاب في تحقيق الأثر. إن استخدام البنية التكرارية يمكِّن المؤلف من إعادة تطوير الثيمات والمواقف التي كان قد طورها من قبل. وقد يتألف التكرار من مواقف متوازية، مضادة لتلك التي جرى تقديمها فعلًا، أو موتيفات متوازية، تعيد تقديم جوانب مختلفة من «مركّب الثيمات». يعمل مركّب الثيمات والبنية التكرارية معًا على ضغط المادة، ويوسعان من مهامّها في اللحظة نفسها؛ ففي الوقت الذي تتوافق فيه الحبكة مع التناول المكثَّف للموضوع، عبر التكرار وتقنيات أخرى، وبينما يدعم ترابط الموتيفات ذلك التكثيف، تقوم المهام غير المتطورة لمركّب الثيمات بتوسيع تلك المادة. وسوف أُخصّص فصلًا لكل من هذين التكنيكين: مركب الثيمات، والبنية التكرارية، وذلك حتى أوضح أنهما تكنيكان شائعان في كل الأعمال المدروسة هنا، وأنهما يؤديان الغرض نفسه؛ لأنهما ينتجان أثرًا سرديًّا مزدوجًا.
اكتشاف المخطط الذي يتشكل منه النوع
هدفي من وصف هذه التقنيات هو التركيز على وظيفتها؛ فعلى عكس المدخل القائم على السمات، تهدف نظريتي إلى اكتشاف المخطط الذي يتشكل منه النوع، وهو المخطط الذي يستدعي تقنيات معينة. وحين أختار مركّب الثيمات، والعمل البنائي المتكرر على موقف أو فكرة محدودة، فأنا لا أريد استبدال سمات جديدة بالسمات القديمة، إنما أود فقط أن أدرس التقنيات الثيمية والبنائية الحديثة الغالبة في صياغة النوفيلّا، كما أود أن أوضّح اعتباطية التوصيفات التقليدية للنوفيلّا فيما يتعلق بالموضوع وبناء الحبكة؛ فالسمات التي ميزناها هنا، وعددناها شيئًا مهمًّا في النوفيلّا، تُدرَس في ذاتها، ونظرًا لإسهامها في التشكيل السردي للنوفيلّا، وليس لمجرد أنها عناصر متكررة.
واقتراحي هنا مؤدّاه: أن المخطط السردي في النوفيلّا قائم على تشكيل السرد فيها بطريقة تفضي إلى أثر يقوم على التوسيع والتكثيف، وعلى نحو مجرد يسمح بالتعريف النوعي، وبمرونة قدر الإمكان فيما يتعلق بالجوانب التقنية من الصياغة. وبغض النظر عن التكتيك، وإذا كانت النوفيلّا الحديثة مختلفة في مخططها السردي عن الأشكال القصصية الأخرى، فإنه يمكن توصيفها بأنها تحليل مكثّف لنطاق محدود، مع مضامين موسعة وغير مطوّرة.
إن كل شكل قصصي، وهو يمتلك مخططاته التطورية الخاصة، يستخدم تقنيات في الاختيار تلائم هذه المخططات، إلا أن التقنيات نفسها لا تصلح للتفرقة بين الأنواع؛ فاختيار نوع معين يحدّ من قدرة المؤلف على استخدام مادته، ويفتح له في الوقت نفسه إمكانات قارّة في هذا النوع من التناول السردي. ولكي ندرك المقدرة السردية الخاصة بالنوفيلّا، لا بد أن نكون على دراية بالأثر الناتج عنها هي، لا عن أي شكل أدبي آخر؛ فكل تنظيم للمادة، أي كل شكل، يعطينا تأثيرًا جماليًّا كليًّا يختلف نوعيًّا عن تأثير الأنماط الأدبية الأخرى. إن تاريخ الرواية مثلًا يرصد تشابه الخبرة الجمالية، أو يرصد أن كل رواية تتناول كأنها نص مستقل. ومن الواضح أن القارئ لا يستجيب لأهداف الكاتب المحددة وحدها، بل يستجيب كذلك للنوع الأدبي. وهكذا تنطوي قراءة رواية معينة على مستويين من الاستجابة الجمالية كما يقول شولز؛ فالمرء يستجيب لفلوبير مثلًا، أو لهاردي، ويستجيب كذلك للقالب السردي الذي يراه قالبًا روائيًّا.
——————————————
هوامش:
* مقدمة كتاب: Judith Leibowitz, Narrative Purpose in the Novella, Mouton& Co.N.V, The Hague, Netherlands.
1) تعطينا كريشنا بالديف فايد Krishna Baldev Vaid أمثلة في كتابها «مدخل إلى التكنيك في حكايات هنري جيمس» 1964م.
2) هذه الخريطة اللغوية مأخوذة من مقالة غيرالد غيليسباي: Gerald Gillespie: Novella, Nouvelle, Novelle, short Novel. مراجعة للمصطلحات، مجلة اللغويات الجديدة، إبريل 1967م.
3) انظر على سبيل المثال كتاب دين. إس. فلاور Dean. S. Flower «ثماني روايات قصيرة»، نيويورك 1967م، حيث يؤكد أن لدى المحررين والنقاد ولعًا غامضًا بتسميتها «نوفيلات»، معتمدين على بوكاشيو، أو «نوفيلتات» وعلى جريدة ربات البيوت. أما الكلمة التي يجمع عليها الناس في أيامنا هذه فهي «رواية قصيرة»، وهي تسمية مضللة مثل معظم التسميات الأخرى، لكنها مُرضية. ومقالة ميلفين فيلهايم Melvin Felheim «المختارات الحديثة من النوفيلّا»، مجلة النوع Genre، مارس 1969م، توضح أن مصطلح «رواية قصيرة» أصبح المصطلح النوعي المستقر. أما هـ. م. وايدسون H.M. Waidson في مقالته «القصة القصيرة الألمانية نوعًا أدبيًّا»، مجلة اللغات الحديثة، XL، 1959م، فيصرّ على مصطلح «النوفيلّا».
4) نحو شعرية للقص، مدخل من خلال النوع، مجلة الرواية، العدد الثاني 1969م، ص 103.
5) «مانون ليسكاوت» نوفيلّا كتبها الكاتب الفرنسي أبي بريفوست Abee Prévost ، ونشرها عام 1731م، وكانت الجزء السابع والأخير من سلسلة «مذكرات ومغامرات رجل الجودة». كانت في زمنها عملًا أدبيًّا إشكاليًّا وجرى منعها في أعقاب نشرها في فرنسا، ومع ذلك سرعان ما صارت من ألمع الأعمال الأدبية وأكثرها انتشارًا.